الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الراح والروح المعتق

الراح والروح المعتق
17 يونيو 2009 02:38
يصنف السري الرفاء أبواب الشعر الوارد في الجزء الخاص بالمشروب من كتابه طبقاً للحالات والشروط والمواصفات الخاصة بالخمر، وسوف لا نلتزم بتتبع جميع الأبواب، لأن هذه الحالات لا تعنينا بقدر ما يهمنا في الدرجة الأولى ما يروق من الشعر ويحلو تذوقه وتندر صوره. فنجد في الباب الثالث وهو بعنوان «في إدراكها وعتقها» أبياتاً قوية مثل قول كشاجم: ألست ترى الظلام وقد تولى وعنقود الثريا قد تدلى فدونك قهوة لم يُبق منها تقادم عهدها إلا الأقَلاّ بزلنا دِنَّها والليل داجٍ فصيَّرت الدجى شمسا وظلاَّ الغريب أنه لكى تتماسك الصورة الشعرية لابد لنا أن نفهم الشطر الأول على اعتبار أن الظلام قد ساد وتولى الجو أي سيطر عليه، لأنه قد انجلى، ليتوافق المعنى مع البيت الثالث «والليل داجٍ» من ناحية، وليتيح المجال للقهوة أن تنير الظلماء بأن تحيل الدجى إلى شمس وظل، مع أنها قد تقادمت وتلاشت فلم يبق إلا الأقل. على أن المصطلح الخاص بالشرب هنا هو «بزلنا» ويعني ثقب الدِّن لينسكب الشراب منه، على كثرة معاني البزل المعجمية. والخاصية المميزة للصورة الشعرية في هذه الأبيات هي المزيج المدهش من الشمس والظل. أما أبو نواس ـ وهو شاعر الخمريات الأول ـ فالذى يعنيه هو شروط التعتيق، ليصل إلى أقصى وأمتع درجة يمكن أن يبلغها التوصيف الشعرى فى مثل قوله: نتيجة كرمةٍ من بيت راس تضىء الليل مضروب الرُّواقِ أتت من دونها الأيام حتى تفاني جسمها والروح باقِ فنسبة الكروم إلى منابتها الأصيلة حاسمة فى تحديد مستوى عراقتها إلى جانب عوامل أخرى مثل عمرها وطرائق حفظها ونوع دنانها، وأبونواس يقفز دائماً إلى النتائج دون أن ينتظر مقدماتها من شدة الشوق فهو الذي كان يقول: أسكرنا بالأمس إن عزمت على الشرب غدا، إن ذا من العجب فالكروم وهي ما تزال نباتاً كثيفاً يلقي بظله على الأرض من شأنها- في تصوره- أن تضيء الليل الجاثم، بما تحمله من عناقيد يختمر فيها هذا النور الكامن، والشراب يتفانى ويضاءل بمادته السائلة، لكن «الروح باق» مما يجعله شراباً روحياً. ومن نماذج شعر التعتيق المكثف قول ابن المعتز في جمال وصفه: معتقة صاغ النهار لرأسها أكاليل دُرِّ ما لمنظومة سِلكُ جرت حركات الدهر فوق سكونها فذابت كذوب التبر أخلصه السَّبكُ وأدرك منها الغابرون بقية من الروْح فى جسم أضرَّ به النّهكُ فقد خفيت من صفوها فكأنها بقايا يقين كاد يذهبه الشك لا أحسب أن تمثيل الحس بالمعنوي يبلغ مستوى من الشعرية مثلما يبلغ في هذه الصورة الآسرة، فهو يدرك أنه يتحد عن الشراب مجترحًا مديح المحرم منه، مما يهز يقين المسلمات، لكن المفارقة المدهشة هي عقد تناظر مرهف بين بقايا الروح في السائل وبقايا اليقين في الشارب، مما يقلب ميزان المقابلة ليبرز قوة الشعرية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©