الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أبجديةٌ نائية*

أبجديةٌ نائية*
25 فبراير 2015 21:15
(1) لستُ موجوداً بالفيزياء، أنا الإهابُ الطفيفُ. حشدٌ من الأثير البارد، يتحوّل منتقلاً إلى سخونة ثم إلى حرارة وسرعان ما يلتهب المكان، فلا نكاد نلمح من الأثير غير سديمٍ يتصاعد في هيئة ملائكة صغار يفرُّون من اللون. فينتبه غوغان ويوسّع حدقتيه بقوة اللأوعية المستطرقة، ثم يمدّ يده محاولاً الإمساك بشخصٍ يجلس أمامه على حافة السرير. حين لامستْ يده جسدي، سحبها بسرعة كمن مسَّ جمرة بهذا الحجم. يقف غوغان تاركاً المقعد نحو الباب، ثم يغير رأيه بغتة ويأتي متجهاً نحوي بوجل، في محاولة لاكتشاف التحول الذي يجتاحه في الصمت والكلام. نهضتُ في مواجهة غوغان وجسدي يتأرجح بين المادة والأثير. لفحَ اللهبُ وجهه كما لو يقفُ أمام فوّهة تنور مفتوح. تراجَعَ، واستدار بسرعة ناحية الطاولة الجانبية في الغرفة، تناول الدورقَ الخزفي، وعاد ناحية السرير وصَفَعَ الماءَ بجسدي دفعةً واحدة، بقوة من يريد أن يصدَّ ناراً تهاجمه. فتصاعد صوتُ نشيش نارٍ مطفأةٍ، تبعه سقوطُ جسدي على السرير. حريقٌ صغيرٌ تمكن غوغان من تفادي انتشاره في المكان. احترقتُ. (2) هل يمكن التثبّت، ما إذا كان ذلك حقيقياً، أم أننا ضحية اندفاق العواطف المتأججة، أم أنها تفجرات الشمس المكنوزة في جسدينا لفرط المكوث الطويل في نهارات الحقل. جفَّ قميصي، وفيما كنت أستعيد حواسي، أصبح غوغان خارج البيت في طريقه إلى الهاوية. ترك المقعد وحيداً. المقعدُ الفارغ يشِي بشخصٍ مفقود. ثمة الكثير من المقاعد قيد الفراغ عاجلاً أم آجلاً في الوقت والمكان. ما الذي يحدث، اقتربتُ لكي أرى نفسي في المشهد، هل أنا هنا حقاً. ثم، ماذا يعني (هنا). هل هو حكمُ زمانٍ أم مكان؟ أسئلةُ شخصٍ يتطيَّفُ ويتشبَّحُ. صديقٌ يتوجبُ أن يكتبَ الكلمة قبل أن يقولها. صديقٌ يأتي من الرواق القصيّ من التجربة، قراءته لا تكفيك وتقصر عنه الدلالات. امَّحَتِ التخومُ بين أن ينام حرفٌ في مقعدٍ في مقهى الليل في قريةٍ ضائعة، وبين أن تسهر في زرقةٍ في ريحٍ باردة في حقلٍ تُجرّده غربانٌ في طبيعة خائرة. هل أنت صديقي يا أخي؟ الصداقات تتعرض للتلف عند منعطف الأحلام. صديقٌ يرسمُ معي كلمات النشيد العظيم. صديق يمحو عني مواثيق العمل. صديق يشدُّ المثاقيل في عنقي قبل الماء. هل هو حكم المكان على الوقت؟ لم يكن يسأل.. كان يعرف. (3) صديقٌ يريد أن يقول عني. لن يعرف أحدٌ دلالة هذا الصديق في حياتي، صديق ملتبسٌ بالعدو. لم أحب صديقاً مثل غوغان. مشاحنات الديكة، التي لم تتوقف بيننا، دليلٌ فصيحٌ على فشلنا في استغناء أحدنا عن الآخر. صديقٌ فَهِمَنِي كما أحبُ أن أفهم نفسي، أزعمُ أنني أفهمه بما يكفي لتفادى رغبتي في قتله. ليس ثمة صداقة على هذه الشاكلة. لقد كان مُحقاً، لا ينبغي أن نطيلَ البقاء مع من نحب، ما دام ذلك مستحيلاً في ضوء حقيقة الروح الوحيدة المهيمنة. يؤمن بأنني مؤسسُ نظام الفوضى في هذا الكوكب، فيما كنتُ أكتشفُ أجملَ المغامرات في لوحاته، وكلانا لم يكن دقيقاً في تقديره. لكن ليس هذا سوى القشرة والسطح. فنحن متفاهمان، نقضي الوقت متصامتين في مجالساتنا الطويلة، وحين يستغرقنا العمل في مكانٍ واحد، متجاورين، كان كل منا يسمع الآخر بوضوح، ويفهمه. ها هو يذهب الآن، لكي أشعر به أكثر قرباً إليّ لفرط الفراغ الذي يتركني فيه. لا يجد الإنسان صديقاً مثله كل يوم، ولا يفقده. الكائنات يا أخي يا صديقي، هكذا أحبُّ أن أناديه. العائلة، كائنات متراكمة، أطفالٌ ومسوخ ومخلوقات تراوح بين البشر وكتاب الغاب. تنبثق فيها الزعانفُ والأجنحة وحوافر الليل، البعض يزدان بالأظافر والحراشف والأظلاف. رقومٌ تنتمي لبرزخ المستنقعات وتخوم الحُمم. بيتٌ كثير الغرف والممرات وشرفات اللهب وأروقة الشكوى، لكل رجلٍ بهوٌ ولكل امرأة إيوانٌ. أفواهٌ وأقنعةٌ وشواقيل، عناكب تحوك الشِراكَ ، وتقع فيها. لم يُحب أحدٌ عائلته مثلي، فيما كانت تجمع قرائن القطيعة وأرخبيل الحفائر لمواقع أحلامي. لئلا أقول إنها دفعتْ بي إلى حبائل المهالك. لم أصادف عائلة عوّقتْ حياة ابنها مثلما فعلوا بي. فردٌ واحدٌ في العائلة تولّى إنقاذي، وتعويضي عن هذا الفقد الضخم. شخصٌ وضع أنامله الناعمة في تلافيف روحي، وانعطف بي نحو أقرب نهر في حديقة الله، نغتسل معاً في ماء منسيٍّ بلا موجٍ ولا زبدٍ ولا حجارة. فتنبثق شمسٌ تنتشلني من العتمة. إنه ثيودور يصعبُ اختزال الغابة في كتابٍ وفي وثائق. الأكواخ منسابة في السفوح، الظباء تنفر من نوافذ موصدة كأفخاخ، وليس من العدل حماية العائلة من ضغائنها. لأطفالها حصةٌ من عراقيب الأغصان وأرجوحة السلال بفرو الطبيعة والعرجون. المحبون لا يجرحون. عائلة تُحصي أنفاسَها في حضرة الهواء، رهينة المحن والأخاديع، اختلّ ميزانُها وفقدتْ المكاييل. بيتٌ اعتادَ خسران أطفال العائلة في المُلمّات. يطيشون بزئبقهم الخفيف، فيما أسأم الأحافير وكهف الوهدة. تحتدم العلاقة، ويسعى ثيودور متشبثاً بأضلاعي ميمماً صوب مستقبل الغابات، يعبر منحنى الوجود في حياتي. هو العون الإلهي، هذا الجناح الجريح، طائرٌ يواصل تحليقه، مرغماً طوال الوقت، بجناحٍ نازف، يتثاقل كلما ارتقى الريح، ويتعثر كلما استبسل في المسافة. لا يشفى ولا يعتزل، فالجناح حرية الطائر. *فصل من كتاب (أيها الفخم يا سيدي، دفاتر فنسنت فان جوخ) قيد الطبع
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©