الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«طريق العدو» ليست سالكة

«طريق العدو» ليست سالكة
5 مارس 2014 21:35
لا تنعكس الموضوعات الإشكالية في السينما على الدوام بوصفها فناً لصيقاً بالواقع، فحسب، بل تجد صداها في مهرجاناتها، كما لاحظنا في الدورة الـ 64 للبرليناله عندما عرضت فيلمين لهما صلة بموضوع المسلمين و«الإسلاموفوبيا». الأول أميركي الإنتاج والموضوع أما مخرجه فعربي الأصل فرنسي الجنسية هو الجزائري رشيد بوشارب، صاحب «خارج عن القانون»، «بلديون»، «نهر لندن» وغيرها، والذي حاول في فيلمه الجديد «طريق العدو» تحوير موضوعه المقتبس من قصة فيلم فرنسي سابق قام ببطولته الممثلان جان كابان وألن ديلون في بداية السبعينيات، ومقاربتها مع الفكرة الجديدة التي أراد من خلالها عرض موضوع إشكالي حاول معالجته في أفلام سابقة له، خصت الموقف من المسلمين وعلاقتهم بالغرب في مسعى منه لعرض رؤيته حول قضية كثيراً ما يساء فهمها بفعل تأثيرات تأخذ من الفعل الفردي موقفاً عاماً، كما رأينا في «نهر لندن»، الذي تناول حادثة تفجير قطار الأنفاق في لندن وراح ضحيته عدد من الأبرياء، وكيف ساعد التقارب الإنساني بين أم مسيحية وأب مسلم فقد كل منهما ولده أثناء الحادث (بدوافع وظروف مختلفة)، على بلورة صورة واقعية جديدة استبعدت الأحكام المنمطة ووضعت مكانها علاقة أكثر إنسانية، رغم شدة الألم والأسى الذي كان مخيماً على المشهد الدرامي. بلا عمق الاختلاف بين أعماله السابقة و«طريق العدو» أن الأخير أقل إشباعاً على المستوى الدرامي، وحكايته تبدو كما لو أنها ألصقت عنوة برجل أسود دخل السجن لأسباب جرمية ولم يتعرض لضغط الشرطة حين خرج منه لكونه مسلماً، بل لموقف اجتماعي مسبق من كل الذين يدخلون السجن وبشكل خاص السود منهم ولا يسمح لهم بالتكيف مع العالم الخارجي ثانية، ولا تسمح أجهزة الشرطة لدورها غير التربوي بقبوله كشخص أخطأ ودفع ثمن خطئه، بل تعامله كمجرم مذنب عليه العودة إلى السجن ثانية. الغريب أن بوشارب لم يعمق شخصيته وفق ما تتعرض له من ضغط بسبب الموقف من الإسلام، كما يجري اليوم في الولايات المتحدة الأميركية وبخاصة بعد الحادي عشر من سبتمبر، بل ترك الأمر مفتوحاً على افتراض مسبق بأن المشاهد سيعطيه من عنده ما يحتاج أن يعطيه البطل من مواقف وأفكار، حين يجسد دور شخصية ما على الشاشة أمام المشاهد. في النهاية وبغض النظر عن أهمية الموضوع المختار تناوله، فإن ما هو مجسد أمامنا على الشاشة جاء مفككاً، وغير مقنع، لا على مستوى الحكاية ولا الشغل السينمائي رغم إسناد دور البطولة إلى الممثل الأميركي فورست ويتكر، الذي لم يفلح في تجسيد شخصية الرجل المسلم بما يكفي للتفاعل مع قضيته الوجودية ككائن يتعرض لضغوط اجتماعية تخسره كل ما حاول بناءه بعد تجربة السجن المريرة، لا لشيء سوى لأنه مختلف اللون والعقيدة ويعيش في وسط محافظ رافض للتعايش مع التنوع البشري وفضائله، على عكس ما حاولت الإيرانية سوادبي مرتضاي في فيلمها «ماكوندو» تقديمه، حيث جربت معالجة الحركات الإسلامية المتطرفة من منظور مختلف، يعطي مساحة «للغفران» بتخفيف الحكم المطلق على عموم المسلمين من خلال مجموعات تسيء إليهم بسلوكها المتطرف، وبمعالجة سينمائية متماسكة اتخذت من معسكر لطالبي اللجوء في النمسا مكاناً لأحداث الفيلم وظلت تدور في مساحته، في حين أحضرت الموضوع الشيشاني عبر ربط الصلة بين شخصياته الرئيسية وخلفياتهم السياسية ومواقفهم من العنف الذي يقترن بتداخلات ملتبسة، يشكل فيها الدين والحقوق القومية طرفين رئيسيين إلى جانب تفاصيل كثيرة تتعلق بتكوينات المهاجر النفسية والاجتماعية، وعلاقته بالوسط الجديد الذي يجد نفسه فيه في تنافر صارخ تمكنت سودابي من الإمساك بالكثير منها بمهارة سينمائية تشي بموهبة مُتشكلة. لم تظهر حتى اللحظة أفلام كثيرة تتناول منطقة الشيشان المسلمة معقدة التركيب، وذات الخلفية التاريخية المتشابكة مع وجود الاتحاد السوفييتي سابقاً ثم روسيا في الوقت الحاضر. مثال صارخ لقد ظلت مشاكل الجمهوريات السوفييتية حديثة الاستقلال أو تلك التي ظلت تحت الحكم الروسي عصية على الحل وصعبة على الفهم، لشدة تداخلاتها، ومسألة الشيشان مثال صارخ على ذلك. ففي الوقت الذي يسعى فيه شعبها وأغلبيتهم من المسلمين، للتخلص من هيمنة روسيا تسعى الأخيرة للحفاظ على سطوتها باستخدام وسائل سياسية وقومية وحتى عسكرية في محاولة منها لطمس معالم الوجود القومي للشيشان، فظهرت وكرد فعل عليها حركات مسلحة متطرفة اتخذت من العنف مساراً لنشاطها متعكزة في بنائها الفكري على الدين. على هذه الخلفية رسمت مرتضاي شخصياتها داخل المعسكر وتركز الحدث فيه على صبي اسمه رمضان وأخواته ووالدته التي جاءت بهم إلى النمسا بعد موت زوجها في عملية انتحارية ضد الجيش الروسي، من جهة وبين عيسى الذي نجا من الموت في نفس العملية التي خسر فيها صديقه والد رمضان. ثلاثة أطراف للحكاية اثنان منها: العائلة وعيسى كانا يتفاعلان مع المكان الجديد، في حين كان الطرف الثالث حاضراً من خارجها عبر سيرة الأب القتيل وقضيته إلى دفعت بالكثير من الشيشانيين للهجرة إلى أوروبا وطلب اللجوء. بَنَت الإيرانية مرتضاي فيلمها على فكرة «الغفران»، فالشخصيات المتألمة من تاريخها القاسي والدموي تريد التخلص منه بالاندماج المعقول مع المجتمعات الجديدة، عبر عنصرين مهمين: اللغة والعمل. يبدو الفيلم في ظاهره، إذا ما أبعدنا العنصرين المذكورين وكأنه يريد تزكية السلوك المتطرف، لكن بوجودهما سنفهم رغبة رمضان ووالدته في تأمين حياة جديدة تخلو من هَم البلاد التي تركاها ولكنها ما زالت تصاحبهما في رحيلهما القسري. تفاصيل الحياة اليومية تلملم المشهد العام للمهاجرين وبخاصة الشيشانيين وتعطي صورة واضحة للتصادم الثقافي الحاصل داخله وخارجه أيضاً، وتأثير ذلك المباشر على موقع الأطفال الاستثنائي في معادلات التأقلم المعقدة. طفولة رمضان وعقدة حرمانه من الأب، وخوفه على أمه وأختيه الصغيرتين يمثل القاعدة النفسية الهشة التي يشترك الكثير من الأطفال معه فيها لكنه يتميز عن بعضهم بدواخل طيبة، تتراجع قوتها كلما عاشر أطفال السوء أو تذكر يتمه وحاجته للتذمر من جور الزمان عليه، بالقيام بأفعال يندم كثيراً عليها، متقارباً مع تجربة صديق والده الذي يعترف بارتكابه أخطاء كثيرة خلال حياته ويلمح بشكل أكبر إلى تلك المتعلقة بنشاطه السياسي المسلح، الذي فقد خلاله بعض أصابع يديه، ولم تقعده الإصابة رغم جسامتها، عن الحركة والعمل. ساحة غفران يتحول المعسكر في «ماكوندو» إلى ساحة للغفران وغسل الآثام المتركبة في داخله أو بعيداً عنه، ما يضعه بين قلة من الأفلام التي تصنع جواً تسامحياً مقبولاً بين عناصر متصادمة، لكنها تجتمع في مكان واحد يسمح لها بركن خلافاتها جانباً أو قسم منها، ليفسح المجال أرحب للعبور إلى مساحات جديدة تتفاعل فيها الحيوات وتتشارك وفق اتفاق على أن الاحترام المتبادل وقبول الآخر شرطان أساسيان فيهما، وهنا يأتي الحديث عن الطرف الحاضن والمتحكم في المعادلة، بطريقة لبقة فيها من الذكاء الكثير متمثلاً في التقاط تعبيراته السلوكية. فبقدر ما يبدو الصراع الداخلي معقداً عند المهاجر الشيشاني لارتباطه بموروث ديني وثقافي مختلف عن ثقافة الوسط الحاضن، ما يدفعه إلى الانسحاب نحو الذات متخذاً من الدفاع عنها مبرراً لكل تصرفاته مع الآخرين وموقفه منهم، يبدو من جانب آخر عند النمساوي أكثر يسراً بسبب قلة ما فيه من تداعيات على حياته، فهو لا يعرف هؤلاء البشر إلا من الخارج، لا يعبأ بهم إلا حين تتصادم مصالحه مع مصالحهم، ولايتدخل بينهم بقوة إلا عبر مؤسسات دولته مثل الشرطة ودوائر الشؤون الاجتماعية المهتمة بحياة طالبي اللجوء في بلاده، ومع هذا، فما أن يقترب المهاجر الذي يقبل بالشرطين المهمين: تعلم اللغة والعمل، حتى يغير موقف الطرف الثاني منه، لهذا تمكن المراهق رمضان سريعاً من تجاوز أخطائه وتصالح سريعاً مع عالمه الجديد، ومع ماضيه، في نفس الوقت، حين قبل صداقة عيسى ليؤسس صداقة مختلفة عن صداقات الأب القديمة التي بُنيت على مشتركات سياسية وأفكار تقبل بالعنف، إلى أخرى أكثر تسامحاً متصالحة مع حاضرها وشروط عيشها الإنساني. سودابي مرتضاي جاءت من الوثائقي إلى الروائي متسلحة بقدرة نادرة على القص، والتقاط التفاصيل عبر كاميرا شديدة الحساسية تعرف ماذا تأخذ من المشهد الذي صنعته رؤية مخرجة موهوبة، تناولت موضوعاً شائكاً بروح تصالحية ربما لا تتوافر في الحياة نفسها، لكنها ودون أي عوائق تستطيع أن تحضر في السينما بوصفها فناً يتحمل أفكاراً وعوالم متخيلة عن الواقع الذي نعيشه ويمكن تجسيده بأدواتها التقنية الخاصة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©