الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجه فلاديمير ماياكوفسكي: الجندي المجهول

وجه فلاديمير ماياكوفسكي: الجندي المجهول
25 فبراير 2015 21:20
وجه تتاريّ، صلب كحجر جورجي، صامت بشكل يضمر زلزالاً كبحيرة سلافية، مصطخب بغضب لانهائي... إنه وجه الشاعر المستقبلي، الروسي فلاديمير ماياكوفسكي. الجاذبية المرعبة التي كان يشعر بها ماياكوفسكي تجاه روسيا، هي نفسها الجاذبية المرعبة التي يشعر بها المحدق إلى وجهه الجاف والقاسي. القسوة والجفاف لا يعدمان هنا الهشاشة الخفية التي تتوارى خلف قناع الفظاظة النبيلة. كأنّ الثلاث عشرة سجينة اللواتي ساهم في تهريبهن وهو بسن يافعة من سجن نوفنسكايا، يضئن وجهه كنجوم ليلة صيفية، غير أن وجهه يستعصي على الصفاء، ويوغل في زخم تلبده وتقلبات غيماته المستشرية. ثمة غابة رصاصية تتلبس ملامحه ذات التهويمات الجلفاء، إنها الغابة التي كان يمتهن أبوه حراستها في قرية «بغدادي». مع وجه صارم وحازم وصريح في كثافة صلابته كهذا، يشعر المرء أنه أمام حالة وجودية طارئة، حالة تاريخية فارزة، يضطلع فيها دال الوجه بعلامة: قف. علامة تشهر إشارة نقطة نظام، علامة ذات جسارة عالية المنسوب، تجابه فيها الذات الفردية أمّة بأكملها، إنها علامة تكتنز الصرخة الروسية المدوية، الصرخة المطلوبة والمفتقدة، الصرخة التي يصحح فيها صوت الفرد انحرافا جارفا لتاريخ شعب ومجتمع... هكذا يتماهى الوجه الطارئ لماياكوفسكي مع ثورة نصه الشعري، يتماهى مع تناقضات الجمال في مخيلة الغضب العام إزاء الصراع الطاحن للأفكار والمادة. لا يمكن لقراء ماياكوفسكي، والعارفين ببركان رفضه، أعداء وأصدقاء على حد سواء، أن يفصلوا وجهه عن أشلاء صيحته البكر: (فليسقط حبكم. فليسقط فنكم. فليسقط نظامكم). صيحة نارية لا تحتكم إلى موقف عدمي، بل هي تعي بشكل حاذق وحكيم، الصلة المفقودة في الثورة في علاقتها بالجمال والذائقة والقيم الفنية والحرية والابداع المفتوح، حتى يكون لجذرية التحول معناه الأنطولوجي الحقيقي... لم يكتف هذا الوجه الطارئ والملحاح بإنتاج الزعيق بالكلام، فالأمر ليس محض إثارة سريالية ولا موضة حزبية ولا استقطابا نرجسيا تافها لانتباه العامة بالاستفزاز الرخيص... ما يشفع لصيحته الجسورة هو انخراطه الميداني والعملي في معترك اليومي، بسلاح شعريته الصادمة، حطم الأوثان وجها لوجه في صلب الميدان... ثمة وجوه تغتني بأطياف الأمكنة الأخرى التي تزورها أو تسافر إليها إما منفية أو لتقيم فيها عن طواعية، وإما كمحطة عبور، وجه ماياكوفسكي ينتمي إلى طينة الوجوه التي تعبر الأمكنة الأخرى فتترك أثرها في عمق تلك الأمكنة وليس العكس، الأمكنة التي عبرها ماياكوفسكي هي التي اغتنت بأطياف وجهه وليس العكس، ففرنسا والمكسيك وأمريكا وألمانيا لم تنهب وجهه، ولم تخدشه بعلامة انبهار أو تحول، هو القائل بهذا الصدد: «جئت لأدهش وليس لأندهش «. إذ يبدو وجه ماياكوفسكي صلبا في إرادته وصارخا في اتزانه، فثمة رومانسية لاذعة تتوارى خلف قناع فظاظته النبيلة، رومانسية لا يمكن أن تبصرها إلا النساء ذوات الحس الشعري اليقظ، تلك الرومانسية القلقة والمأساوية التي أيقظت مناجمها ماريا ألكسيفنا دينوسوفا سليلة مدينة أوديسا، ومن بعدها، تتيانا ياكفلوفا في باريس وليلا بريك في موسكو... تجارب صارخة صدعت الوجه الذي اصطلى بخيبة كونية، خيبة أو خسارة ستشرخ الوجه الذي ما فتئ يقض ككابوس مضجع البيروقراطية والانتهازية، فيتضاعف سعار نقمته على ابتذال ووحشية البورجواية التي نهبت حبه الضاري للأوديسية ماريا ألكسيفنا دينوسوفا... ومع ذلك أضاء وجهه جرح الخيبة ولم ينكسر عود الصلابة السمهرية، وظل الوجه متألقا بوسامة المجابهة. متأمل وجه الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي في هذه الصورة، لا بد أن يقف عند النظرة الغائرة التي يسددها بعينيه الحادتين. كأنها نظرة إدانة للعالم. كأنها نظرة تشجب حالة عامة من الانحطاط. كأنها نظرة تقرع أجراسا، تنبه بملء اليقظة اللاذعة إلى شيء طارئ... هي نظرة كما لو توبخ وتؤنب ضمير مجتمع بأكمله وليس شخصا أو فردا على حده، بل توبخ الإنسانية قاطبة. يتناغم مع هذه النظرة الموبخة والمؤنبة انزياح لظل معركة ضارية، معركة لا علاقة لها بالثورة البلشفية، هي معركة خاصة، ذاتية، جوانية مع الخارج، لنقل أن الوجه يفصح عن جانب مستعر من تصفية حساب الشاعر مع العالم. ثمة زخم من الألم يتبادله الوجه مع هذا العالم، فصرامته الموخزة ما هي إلا سد منيع ضد الإهانة والذل واللاكرامة. كما تتحطم التجارب الإنسانية المضيئة على صخرة الواقع المأساوي، على صخرة الحياة اللاعادلة، يتحول وجه ماياكوفسكي إلى صخرة تتحطم عليها الطيور المرعوبة لوجوده وصداقاته وتاريخه. لكل ثورة صوتها النقي، صوتها النابت في الظل، صوتها المهمش والمقصي، كما لكل ثورة جنودها اللارسميون، جنودها الأحقاق الذين خلقوا التحول وأحدثوا الرجة المستحيلة، جنودها المنسيون الذي صنعوا مجدها ولحظتها الشاهقة... يملك ماياكوفسكي في خندقه الشعري الخاص، كل مواصفات هؤلاء الجنود العتاة، أصحاب الصوت الزمردي، مواصفات نبيلة لا يشوش عليها انتحاره الصادم، فانتحاره كان قصيدته الأخيرة التي حاول بها أن يحدث كوة في حصار الوجود... قصيدة لاسعة طالما أومأ بها الجليد السيبيريّ الذي يطهم وجهه، الوجه الطارئ الذي تصطخب بروقه في الصورة، كم يشبه وجه الجندي المجهول لكل ثورة شهدها تاريخ الإنسانية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©