السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تصفية حساب مع سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي

تصفية حساب مع سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي
25 فبراير 2015 21:07
بدءا، فإذا كانت الجائزة تقدم أصواتا روائية عربية جديدة من مختلف الجغرافيات العربية في كل واحدة من دوراتها، إذ هي تمنح لرواية وليس لتجربة روائية «مكتملة»، الأمر الذي يُحسب لها، فإن ذلك يجعل من الصعب التوقع، بدقة، أي من تلك الروايات سوف تبلغ القائمة القصيرة، ثم أي من هذه العناوين سيحظى بالجائزة. بمعنى، ان من العسير تعقب «مزاج» لجنة التحكيم وإلى أين يسير، بالطبع إذا صح أن هناك مزاجا عاما للجنة يتحكم باختياراتها والذي يحدد موقف القارئ منها لجهة الرفض أو القبول. وعموما فإن الجائزة غالبا ما تثير هذا النوع من «الخلاف» الإيجابي معها إذ تأتي بنتائج هي غالبا غير متوقعة من قبل الصحافة الثقافية العربية مثلما من قبل قارئ رواية محترف. المخيّلة وتحولات الواقع في أية حال، وبالقياس إلى الروايات الست عشرة التي بلغت القائمة الطويلة، إذا صحّ اتخاذها نموذجا لمجمل ما يُكتب روائيا بالعربية الآن، فإن من الممكن القول: لم تنفصل مخيلة المدونة الروائية العربية في يوم ما عن التحولات الاجتماعية التي تحدث في الواقع الراهن. لقد رصدت هذه الرواية الانعطافات الحادّة في اللحظات السياسية الحرجة التي كانت تمرّ بها المنطقة، خاصة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، الأمر الذي برز ثانية بقوة مع ما يسمّى بظاهرة «الربيع العربي» وما رافقه من طموحات وآمال عريضة ثم ما واجهه من خيبات عمّقت من عزلة الفرد العربي وجعلته أكثر ابتعادا عما يحدث من «سرقات» لتلك الآمال وأكثر التصاقا بالبحث عن أسباب لقمة العيش. الأمر الآخر أيضا هو أن مجمل الروايات لم تُحدِث تلك الاختراقات النادرة في تقنيات السرد وطرائقه وأساليبه، ولم تظهر تلك الروايات التي كان بإمكانها أن تُحدث خلخلة من نوع ما في نظرة القارئ إلى السرد الذي بات عاديا، الآن أو بالنسبة لقارئ متابع أقلّها، لتأتي بجديد يجعل من تلك الرواية علامة فارقة لصاحبها مثلما للصنيع الروائي العربي في لحظة راهنة. إنما بالطبع، باستثناءات نادرة، يمكن للقارئ أن يشعر بأن هذه الرواية بالنسبة إليه هي رواية جيله مثلاً. وهي ملاحظة أساسية لابد من أن أسجلها، وربما حدث ذلك بسبب أن هذه الروايات لم تحاول اختراق روايات أخرى من الاتجاه نفسه، والتقدم خطوة أو خطوات جديدة أخرى. من دون أن يعني ذلك أن أياً منها تخلو من جماليتها الخاصة. عاد منطق السرد كرونولوجيا إلى حدّ بعيد، إذ تبدأ الرواية من النقطة ألف لتمضي قدما إلى نقطة أخرى بحسب طول نَفَس الروائي، ثم تنتهي فيها، في سياق درامي يراهن بالأساس على جماليات الحكاية التي يسردها الراوي أو الرواة وليس على جماليات السرد أو الاثنين معا. وهنا، إذا صحّ ما سبقت الإشارة إليه (نسبياً بالطبع)، فإنه من الممكن النظر إلى الروايات الست عشرة التي أمكن لها الوصول إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية باعتبارها نموذجا جيدا لواقع حال الرواية العربية مثلما هي عليه تماما. اتجاهات روائية يمكن «تصنيف» هذه الأعمال الروائية إلى ثلاثة اتجاهات فنية تبعا للمتن السردي ومضمونه، يبدو أنها هي الأكثر شيوعا من بين الاتجاهات السائدة في الرواية العربية (الآن، وهنا): يتمثل الاتجاه الأول في الروايات التي تناولت أحداث «الربيع العربي»، سواء اتصلت بنيتها الحكائية بما هو سابق عليها أم لا. حيث يلاحظ المرء ارتفاعا في «منسوب» خيبة الفرد العربي في البلدان التي شهدت هذا «الربيع» بكل تحولاته. ومن أمثلة هذا الاتجاه: حيّ الأميركان لجبور الدويهي (لبنان)، وابنة سوسلوف لحبيب عبد الرب سروري (اليمن). أمّا الاتجاه الثاني، فهو ما يمكن تسميته، تبعا لبعض التسميات السياسية الرائجة في وسائل الإعلام العربي، برواية «النأي بالذات الروائية» عما يحدث كله في المنطقة العربية، وكأن ذلك ردّ فعل «منطقي» على ما يحدث، أو احتجاج على ما آلت إليه الأمور في الواقع السياسي العربي فانقلبت إلى غير ما كان محلوما به، بحكم تداخلات وتعقيدات محلية وإقليمية ودولية، ومن نماذج رواية «النأي بالذات الروائية» هذه: الراويات لمها حسن (سوريا)، وريام وكفى لهدية حسين (العراق)، وغريقة بحيرة موريه لأنطون الدويهي (لبنان). وهي جميعا تتناول الحب، على وجه التقريب، إنما من مقاربات إنسانية مختلفة تتعدد وتختلف بتعدد واختلاف الشخصية الساردة في الرواية من امرأة إلى رجل. أما الاتجاه الأخير فهو الرواية التي تتناول بشكل مباشر الحراك الاجتماعي – السياسي الذي كان سائدا في فترة سابقة في هذا البلد العربي أو ذاك، وبتركيز على التحولات في الواقع الاجتماعي الذي أفضى إلى ما هو عليه واقع الحال الآن، حيث من الممكن تسميتها تبعا لذلك بحسب البلد المنشأ للحكاية ذاتها، من دون أن يعني ذلك أنها رواية «مكان» فنصف هذه الرواية بأنها إماراتية أو أردنية تبعا للمكان الذي تدور فيه الحكاية، ومن بين نماذج هذا الاتجاه في القائمة، على سبيل المثال لا الحصر: حياة معلقة لعاطف أبو سيف (رواية فلسطينية)، والطلياني لشكري المبخوت (رواية تونسية)، وطابق 99 لجنى فواز الحسن (رواية لبنانية – فلسطينية)، وممر الصفصاف لأحمد المديني (رواية مغربية). إنما هل يشير اختيار لجنة التحكيم أربع روايات على الأقل تنتمي إلى الاتجاه الأخير إلى شيء ما؟ ما يمكن قوله هنا إن أعضاء اللجنة، بسبب انحياز كل واحد منهم إلى جماليات روائية تخصه بالطبع وتمثل ثقافته وذائقته، بالإضافة إلى ضرورة التوصل إلى صيغة ما تعزز عمل اللجنة وتعجّل من سير وتيرته إلى الأمام، فقد كان هذا الاتجاه الروائي هو الذي من الممكن له أن يكون نقطة توافق بين الجميع نسبيا، من دون أن يكون المقصود من هذا القول بأنه يتضمن أية إشارة إلى تدّني في المزاج العام للجنة أو في الروايات ذاتها. إذ إن كل من هذه الروايات الأربع التي جرت الإشارة إليها من بين عناوين القائمة القصيرة تمتلك امتيازها الخاص وجمالياتها التي تجعلها جديرة بشرطها الفني وبالقراءة من ثمَّ. ممر الصفصاف في «ممر الصفصاف»، التي هي رواية طويلة النَفَس، بمعايير التلقي السائدة في هذه الأيام، يعود أحمد المديني إلى تشريح الواقع السياسي – الاجتماعي عن طريق شخصية حارس عمارة، يكتشف من خلاله الراوي الخمسيني الأعزب كل ما يختبئ من حراك اجتماعي في «مجتمع» العمارة، مجاز بلد بحجم المغرب، بات أكثر ضيقا بحداثته ويمارس نوعا من الرقابة أو «المحافَظَة» على هذا الحراك فيمارسه على نحو سري بل بكثير من الغرابة والفانتازيا وبما ما لم يكن يشهد المجتمع الأهلي المغربي في أزمنة سابقة كالسبعينيات أو الثمانينيات مثلا هي التي لم تكن تخلو من الاختناق السياسي الاجتماعي الذي لم يكن ليبلغ هذا المستوى في المجتمع المغربي راهنا كما هي الحال في «ممر الصفصاف». إن الرواية ببنيتها وشخصياتها وأحداثها وبالتالي دراميتها كما لو أنها فيلم سينمائي يدور في مخيلة القارئ، رغم بنيتها الروائية المتبلورة والصلبة والمشدودة إلى الواقع الاجتماعي بكل تنويعاته وتعبيراته عن ذاته. جنى 99 بالمقابل، فإن رواية «جنى 99» لجنى فواز الحسن، تدور حول شخصيتين مختلفتي المرجعيات السياسية إلى حدّ التناقض والاختلاف، إذ بينما البطلة (هيلدا) هي ابنة أحد جنرالات الحرب الأهلية اللبنانية المسيحيين المتورطين في مجزرة صبرا وشاتيلا (1982) يكون هو (مجدي) أحد ضحايا المجزرة التي فقد فيها أمه. تختار الحسن لبطليها مكانا نائيا لتصفية حسابات «عاطفية» باهظة هو مدينة نيويورك، حيث الطريق إلى هذه المدينة كانت أقصر، بالتأكيد، من الطريق بين شاتيلا والجبل، وبوصف ذلك جانبا من الاغتراب الذي يعاني منه الاثنين، ويعمق من هذا الإحساس بالاغتراب ثِقَل وطأة الذكريات الخاصة بكل واحد منهما على شخصيته. وهنا تقود جنى فواز الحسن مصيري الشخصيتين إلى نقطة ذروة واحتدام تنهتي بافتراقهما إلى عالمين مختلفين حيث بات كل منهما مختلفا عما كان عليه في اللحظة السابقة للقائهما. ما يثير الاهتمام أيضا في «طابق 99» هو تحليل الشخصيات، تحديدا في تلك اللحظات من الغياب والافتقاد الذي يشير إلى أن التجربة قد استنفدت ذاتها ولم يعد الاستمرار ممكنا. حياة معلقة أيضا «حياة معلقة» لعاطف أبو سيف هي رواية من هذا النوع الذي تدور فيها الأحداث بين بلاد متعددة، لكنها تبقى مشدودة إلى مكانها الأول، أي غزة وبالتحديد مخيم جباليا، فهو يمثل في الرواية نقطة الانطلاق والانشداد معا للشخصيات لتكشف من خلال حراكها الإنساني في المخيم ما طرأ عليه من تحولات وتبدلات عبر السنوات الأربعين الأخيرة أقلها بدءا من الصور المعلقة على الحائط وليس انتهاء بالبلاد البعيدة والغريبة التي أثمر فيها الحب، مرورا بطابور طويل من الشهداء المنسيين وغير المنسيين، أولئك الذين ماتوا على عجل، أو بالمصادفة أو بالملاحقة وتقصد القتل. يشعر المرء في «حياة معلقة» أن المخيم نابض، وأنه لم يتوقف عن الحركة والدوران بالسرعة ذاتها التي يدور بها العالم من حوله. مخيم آخر مختلف ومتجدد ولا يطابق تلك الصورة التي في الكليشيهات والبوسترات وتمور فيه حياة درامية بشدة رغم أن الرواية تتخذ من مصائر أفراد لعائلة واحدة فكرة أساسية تدور حولها الأحداث والأمكنة، إذا جاز التوصيف. وهذا ما يجعل رواية عاطف أبو سيف مختلفة عن سواها مما كتب في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أي أن «المخيم الفلسطيني» لم يعد «ينجب زعترا ومقاتلين»، بعبارة محمود درويش، بل هو حيوات عادية وشخصية مئة بالمئة، إنما جديرة بأن تُعاش. الطلياني وأخيرا إلى «الطلياني» لشكري المبخوت، وهي رواية مفاجئة لقارئها إن لم يقرأ لصاحبها من قبل، فالروائي يُظهر مقدرة عالية على السيطرة على شخصياته، فيبدو شبيها بجنرال يقود جيشا ويحرك مصائر أفراده بالاتجاه الذي ينشده هو. تأخذ «الطلياني» قارئها من يده إلى حيث سبعينيات تونس ثم ثمانينياتها لترصد تلك المرحلة الحساسة من عمر البلاد التي جرى فيها «قصف» زهرة اليسار بكل تفاصيله وأنواعه، فأينعت مكانه وبرعاية من الدولة «اسلامويات» عندما اشتد عودها كادت تأخذ الدولة ذاتها معها إلى المصير المجهول. طبعا تلك هي المقولة الواسعة للرواية، إذا صحّ التوصيف، ويلمسها المرء عبر شخصيات مثقفة يتنازعها الإحباط تارة والأمل تارة أخرى، كما نقرأ في تضاعيفها فصولا من عذابات الطبقات المهمشة والفقيرة. «الطلياني» باختصار هي قصة صعود اليسار في تونس ثم مهاجمته، ونفيه من الحياة الاجتماعية، و«تطفيشه» إلى خارج البلاد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©