السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إنقاذ اقتصاد اليونان... بالمواقع الأثرية!

28 فبراير 2012
ينقسم الرأي العام في اليونان حالياً حول خطة الحكومة اليونانية لتحويل الـ"بارثينون" وغيره من المواقع الأثرية اليونانية إلى مواقع لتصوير الأفلام السينمائية والإعلانات من أجل جمع بعض الأموال التي يمكن أن تخفف لحد ما من وطأة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمسك بخناق البلاد. وقد احتج أحد المرشدين السياحيين اليونانيين على هذا الأمر ووصفه بأنه" إساءة للمقدسات" في حين رأى آخرون في أنه على الرغم من أن هذا الإجراء قد يعتبر مهيناً في جوهره، إلا أنه بالتأكيد أفضل من التسول من أجل الحصول على حزمة إنقاذ مالي من الدول الأجنبية. قد يخلق هذا الجدل لدى بعض اليونانيين إحساساً بأن ما يحدث أمامهم قد "حدث من قبل بالفعل" وإنْ كان ذلك الحدوث وقع منذ تاريخ سحيق، وتحديداً عن اقتراح رجل الدولة الأثيني العظيم"بيريسليس" الإغارة على معبد الـ"بارثينون" لمواجهة نقص في المال لحق بشعبه منذ 2500 عام على وجه التقريب، متحدياً بذلك ليس فقط حدود الذوق السليم، وإنما المقدسات الدينية حسب عقائد اليونان القديمة، أيضاً. كان الـ"بارثينون" دوماً رمزاً للفخر الأثيني، ولكنه عندما بُني في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد كان صرحاً معمارياً يحوي ثروة أثينا، حيث كان يضم خزانة الدولة، وعدداً من المراكب الذهبية والفضية، والمباني المقدسة للمدينة بالإضافة إلى تمثال من العاج والذهب للإلهة "أثينا" يخطف أبصار الزائرين ويشي بالقوة المالية للمدينة. كان استغلال ذلك الأثر التاريخي جريمة بشعة ما في ذلك شك، ولكن الأزمات المالية لديها طرقها الخاصة في إعادة تعريف ما هو مقدس وما هو عادي، كما تعلمت أوروبا المعاصرة، وكما دلت على ذلك الحروب الطويلة المريرة كالحرب التي بدأتها أثينا وإسبرطة عام 431 قبل الميلاد. فعندما لاح شبح تلك الحرب، اقترح "بيريسليس" أنه في حالة نفاذ أرصدة أثينا المالية، يمكنها أن تلجأ إلى صهر تمثال الإلهة" أثينا" وتحويله لعملات نقدية. بالمصطلحات الحديثة يعد هذا تصرفاً متطرفاً شأنه في ذلك شأن استخدام الـ"بارثينون" ليس كموقع لتصوير الأفلام فقط، وإنما كفندق خمس نجوم. لابد أن المؤمنين المتشددين في أثينا قد صاحوا غاضبين احتجاجاً على ما اقترحه "بيريسليس" ولكن "ثوسايدايدس" المؤرخ الذي سجل تلك الحكاية يقدم ذلك الاقتراح باعتباره مثالاً على الحس السليم لـ"بيريسليس". وقد عمل "بيريسليس" بعد ذلك على تخفيف مقترحاته بأن تعهد بأن كل ما تأخذه"أثينا" من الـ"بارثينون" ستعيده إليه مرة ثانية بعدما تكسب الحرب. ولكن تلك الحرب تحولت إلى صراع ممتد وشاق ويائس، وبعد وفاة "بيريسليس" بوقت طويل تحول"القرض" إلى"هدية". لقد كانت الإلهة "أثينا" كما يتبين لنا من هذه القصة أكثر رأفة بكثير من دائني اليونان المعاصرة. وعلى الرغم من جسارة مخطط "بيريسليس" لتجريد تمثال الإلهة أثينا من مقتنياته الثمينة من الذهب والعاج، إلا أن هناك مخططاً فاقه في الجسارة، هو ذلك الذي سجله المؤرخ "ثوسايدايدس" أيضاً، يحكي أن مستشارين من مدينة "كورينث" التي كانت تقع في وسط بلاد الإغريق القديمة قد نصحوا الإسبرطيين بتمويل جهدهم الحربي بأقدس ذهب يملكه اليونانيون، وهو ذلك الموجود في ضمن كنوز "أوليمبيا" و"دلفي". وكانت "كورنيث" مشهورة في العصور القديمة بالبراعة في التجارة، ولكن الإسبرطيين الورعين لم يعترضوا على الخطة التي كانت تعني استخدام أقدس معبدين في "هيلاس" كي يكونا بمثابة ماكينة صرف نقود آلية حديثة" (الفارق الوحيد أن المال المسحوب من المعبدين القديمين، كان من المفترض نظرياً على الأقـل أن يتم سـداده مرة أخرى). إن "دلفي" الآن هي موقع من المواقع الأثرية التي ستروج لها اليونان المعاصرة كموقع لتصوير الأفلام والإعلانات. والحريصون على قداسة التراث اليوناني قد يهولهم أن يروا الآن عارضة أزياء وهي تعرض ملابس بحر، أو ممثلين في أفلام دعائية يقومون باحتساء مشروبات غازية أو غيرها أمام تمثال الإله أبولو، إله الضياء والضوء والموسيقى والشعر، وكل ما هو خير وجميل في اليونان القديمة، ولكن هؤلاء يمكن أن يجدوا العزاء في حقيقة أن رهبان "دلفي" أنفسهم كانوا من أبرع رجال المبيعات في التاريخ القديم حيث كانوا لا يترددون في الحصول على المال مقابل تزويد الراغبين بالنبوءات السعيدة. فنظراً لافتقارهم لجيش قوي يحمي معبدهم، فإنهم تعمدوا نشر أساطير توحي بأن الآلهة سينزلون الكوارث بكل من يفكر في الإغارة على معبدهم. وقد نجحت حيلتهم، ولكن ذلك النجاح لم يستمر للأبد بالطبع حيث انتهى الجزء الأكبر من كنوز "دلفي" مصهوراً ومحولًا لنقود معدنية لاستئجار الجنود بعد أن استولت "المدينة - الدولة" المجاورة على الموقع في القرن الرابع قبل الميلاد. لا شـك أن "بيريسليس" كـان سيعجـب باليونانيين المعاصرين لإقدامهم على استخدام آثارهم الخالدة حتى يتمكنوا من الاعتماد على أنفسهم في الخروج من أزمتهم الطاحنة. ومن المؤكد أن "ثوسايدايدس" مؤرخ بيريسليس كان سيفعل الشيء نفسه تقريباً. لقد كان الرجلان تحديثيين وبراجماتيين ولديهما الاستعداد حتى للنظر إلى معبد مقدس على أنه مصدر للحصول على المال. جيمس روم أستاذ الكلاسيكيات بكلية «بَرد» للفنون بنيويورك ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم.سي.تي إنترناشيونال»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©