السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شعراء الجزائر في عصر النهضة

شعراء الجزائر في عصر النهضة
8 مايو 2008 03:35
قد تكون الفَترةُ الزمنيةُّ الواقعةُ بين سنتيْ 1920 ـ 1956 هي الفترةَ الأدبيّةَ الأولى التي قد ترقَى إلى مستوى مفهوم ''الأنتيلنجسيا''، في تاريخ الجزائر الثقافيّ· فهي الفترة التي تأسّستْ فيها أحزاب ومنظّمات وجمعيّات ثقافيّة وسياسيّة ودينيّة ونقابيّة: وطنيّة؛ وهي الفترة التي انبعث فيها الشعر الجزائريّ الاتّباعيّ، أو العموديّ، على النحو الذي بلغ معه المستوى الفنّيّ المطلوب، لدى بعض الشعراء على الأقلّ، كما تأسس لدى نهاية هذه الفترة الشعر الجزائريّ الحديث بمعناه الدّقيق (بنشر أبي القاسم سعد اللّه قصيدته التاريخيّة ''طريقي'' في البصائر الثانية (كانت تصدر بالجزائر من سنة 1947 إلى سنة 1956) في مارس ،1955 ليحذُوَ حذوَه أحمد الغوالمي بنشر قصيدة أخرى من شعر التفعيلة بعنوان: ''أنين ورجيع'' في شهر أبريل من السنة نفسِها)، وهي الفترة التي عرفتْ أيضاً ميلاد القصّة القصيرة لدى كتّابٍ جزائريّين بعد محاولات محمد السعيد الزاهري، ومحمد بن العابد الجلاّلي، جاء أحمد بن عاشور، وأحمد رضا حوحو اللّذان كتبا قِصصاً فنّيّة، بل شهِدتْ هذه الفَترةُ أيضاً ميلاد أوّل محاولة روائيّة باللّغة العربيّة لأحمد رضا حوحو وهي ''غادة أمّ القرى'' التي ظهرت في سنة ·1947 بل أنّ الرّواية الجزائريّة المكتوبة باللّغة الأجنبيّة، هي أيضاً، ظهرت طلائعها في هذه الفترة· في حين أنّ الصحافة، الوطنيّة الْماثِلة في الجرائد والمجلاّت، بلغت الحدّ الْمُرْضِي من التطوّر في الإخراج والكتابة والتحليل والمناظرات، كما تُعَدُّ الفترة الأولى، في تاريخ الجزائر، التي بدأ فيها تأسيس مدارس ومعاهد عصريّة لعلّ أرقاها وأعلاها معهد ابن باديس الذي تأسّس بقسنطينة سنة ،1947 والذي كان يدرس كلّ الموادّ، بما فيها الرياضيّات، باللّغة العربيّة، كما تعدّ الفترة الأولى التي تأسّست فيها مدارس عربيّة للبنات (في مدينتي قسنطينة وتلمسان خصوصاً···)· الكلمة والطلقة فلا عجبَ أن ألْفَينا كثيراً من الشعراء الملتزمين يَظهرون في هذه الفترة ويَبرُزون ممّن سنأتي على ذِكْر بعض أسمائهم في هذه السلسلة من المقالات؛ وهم الذين كانوا يقدّرون الكلمة حقّ قدرها؛ فكانت تُشَاكِهُ، لديهم، الطّلقة الناريّةَ النّافذةَ إذْ لم يجدوا لها سبيلاً وهم الذين كانوا يَنْحَضِجُون، على لغة أبي الدرداء، من أجل أن يطرُدوا الاستعمار الفرنسيّ الجاثم على أجسامهم وألسنتهم وعقولهم وكرامتهم معاً! وإذا خصّصنا القول فوقَفْناه على الفترة الممتدّة ما بين 1919 و،1945 وهي التي أطلقنا على الذين ظهروا فيها من الشعراء الجزائريّين، في هذه المقالة القصيرة، ''شعراء النهضة'': تبيّن لنا أنّها الفترة التي أنجبتْ أكبر الشعراء في الجزائر خلال القرن العشرين، في أغلب التّصنيفات النقديّة الجزائريّة، ومن بينهم محمد العيد آل خليفة، ومفدي زكريّاء، صاحب النشيد الوطنيّ ''قسَماً···''، وهذان هما الأشهر والأفحلُ· ثمّ ممن ينتمون إلى هذه الفترة يوجَد محمد السعيد الزاهري، ومحمد الهادي السنوسي، والطيب العقبي، وإبراهيم أبو اليقظان، وأحمد مكّي الجنيد، ومحمد الأمين العمودي، وإبراهيم نوح امتياز، وأحمد سحنون، وابن السايح محمد اللّقّانيّ، وابن الغزالي أحمد كاتب، وابن دويدة محمد مسعود، وابن بسكر محمد، وأحمد ابن ذياب، وغيرهم ممّن لا يتّسع المقام لذكْر أسمائهم جميعاً· أصوات قوية وعلى الرّغم من أنّ شعراء النهضة لم يكتبوا شعراً عظيماً من حيث التصوير الفنّيّ الآسر، ومن حيث الخيال الخصيب السّاحر، إلاّ أنّهم كانوا خيرَ معبِّرٍ عن تلك الفترة المبكّرة من تاريخ الحركتين الوطنيّة والإصلاحيّة في الجزائر، فكانوا أصدق الواصفين لها قولاً، وأقوى الأصوات المعبِّرة عنها خِطاباً· كما تعرّضوا في مَعَاظِمِهمْ للسجن أو النّفي أو المضايقة والتغريم، وكان وراء كلّ تلك الأهوال والْمِحن والطوائل شبحٌ يقال له الاستعمار الفرنسيّ! ولذلك ألفينا كثيراً من هؤلاء الشعراء يتعرضون للسجن أو القتل والاغتيال إذا عوّمنا فترة ''شعراء الإرهاص الثوريّ''، كما هو الشأن بالقياس إلى حمود رمضان، وإبراهيم أبي اليقظان، ومفدي زكرياء، ومحمد العيد آل خليفة، ومحمد العابد الجلاّلي، وعبد الكريم العفون، والربيع بوشامّة، والأمين العمّودي، والطّيّب العقبي· فمثقَّفُو المراحلِ الثلاثِ الأولى من القرن العشرين لهم فضل النّضال والمعاناة من أجل الوطن؛ فهم لم يكونوا شعراء أو كتّاباً فحسْب؛ ولكنّهم كانوا أدباء مضافاً إلى ذلك النَّضْحُ عن المبادئ الوطنيّة العظيمة (مثل تحرير الوطن من الاستعمار الفرنسيّ؛ تنقية العقيدة الإسلاميّة من الشعوذة والخرافات؛ الدّفاع عن اللّغة العربيّة واتّخاذها لغة رسميّة للجزائريّين···)، وهي مبادئ عليا كانوا يتمسّكون بها، ولو أفضى بهم ذلك إلى الهلاك! ولذلك نجد هذه الفترة التاريخيّة الواقعة ما بين الحربين العالميّتين الاثنتين، في الجزائر، تَنمازُ، لدى الشعراء الجزائريّين بالبكاء والعويل، والشكوى من ويلات الدهر، والضجَر من غفْلة الشعب، بل من غَطيطه في سبات عميق، والنّعْي على الاستعمار الفرنسيّ وما اضطهَد به الجزائريّين فلم يألُ جهداً في أن يمسَخَهم مسْخاً؛ فكان الشعراء الجزائريّون، وهم ضمير الأمّة الحيّ، ووعيُها المدرِك، ينظرون إلى شعوب أخرى وقد انتفضت وثارت، وتاقتْ إلى نيل الحريّة فَمَاجَتْ، فإذا هي تنبِذُ الاحتلال الأجنبيَّ وتواجهه بكلّ التضحيات· الماضي والمستقبل وعلى ما كان الشعب الجزائريّ قدّمَ، بعدُ، من تضحيات جِسام طوال سبعين عاماً تقريباً دون انقطاع (1830 ـ 1911)، فإنّ الشعراء الجزائريّين، انطلاقاً من الحرب العالميّة الأولى لم يعودوا ينظرون إلى الماضي وما قدّم فيه الجزائريّون من تضحيات؛ ولكنّهم أنشأوا يتحفّزون نحو المستقبل، فبدأوا يجدّفون على الاستعمار الفرنسيّ، ويعارضون بقاءه جهاراً، ويدْعُون إلى الانقضاض عليه بأيّ وسيلة من الوسائل الممكنة باعتباره محتلاًّ أجنبيّاً، ومن ذلكَ، البيتانِ الشهيران اللذان قالهما محمد العيد آل خليفة بمناسبة مرور الذّكرى المئويّة لاحتلال الجزائر، يخاطب فيهما الاستعمار الفرنسيّ: أطلتَ بجانبي يا ضيفُ فارحلْ لحاكَ اللّهُ من ضَيفٍ ثقيلِ! مضى لكَ مُذْ، نزلتَ عليّ، قرنٌ متى، يا ضيفُ، تُؤْذِنُ بالرَّحيل؟ فهذا الضيف الثقيل مضى عليه في بيت الْمُضيف قرناً كاملاً فظلّ ضيفاً بليداً ثقيلاً؟ أم ألم يُجْزِئْه أن يبقَى قرناً كاملاً في دارٍ هو يعلم أنّها ليست دارَه، ولا أهلها أهلَه؟ ونلاحظ أنّ الشاعر محمد العيد بحسّه الشعريّ الْمُرْهَف لا يطلق على هذا الاحتلال المصطلح السياسيّ المبتذَل الذي هو ''الاستعمار''؛ ولكنّه أطلق عليه ''الضيف الثقيل''· وكانت جرأة كبيرة من الشاعر أن يقول في الاستعمار الفرنسيّ مثل ما قالَ، وذاك الاستعمار في نشوة الاحتفالات بمرور مائة عامٍ على رُزُوحِه على صدور الجزائريّين بقوّة النّار· في حين أنّنا نجد خلال هذه الفترة، فترة النهضة، ظهور شاعر آخر فحْل هو مفدي زكرياء الذي بدأ يكتب الشعر وعمره أقلّ من ثمانية عشر عاماً· وقد بدا لنا أنّ هذا الشاعر بدأ بداية قويّة، وإن كان كُلَفَةً بتضمين أشعار سَوائِه من الشعراء العرب المعاصرين له، شأنَ عامّة الشعراء في أوّل عهدهم بتقصيد قصائدهم، كما يبدو ذلك من خلال قصيدته الأولى (لكِ الحياة) فعبارة هذا العنوان نفسُها هي من أصل بيتٍ للشاعر المصريّ مصطفى كامل: لكِ الحياةُ فجودي بالوصال فما أحلى وصالَكِ في قلبي ووجداني كما ألفيناه يضمّن مقطّعتَه هذه القصيرةَ بيتاً آخرَ للشاعر السالف الذّكْر نفسِه، وهو: لكِ الفؤاد وما في الجسم من رمقٍ ومِن دماءٍ ومِن روح وجُثمانِ ومطلع قصيدة مفدي زكرياء هو: الحبُّ أرّقني واليأسُ أضناني والبينُ ضاعَفَ آلامي وأحزاني والروحُ في حبّ ليلايَ استحال إلى دمعٍ فأمطره شِعري ووجداني وواضح أنّ الشاعر كان يريد بخطابه المؤنّثِ إلى الجزائر، كما كان مصطفى كامل يريد بخطابه المؤنّث إلى مصر· وقد يعود تضمين مفدي زكرياء لشعر غيره بيتين اثنين، في مقطَّعة لا يزيد عدد أبياتها عن سبعة أنّه ـ وقد كان لا يبرح يافعَ الشباب ـ أراد أن يُبْديَ إلمامه بأشعار الشعراء، وأنّه يستطيع أن ينسج على قريض الفحول خصوصاً· غير أنّ مفدي زكرياء كان شديد التّأثّر بهذا الشاعر في قصيدته حيث ذكر مجموعة صالحة من ألفاظ البيتين اللّذين ضمّنهما مقطّعته مثل: وجداني؛ قلبي؛ روح؛ والرّوح··· كما نجده ينسج شعره على منوال نسْج مصطفى كامل أيضاً حين يقول: ''لكِ الفؤاد وما في الجسم من رمق؛ لك الحياة···''؛ إذ يقول مفدي زكرياء: ''لكِ الرقاب وما في الكون من نفَس'' فهذا الصدر من البيت منسوج على غرار الصدر الأوّل الذي استشهدنا به· فمستوى التّأثّر جاوز المعنى إلى اللّفظ، والنسج إلى الإيقاع، كما جاوز الإعجاب إلى المحاكاة· نقول كلّ ذلك ونحن نقرّ لمفدي زكرياء بأنّ أَمَارات الفحولة الشعريّة كانت تبدو واضحة على مقطّعته الشعريّة وعمرُه، يومئذ، لم يكن يجاوز العام الثامن عشرَ! فهل نجد اليوم في شعراء الشباب من يكون في سنّه المبكّرة ويستطيع أن ينسج هذا الشعر الفحل؟!··· كما تناول شعراء هذه الفترة الآخرون، ممن لا يتّسع المقام لذكر شواهد من نصوص أشعارهم، القضايا الوطنيّة نفسَها، فلم يألو جهداً في الدّفاع، ولا استكانوا لقمع الاستعمار، فتركوا لنا تراثاً شعريّاً ملتزماً أصيلاً جميلاً·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©