الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفرنسي مارك روجيه.. «حكواتي» عصري يتجول على حمار

الفرنسي مارك روجيه.. «حكواتي» عصري يتجول على حمار
17 يونيو 2009 02:33
مارك روجيه يقرأ للأطفال عرف الإنسان على مر التواريخ والعصور أنماطاً شتى من أساليب ووسائط تعميم المعرفة وإشاعتها بين الناس، وتوصيل الكتاب إلى البقاع النائية أو البعيدة عن المدنية، ولعل أول وسائل هذا الاتصال القرائي هي «البغال والحمير» التي كانت تنقل الكتب من مكان إلى آخر في الدولة الواحدة، أو بين الدول المختلفة، ثم الجمال والعربات والسيارات والسفن والطائرات التي حملت الكتاب إلى آفاق الأرض، وفي كل ذلك ظل الكتاب هو الوعاء المعرفي وظلت القراءة الفردية هي الفعل الذي يجري عبره تحصيل المعرفة. لم يمس التطور شكل القراءة فقط بل مارس سطوته على أوعيتها أيضاً، فسرعان ما خطر في بال الإنسان أن يقرأ للآخرين، وهكذا تحولت القراءة من فعل فردي خاص وحميم إلى فعل جماعي يجتمع فيه القرّاء في طقس إبداعي ثقافي شهدت نماذجه المختلفة حضارات إنسانية متعددة؛ واشتهرت، مثلاً، المقاهي التي طالما شهدت «الحكواتية»، والمنتديات والمنابر الشعرية والأدبية، والمجالس الثقافية العامة والخاصة ثم برامج الكمبيوتر التي تقرأ لك كل ما لذَّ وطاب. قراءة النجوم القارئ أيضاً لم يظل هو نفسه في هذه الحالات كلها، بل سرعان ما فكر المعنيون بالشأن الثقافي في «استثمار» شهرة نجوم الفن والمسرح والسينما وغيرها ليجذبوا الناس إلى القراءة والكتاب، وهكذا صار القارئ نجماً سينمائياً أو ممثلاً مسرحياً مشهوراً أو مذيعاً ذائع الصيت، وجرى تكليفهم بقراءة رواية أو قصائد شعريّة أمام الجمهور كأسلوب لتشجيع النّاس على القراءة والاستمتاع بروائع الأدب. في هكذا تجربة يظهر الممثّل على المسرح من دون أيّ ديكور يذكر، بحضور جمهور غفير، ولأنّ التّجربة نجحت فقد سارع النّاشرون الأذكياء بتحويلها إلى إسطوانات «سي دي» في سلسلة «الكتاب المسموع»، وتمّ إبرام عقود مجزية بين دور نشر كبيرة وشهيرة كدار «فلاماريون» ذائعة الصّيت في فرنسا والبلدان الفرانكفونية وبين ممثّلين نجوم لتسجيل نصوص روائيّة، أو قصائد شعريّة بأصواتهم. بالطبع، يتمّ انتقاء الصّوت الملائم لنوعيّة النصّ، فلا يمكن، على سبيل المثال، اختيار صوت نانسي عجرم لتسجيل نصوص لابن المقفّع أو التّوحيدي، ولكن من الممكن تخيّل صوتها يهمس بقصائد لنزار قبّاني الغزليّة. نجحت التّجربة، وليس أمراً نادراً أن ترى امرأة فرنسيّة، وهي في المطبخ، تعدّ لزوجها ولأبنائها أكلة شهيّة، تستمع إلى نصوص أدبيّة ممتعة ورائقة. ويلخص أصحاب هذه التّجربة الطّريفة هدفهم منها بالسّعي لأن يكون الكتاب ملتصقاً بالحياة في شتّى الوجوه، ولا تخلو المسألة طبعاً من غايات تجاريّة. تجربة مفارقة إلى هنا، وتبدو الأمور عادية تماماً، لكن غير العادي أو المفارق واللافت ما فعله الفرنسي «مارك روجيه»، الذي يطلق على نفسه لقب «القارئ العمومي»، والذي ابتدع أسلوباً فريداً من نوعه لتقريب الكتاب من النّاس وتحبيب المطالعة إليهم، فقد قرّر أن يتنقّل راجلًا من مدينة إلى أخرى، ومن قرية إلى أخرى ليقرأ على النّاس مختارات من أمّهات الكتب. والرّحّالة، هو في الأصل معلّم، تخلّى عن مهنته ليتفرّغ للتّجوال في بلاد الله الواسعة لقراءة نصوص مختارة من الأدب الفرنسي والأجنبي على مستمعيه في كلّ محطّة من محطّات رحلته الطّويلة. يقول متحدّثا عن تجربته الطّريفة: «عندما أخبر النّاس بأنّ مهنتي التي أعيش منها هي «قارئ عمومي»، فإنّهم يصابون بالدّهشة ويتملّكهم الاستغراب، وحتّى في الأوساط المهتمّة بالكتاب فإنّ من يسمعني لا يصدّق ما أقول له، خاصّة عندما أخبر من ألتقي به بأنّي سأنطلق في رحلة لمدّة عام بأكمله!». وفي رحلته التي بدأها في 31 مايو الماضي والتي تستمرّ عاماً بأكمله سيقطع روجيه خمسة آلاف كيلومتر على قدميه، من فرنسا إلى باماكو في مالي، متسلحاً بعصا يتكئ عليها وحذاء جيد وحمار يحمل على ظهره كل لوازم الرحلة. وسيقطع الرّحّالة فرنسا وإسبانيا وسيمرّ بالمغرب وموريتانيا ليصل بعد ذلك إلى السنغال ومالي، وفي كلّ يوم يفتح أمام النّاس كتاباً أو ديوان شعر يقرأ منه للجمهور الذي سيستمع إلى أجمل النّصوص وأمتعها، وسيكون مجموع الساعات التي سيقضيها في قراءة تلك النّصوص 160 ساعة على امتداد 12 شهراً، وستكون تلك القراءات في دور الثّقافة، وفي المكتبات، وأيضا في المقاهي، وفي الساحات العامّة وفي الأسواق وأمام المواقع الأثريّة. أما النّصوص فهي لمؤلّفين كبار من أمثال غارسيا لوركا، وسينغور وألان، وغيرهم من كبار أدباء فرنسا وإفريقيا، والطّريف أنّ «القارئ العمومي» سيحمل رزم كتبه على ظهر حمار اختار له اسم: «بابل»، بينما يقود هو حماره ويسير راجلاً. هذه ليست أوّل جولة «للقارئ العمومي»، فقد طاف فرنسا عام 2000 في مهمّة مماثلة، كما قام عام 2004 برحلة في عديد من دول البحر الأبيض المتوسّط زار خلالها عشرين بلداً من بينها: لبنان، المغرب، مصر والبوسنة. ويشبع مارك روجيه بهذه المهنة التي ابتدعها لنفسه هوايته في حبّ السّفر وحبّ الكتب، وهو ينتقي النّصوص التي تتماشى والجمهور الذي يتوجّه إليه، ليكسب اهتمام الناس الذين يفدون للاستماع إليه. ولأنّ هذا الرّجل اختار أن يكون هذا العمل مهنة ليرتزق منها، فقد تحصّل على دعم عديد الجمعيّات والمؤسسات والمنظّمات، كدعم منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو»، الّتي وفرت له تكاليف وتجهيزات ليقوم بالترجمة الفوريّة لكل النّصوص التي ينتقيها، ليفهمها الجمهور الذي يتوجّه إليه. ورغم أن هذا العمل هو فكريّ وثقافيّ وأدبيّ، وفيه خدمة للأدب والشّعر، إلاّ أنّ صاحب الفكرة لا يجد حرجاً في القول بأنّه يريد أيضا أن يغنم مالاً من هذا العمل الثقافي، فيجمع بذلك بين الممتع والمفيد فكريّاً وماليّاً أيضاً ولأنّه ذكيّ، فقد طرق مثلا ـ بالنّسبة لرحلته الحاليّة ـ أبواب البلديّات في المدن الفرنسيّة المتوأمة مع المدن الإفريقيّة، وتحصل منها فعلاً على الدّعم المطلوب. الفكرة غريبة وطريفة بالتأكيد، لكن المرء لا يستطيع دفع عدد من الأسئلة التي تثيرها: لماذا لا يتجول الرجل في سيارة أو يسافر من بلد إلى بلد في الطائرة «بكل ما توفرانه من سهولة ويسر»، ويختار بدلاً من ذلك أن يسير على قدميه وهو يقود حماره في طرقات الدنيا؟ ... وللإمارات قوافلها وبمناسبة الحكواتي وقصصه الجميلة، والكتاب المسموع ومآثره القرائية، ثمة تجربة إماراتية مهمة على الصعيدين تستهدف نشر المعرفة وتعميم الكتاب في أرجاء الدولة المختلفة من جهة، وبين عموم القراء من جهة ثانية. أما الأولى، وهي تجربة مبكرة بدأت في ثمانينيات القرن الماضي، فتتمثل في القوافل الثقافية التي ترسلها وزارة الثقافة والشاب وتنمية المجتمع إلى المناطق النائية، حاملة الكتب المتنوعة لتضعها في متناول القراء في تلك المناطق. وكان لها مردود إيجابي في ذلك الوقت لأنها نقلت المعرفة من العاصمة إلى سكان المناطق البدوية والقروية البعيدة. وفي الخامس من فبراير الماضي، أعلنت وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع أنها تنوي توقيع عقد شراكة وتعاون مع المكتبة الوطنية في سنغافورة، للاستفادة من خبرتها في إنشاء والإشراف على المكتبات المتنقلة في سنغافورة عبر مشروعها «موللي (موبايل لايبراريز)»، في تنفيذ خطة الوزارة لإطلاق مشروع المكتبة المتنقلة في الإمارات. وهو مشروع يهدف إلى تشجيع القراءة وزيادة الإقبال عليها من قبل شرائح المجتمع المختلفة. ويعتبر مشروع المكتبة المتنقلة ترجمة عملية لشعار «أن تأتي المكتبة إلى القارئ إن لم يكن قادراً على الذهاب إليها»، عبر الانتقال بالمكتبة إلى مواقع تجمع وسكن الشرائح المجتمعية الأكثر حاجة إلى القراءة من ذوي الحاجات الخاصة وطلاب المدارس والمعاهد والجامعات، وتوفير آليات أكثر يسراً وسهولة في الإعارة والاسترجاع وتبادل المعلومات وحرصاً منها على نجاح هذا المشروع في تحقيق غاياته، ستقوم الوزارة في إطار تعاونها مع المكتبة الوطنية في سنغافورة، بتوقيع مذكرة تفاهم لدعم مجال المكتبات في الدولة عبر آليات عديدة منها: تنظيم الزيارات المتبادلة، وتشكيل فريق عمل من الوزارة لمتابعة تنفيذ خطوات مشروع «المكتبة المتنقلة»، وتدريب هذا الفريق من قبل المكتبة الوطنية في سنغافورة، ونقل خبرات العاملين فيها إلى أعضاء هذا الفريق. قوافل الوزارة الثقافية في 2009 لا تشبه قوافلها في الثمانينيات من القرن المنصرم إلا في «الهدف والغاية»، أما الوسائل فقد تطورت كثيراً سواءً لجهة الأفراد أو الآليات، حيث تدعم مشروعها الحالي ببرامج الكمبيوتر الخاصة بآليات القراءة والتشجيع عليها، إلى جانب توفير مستلزمات انطلاق المشروع من بنية تحتية ومواد مكتبية. وثمة ما يشابه مشروع الوزارة في مشروع «كلمة» التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، فهو يقوم بالذهاب إلى المدارس في منطقة العين والمنطقة الغربية ليوزع اصدارت المشروع على طلابها، ويربطهم بما يجري معرفياً في العاصمة أبوظبي، بل ويقدم لهم نخبة ما يصدر في العالم ثم يترجم هنا في الدولة. وأما على صعيد الكتاب الإلكتروني ففي الإمارات أيضاً تجربة رائدة ومهمة هي تجربة «الكتاب المسموع» الذي صدرت من خلاله نخبة من أمهات الكتب العربية والمجاميع الشعرية والروايات والقصص والأعمال الأدبية في «أشرطة كاسيت» لتوزع على الجمهور بثمن رمزي لا يزيد على «عشرة دراهم»، ثم تواترت الكتب لتصدر في أقراص مدمجة أيضاً (سي دي) ليقدم كل شريط أو قرص ثروة فكرية حقيقية للقارئ. كان ذلك المشروع وما يزال هدية ثمينة وقيمة لعشاق القراءة، خاصة إذا تذكرنا أنه قدم للثقافة العربية موسوعة شعرية تعتبر الأفضل والأكبر عربياً، ونخبة من أمهات كتب النثر العربية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©