الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اللوحة احتمال معلق على أكـــــف الغموض

اللوحة احتمال معلق على أكـــــف الغموض
8 مايو 2008 03:34
لم يكن معرضاً تشكيلياً تقليدياً ذلك الذي دعا الفنان فهد جابر متذوقي فنه إلى مشاهدته في المجمع الثقافي في أبوظبي مؤخراً، ذلك أن بين سمات المعرض العادي قيام تشابه بين لوحاته المعروضة، قد يدرك حدود التماثل أحياناً، أما ذلك الكرنفال اللوني المتمايز على انسجام، والمتجانس على اختلاف، الذي اقترحه الفنان على مشاهدي لوحاته، فكان أقرب إلى دعوة للسفر في موكب ضوئي حافل بالتناقضات المثرية للمشهد إلى حدود تفوق التوقع، حيث اللوحات تتناغم تارة وتتنافر أخرى، فيما هي تسعى نحو تكامل لا يسهل إدراكه، حتى تذهب إلى نسج معالم تباينها الخلاق، الذي يمنح كلاً منها قيمة إضافية متأتية من درجة انسجامها مع، أو افتراقها عن، قريناتها، وليس اعتماداً على صميمها اللوني أو إطارها الشكلي فقط· بدا المعرض بأكمله أقرب إلى لوحة واحدة تضاربت ألوانها بقدر ما توافقت، تنوعت الخطوط بين المستقيم والمتعرج، وتشتت الكتل اللونية بين الكثافة والضآلة، ليساهم ذلك كله في تقديم مشهد متقن، تواطأت تفاصيله على جذب المتلقي، ودفعه للدخول، طائعاً، وتائقاً، في دوامة بصرية فائقة الروعة· علي العزير أبوظبي - الناظر للوحات فهد جابر لا بد أن تجذبه متعة البحث عن الدلالات المختبئة خلف خطوط تشابكت وفق تناسق عفوي، وأن يجد نفسه مدفوعاً، بفعل الرغبة في الاكتشاف، إلى تقصي لغة الألوان الشائقة، واستكناه ألغازها المثيرة للدهشة، لعلّ بين ما يحاول الفنان قوله، عبر الدفق التعبيري الهائل الذي أوحى به معرضه، أن الحياة في جوهرها مزيج من ألوان مكافئة للمشاعر المتأرجحة في كل اتجاه، وأن مهمة الفنان الحقيقي تتمحور حول الإحاطة بدقائق النفس البشرية، والقبض على اللحظات المتسربة من أكف العمر، تمهيداً لإبرازها كبصمة لونية راسخة فوق لوحة تشي بحكايا الزمن الذي مضى، بقدر ما تسعى إلى استكناه ملامح الوقت الذي سيجيء· سر التناقض ''خطوات بين التعبيرية والحداثة''، هو العنوان الذي اختاره جابر لمعرضه، والتوصيف يحيل إلى تراكم في التجربة، وإلى تنوع في الرؤية، وأيضاً إلى تكامل في المسار، النقيض هنا يكمّل نقيضه بقدر ما يصطدم به، ومن شأن مرحلة لاحقة أن تضفي على أخرى سابقة لها نكهة جديدة، وليس فقط مختلفة· هكذا يمكن اكتشاف الرؤية التعبيرية التي يسير الفنان بهديها، والتي تتمحور حول نزعة جامحة للتنازع مع الذات أولاً، ومع مقومات السكون والاطمئنان إلى الإنجاز تالياً، ومع محفزات الركود والثبات دوماً· من خلف لوحاته العامرة بالصخب، بدا فهد جابر أقرب إلى لوحة ممتلئة بالأسئلة ومعرضة عن الركون إلى أجوبة بسيطة ساذجة، دائماً ثمة خطوط ملتبسة، حائرة، تمارس لعبة البحث عن ذاتها وسط الضباب اللوني المتناثر، ودوماً هناك الإنسان الساعي إلى توظيف حيرته الوجودية في سياق إضفاء مزيد من الغرابة على مملكة الغموض التي وجد نفسه في داخلها فجأة، عوضاً عن الخضوع لمتعة الاستسلام إلى لجة التيه التي يقترحها الضعف الآدمي تجاه الألغاز المحيطة به، آثر الفنان أن يتنكب أعباء الغوص عميقاً في طوفان الإيحاءات المنبثقة من مساحات التأمل، وكان لتوغله ذاك أن قاده إلى اكتشاف عالم مواز لا يقل عن العالم الحقيقي غرابة وإدهاشاً، وربما استطاع ، في حالات شتى، أن يفوقه روعة ودلالة· بالإمكان قراءة لوحات الفنان جابر استناداً إلى مفردات الشكل التي يستنبطها مع كل لوحة، حيث اللغة البصرية تتكئ على خطوط متصاعدة نحو مدى يمعن مع الوقت اتساعاً، موجات من الضوء تحث الخطى نحو بعيد لا تغويه متعة الاقتراب، بل يظل مزهواً بهوس النأي، كأنه يتربع فوق عرش المسافة التي ارتبط معها بود خفي· كما يمكن تمثّل اللوحات وفق لغة الإيحاء المحيلة إلى مرجعيات واقعية تحتل الوجوه في سياقها موقعاً مميزاً، وإن غابت ملامحها، لكن الإغواء الأكثر جاذبية يبقى في السير بمحاذاة الألوان المتسارعة نحو قمة البوح عن مضامينها الخفية، اللون هنا هو سيد التعبير، ومعبر الولوج إلى رحاب اللغة التشكيلية الواسعة في مفاهيمها، والعميقة في تجلياتها، وهو متعدد الدلالات أيضاً، تراه يجيء شاحباً خجولاً هنا، ليصير صارخاً مستفزاً هناك، حتى تؤول اللوحة نفسها، كما الذات التي أبدعتها، إلى مسرح لتناقضات مفرطة في الحضور الإيحائي، بقدر ما هي مسرفة في التضاد الشكلي· ولعلّ الأمر من شأنه أن يشي ببعض أسرار اللعبة الإبداعية· حضور الفرد الفرد في لوحات فهد جابر قابل دوماً للاختزال إلى شكل مثلثي، حيث وجد المثلث يمكن الاستدلال عبره إلى آثر إنساني ما، لكنّ الحضور ذاك يتمايز تبعاً للمناخ النفسي الذي يرخي بظلاله فوق المزاج الفني، من وراء التفاصيل الشاحبة ثمة فرصة للإحاطة بالتبدلات الشعورية التي تخالج الكائن البشري، حيث الفرح والحزن والدعة والقلق، وسائر التداعيات المزاجية الموازية، جميعها تجد متسعاً للتعبير عن نفسها، بل ولاجتذاب المتلقي نحو سطوتها ببراعة لافتة· كان مثير للاهتمام أن يعمم الفنان شكل المرأة على النموذج الإنساني المعتمد من قبله، الأنثى بعباءتها المعهودة قابلة للتجسيد وفق هيئة مثلثة، بقدر ما هي صالحة من منظور فني، وحياتي أيضاً، لاختصار الجنس البشري· وللأسماء مكانها حكايا المعرض مع أسماء لوحاته تستحق أن تروى، ذلك أن واقعية الاسم لا تبدو دائماً متسقة مع غرابة المسمى، ''عودة الغائب'' مثلاً، لا تنطوي على فرح اللقاء بين الأحبة، بقدر ما تحيل إلى توق مضمر لاختصار المسافة الشاسعة، القول نفسه صالح للإسقاط على ''انتظار'' أيضاً، وهو أكثر وجاهة فيما يتعلق بـ''العانس''، لكنه يفقد بعض أبعاده البدهية حين تتجه الأبصار نحو ''بعد العاصفة''، أو ''طائر البجع''، أما الوقوف في حضرة ''فارس وحصان'' فيمثل مناسبة للتأمل في مخاض الألغاز القائمة بين اللوحة كنتاج إبداعي متحقق، وبين طابعها الجنيني، إذ هي فكرة قائمة في ذهن صاحبها، التباين هنا ليس معزولاً عن السياق الفني، كما أنه ليس محايداً حيال الرؤية التي يطمح الفنان إلى تبنيها، من شأن كل ذلك أن يقود للاستنتاج أن الاسم جزء يصعب فصله عن شخصية اللوحة، بل هو دائم الحضور في مختلف مراحل تشكلها، كما في السياق الذي تقدم نفسها عبره إلى المتلقي· وأنت تنهي دورانك اللولبي في القاعة التي احتضنت لوحات فهد جابر، مستكملاً ما افترضته قراءة لملامح المشروع التشكيلي الذي ينهض به الفنان، وممتلئاً بنشوة الخط واللون، تصحو بغتة على إلحاح فكرة متوهجة بفيض الأشكال المتماوجة: اللوحة هي دوماً لعبة احتمالات معلقة على أكف السؤال الغامض·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©