الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سلمى الشرهان.. أم التمريض

سلمى الشرهان.. أم التمريض
5 مارس 2014 21:32
أم التمريض.. في وعيك المبكر، جذر وسبر، وخبر، وأسرار، وإصرار لإرادة ما فطنت يوماً لمعنى الوقوف عند جليد الكسل.. كنت النحلة والنخلة، وسنبلة المعاني الرفيعة تطوف يداك عند الأفئدة، وترفع الأسئلة، حيث يكمن الداء، فتكونين أنت الدواء والشفاء، أنت الهوى المبلل بريق السماء، أنت القدرة الفائقة المعتقة من صبر وحب.. سلمى الشرهان.. تذهبين الآن بطائرة مخطوفة، بعد طواف، وإسعاف، وتماد في المثل العليا، أغدقت وأسقيت، وأمعنت في النظر نحو أبدان، وأشجان، وبحث عن عشق لمهنة ما خالجت غير قلوب الملائكة ولا فكر في متاعبها اللذيذة، غير فلاسفة المعرفة، ومن جادت قريحتهم بسخاء وعطاء.. قد لا يذكرك أحد، فلا لزوم للراحلين عند الضمائر المفرغة، ولكن قدميك الحافيتين مرسومتان عند وديان ووهاد، موشومتان على صدر التراب، تحكيان قصة تروي للقادمين من زاوية المدن الصاخبة المزدحمة بالضجيج أنك كنت الأيقونة، أسطورة المكان بلون أشجار الغاف، وجسارة جذورها كنت سيدتي القلب عندما يصبح وهجاً، وسراجاً يضيء سماء الآخرين، بلمسة حانية بهمسة متفانية، بأغنيات الصيف عندما يشتد الوجيب وتبدو الأسرَّة البيضاء أجنحة الطير المكسورة، تبدين أنت الورقة المهفهفة على وجوه استولى عليها الشحوب وعيون فارقتها لمعة الفرح، تبدين أنت سيدتي مثل الحلم، مثل القلم يضع الحبر على صفحات مهملة ويعيد إليها البريق، كنت البلسم الأنيق، والنهار المستفيق من غيبوبة الأبعاد الأربعة.. كنت من صيدلية النخيل وحتى مستشفى سيف فَراشة بلون الفرح، كنت الخُصلة المدللة، على جبين المرضى، كنت الخِصلة المنشودة، في وجدان من عشقوا «سلومة» والمحيا المبتسم.. فلسفة العطاء سلمى الشرهان الجدل المنطقي في بناء الفكرة، وفي إنشاء فلسفة العطاء، أنت مثل رابعة العدوية، في التبتل وإقصاء العبوس، حيث تستقر الابتسامة وتحشد جيوشاً من أشعة الفصاحة، والحصافة، وإغناء المكان، بثروة الضمير الحي.. كنت سيدتي عنواناً لأشرعة رفرفت في ممرات المستشفى القديم رافعة الموال، لأجل الناس أجمعين متكلمة باسم الحياة، يوم كانت الحياة عجوزاً خجلى تتعكز على عصا الشح، متوسلة لمن يأتي بطاسة يملأ فراغها من استيقظ من سبات الهلع.. كنت سيدتي في وعينا قصيدة عصماء قافيتها المئزر الأبيض، وبحرها التاريخ الطويل في وخز بلا ألم.. كنت سيدتي جزيرة مهيأة لمعانقة موجات البحر، ثم اصطياد سمكات الفرح، على شفاه الذين يهدونك التحايا والشكر الجزيل، لأنك قطفت الثمرات من فوق أغصان الشجر، وأهديتها عربون تعارف لمن افتقدوا الأسرة متوخين النجاة من صهد وحرقة.. سلمى الشرهان.. تذهبين اليوم، ولكن ذلك المقعد الخشبي القديم مثل حارس ليلي يقظ، يلملم عظامه عند زاوية قصية، ويبدأ في التفكير، والسؤال الأول كيف يهزم الموت من أحب الحياة؟ ثم يغمض العينين، على صورة مثلى لوجهك، ثم يفتح العينين يحملق في الوجوه الشاحبة، يبحلق في المعاني المضطربة، يفتش عن وجه بلا تجاعيد، يبحث عن جبين من دون أخاديد، لا شيء سوى بعض أشياء.. بعض كائنات تمر من هنا في هذا المستشفى، بلا وجوه، وبلا ملامح، وكأنَّ رحيلك، اقتحم المكان واختطف الملامح كلها، كون الملامح بلا قلوب كقلبك لا تبدو ذات قيمة. هنا.. هذا المقعد، هذا المعبد، وكأنه صومعة بوذي قديم يتهاوى مذعوراً من ألم الفراق، يتوخى الصبر، والصبر مثل سكين مثلومة لا تقطع شطائر الشك، كأنَّ اليقين بفراقك، يحزم حقائبه ويغادر، كأن الحنين يجفف عشبه، وينأى بعيداً كأن البوح الرصين، يكبل الشفتين ويمضي بلا رجعة.. سلمى الشرهان.. هنا تبدو المعضلة، عندما يغيب الجسد، ولا يبقى غير صورة باهتة في عيون اللامبالين، وعندما تطير الروح بأجنحة الأبد، ولا يبقى في المكان سوى رائحة الورد الذي ذبل، ولوحة يغشاها غبش العيون التي لا ترى أبعد من أخمص القدم.. أبواب مواربة سلمى الشرهان.. تبتعدين وكأنك تعاندين عندما تتركين المكان بأبواب مواربة يطل من خلالها الماضي بوجه قلق، وعيون فيها رمد، وشفاه ناشفة.. شيء واحد فقط ما زال ينحت في التراب، شيء واحد ما زال بغطرسة العشاق يسكب السماء على الجذور اليابسة، ثم يعلق قناديل الأمل على أغصان لم تزل غضة، شيء واحد، هو التاريخ، هذا الشيخ الكبير الذي لم ينبت شاربه ولم يحلق لحيته، محتسباً لأمر الحب الذي راوده ذات مرة، وقال له هيت لك نفسي، فاحتسى منه كل هذا الوجد الطفولي، مكتسياً بالمثل التي لا يمكن أن تمحوها مراحل ما بعد الفراغ.. سلمى الشرهان.. تعلمت الطبابة، بجسارة الخنساء، ورفعة نسيبة بنت كعب، وأخذت من شجرة الدر، الوعود الإلهية، بأنك امرأة لا تخذلها ذكورة الصحراء الوعرة ولا تثني أغصانها رياح العيون الحمراء، ولا تنحني لعاصفة تهب مهاجمة كائنات ظنَّت أنها الموعودة بالفحولة فحسب.. سلمى الشرهان.. جئت إلى هنا بصحبة القلب الكبير، وذهبت ملفوفة ببياض التاريخ ونصوع السريرة موقنة أنك في المثال، امرأة من اللائي يخصبن الحياة بالمعاني الأصيلة ويمتطين الصهوات والزمام بأيديهن عصا سحرية.. بل أسطورة أقدم من الزمان. سلمى الشرهان.. سلومة، الكائن المقدس، قد تهجره القلوب، لكنه يبقى محروساً بأيدي الآلهة، يبقى في الترتيل جذر الوعي، وخدر الفكرة مجللاً بتعاويذ الناس الأوفياء، مبللاً بريق الذين أحبوا سلومة بطيب خاطر كونها الرقية، على السواعد، وحرز المواعيد المؤجلة. سلمى الشرهان.. نخوة التضاريس ساعة صرخة الطيور من جفاف البحر، واعتكاف الشجر، على قرطاس بلا حبر.. سلمى الشرهان.. يقظة المساء، لحظة غياب النجوم وانشغال القمر، بسحابات جرت ذيولها محتشدة كأنها الغضب.. كأنها العتب، كأنها النقمة المجلجلة، في غضون التضاريس كأنها الكسرة على اسم ممنوع من الصرف. فضاء الذاكرة سلمى الشرهان.. لا تنجلي الفكرة لمجرد أن يطوي السجل قماشته ويختفي في الغياب، متسرباً من بين أصابع الزمن كأنه الدم المراق لا تنجلي العِبرة، لمجرد أن يلف الجسد لفيفه وترتاح الروح من سجنها المؤقت كما عبر أفلاطون «إن الجسد سجن مؤقت للروح» بل أنت سيدتي في الجسد روح، وخارجه، أجنحة ترفرف في فضاء الذاكرة، أنت المساحة المتبقية من زمن يسقي أعشابه بالحب ويجرف ترابه بأنامل، أشبه بوريقات اللوز، أنت سيدتي مثل كل الأشياء التي لا يحتلها الموت، كونك اكتسحت الحياة بمضغة أشبه بشراع السفينة.. أنت سيدتي ملحمة بابلية، مأخوذة من إله الشمس، منسوخة من بؤرة العين مكتوبة على مقام لا يبلى ولا تعريه الرياح.. سلمى الشرهان.. عند مدخل المستشفى القديم في نخيل الحديبة، تبدو الصورة مثل الكوميديا الإلهية لست أنت دانتي، لكنك بنت القصيدة التي لم يجرؤ شاعر على بوحها، أنت.. أنت الفحوى والبلاغة، ونبوغ الفطرة، أنت النقطة الفاصلة ما بين ماض لف عباءة وأشاح بوجوم، وحاضر يبدو كأنه الطفل المشاغب يخربش في دفتر الأيام، والأشياء يغربلها بفجاجة، ويختفي خلف فظاعاته المرعبة.. سلمى الشرهان.. قصيدتك في الحياة، لمسات حانية على صفحات الجسد، بوحك ابتسامة مثل تغريدة.. مثل هديل بعيد يرتب مشاعرنا ويؤثث القلوب، بأحلام أزهى من لمعة النجوم الطالة في صدر الكون.. سلمى الشرهان.. ماذا بعد الغياب غير الحضور المؤكد والترجل على تربة الذاكرة بأناة وسؤدد الذين لا يذهبون إلا لأنهم نجوم في الحضور، إلا لأنهم صوت صداه في أوعية القلب، يحرك المكامن بكل صرامة وحزم. سلمى الشرهان.. في فضائك دارت أنجم وحلقت طيور وطافت نيازك تبحث عن أصل الكلمة «الحب» كنت سيدتي علامة الجودة في صياغة المفردة، وتهذيب الجملة، بلسان وشفتين، وما بين الحاجبين تزهر الأنفة وترتاح على الجبين، علامة التعجب من خلق الله الذين لا يعرفون الحب، ولا يطوون المعاني إلا بقرطاس خشن، ولا يطوفون في العلاقات الإنسانية، إلا عبر التضاريس الوعرة. سلمى الشرهان.. أنت هناك في القبر في مهبط الصبر، أنت في التلاشي، أرى قميصك الأبيض مزهواً بجملة اسمية ناصعة المعنى.. سلمى الشرهان.. أم التمريض في الإمارات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©