الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«بنات ميرامار».. تقنية الكتابة تحت النّار

«بنات ميرامار».. تقنية الكتابة تحت النّار
25 فبراير 2015 21:15
عربياً، افتتحت غادة السمان الموسم الروائي الذي ازدهر في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية 1975- 1990. حيث أدارت الكاتبة ظهراً للسؤال القديم الجديد عن الكتابة في لجّة الحرب (الحدث)، وبالتالي عما ينتظر الرواية التي لا تنتظر اكتمال الحدث والمرحلة، ولا اختمار التجربة، من اللهاث خلف الراهن، وضبابية الرؤية، والوقوع في شرك العابر. ولئن كان في كل ذلك من الحق مقدار، فهو مقدار يشبه أحياناً كلمة حق يراد بها باطل، مما يكذب تاريخ الرواية تعميمه، فيما يقدم من روائع بينما الحدث يحدث، والحرب تتواصل، والمرحلة تصطخب. وها هي الرواية في سورية تكابد السؤال عينه عما بين الإبداع وعصف المتغيرات من حروب وثورات وسواهما. ومن هذه المكابدة، بعجرها وبجرها، بلغت المدونة الروائية – بعجرها وبجرها – خلال السنوات الأربع الماضية ثمانٍ وعشرين رواية، في حدود ما علمت. لقد تسلل سؤال الاختمار إلى واحدة من تلك الروايات، هي «شارع الخيزران» لحسن صقر، حيث يفكر بطلها عادل منصور في مشروعه الروائي الذي يأتي في الزمن السوري المتشظي. وهو يقول إنه يجلس في معتزله، يسمع دوي الانفجارات، ويشعر أن الوقت يقذف له بما يكفي لكتابة أكداس من الروايات. ولكن ثمة من ينصحه بأن الوقت هو للتأمل: «لا تكتب الآن»، والوقت أيضاً لمحاولة اكتشاف العالم الداخلي، لا الخارجي، آملاً بأن تنشأ الرواية من تصادم العالمين. ومع ذلك لم يأخذ حسن صقر بالنصيحة، كما لم يأخذ بها كتّاب وكاتبات المدوّنة الروائية العتيدة للزلزال السوري. بالأسئلة المتعلقة بتقنيات الشكل، يتعقد كما يغتني السؤال عن (الاختمار) وما أدراك، وهو يصحّ ولا يصحّ. ولعل قبساً من ذلك سيتبيّن من خلال النموذجين التاليين لتجسيد التقنية (الميرامارية) إن صحت النسبة غلى رواية نجيب محفوظ (ميرامار). إنها التقنية الكلاسيكية العريقة في الفن الروائي، والتي قد يحل فيها البنسيون محل الفندق، كما تحل محلهما في روايات أخرى، العمارة أو الحارة، من تنويعات أومفردات هذه التقنية الكلاسيكية. شارع الخيزران إلى فندق زهرة سورية في دمشق، يلجأ الراوي – الشخصية المحورية عادل منصور، هرباً من أسرته، وأبيه بخاصةً. وفي الغرفة 37، حيث مقام عادل، يقع الكثير من وقائع رواية حسن صقر «شارع الخيزران»، وفيها تلتقي شخصيات كثيرة، ومنها تكون إطلالات كثيرة على ما يجري في الخارج، وعلى اصطخاب الدخائل أيضاً. مع عادل يقيم أولاً رستم آجو. ولسوف يتبدل من يشاركونه الغرفة لتتفتق القصص والحكايات التي ترسم من الزلزال السوري ما ترسم. وأول ما يميّز الفندق هو الصراخ. ففي الغرفة 22 يصرخ شاب وهو يحرك الثلج في الويسكي ويعلن: هذه هي الحياة. وفي الغرفة 17 تصرخ امرأة صغيرة السن وهي تعاني آلام المخاض، وأمها تحشو فمها بالفوطة اتقاءً للفضيحة. وفي الغرفة 6 قرب الدرج يصرخ رجل طالباً النهاية ليتخلص من مرضه... يصف عادل منصور الفندق باللعين، وبالبغيض، ويشبهه بالسيرك، وهو يجهل من يكون شريكه في الغرفة، ويتأسّى بالصراخ القادم من شارع الخيزران تحت الفندق. وبلسان عادل، ترى السارد العليم يكشف ما تخبئ جدران الغرف الأخرى، ليكشف عالم الفندق، كما يكشف عالم شارع الخيزران، وعالم قريته عين الغزال، وعالم دمشق وحمص في زمن الزلزال. فهذه غرفة عن يسار عادل مخصصة للعلاقات الحميمة العابرة، وهي مرتفعة الأجر لأن من يقصدها هم قادة سياسيون مع زوجات زملائهم. وعادل يتنصت عليهم ويتلصص. وهذه غرفة المرأة المذعورة التي تهرب من عنف الزبون، وتلجأ إلى عادل... من النعم السردية التي تنعم بها غرفة عادل، مشاركة المتسول رجب الأعمى له فيها، ومن بعده أحمد بْلتْعا بائع أوراق اليانصيب في المرابع الليلية، والفتاة وجدّها وسواهما، حيث لكل شريك قصته على إيقاع الانفجارات والمعارك التي تجري في الخارج، مما جعل للرواية عيوناً وآذاناً، فترى وتسمع ما يجري في مختلف أحياء المدينة، كما في حمص أيضاً، وبخاصة. ويمتد ذلك بعادل ليطوي سنته الأولى وهو من قدم إلى الفندق ليقضي ثلاثة أيام – تعرف خلالها على «نماذج بشرية لا يمكن القول عن العيش معها سوى أنه نوع من العقوبة». وعبر ذلك تتلامع إشارات ربما ترمي إلى الخروج بالفندق من إساره ليكون سورية كلها، وهو يجرد مرتاديه من الكرامة الإنسانية. وسينتهي الأمر بعادل بعد سنوات القتل والتدمير إلى اليأس: «أنا لا أريد شيئاً سوى الموت» وهو يحمل سورية المثالية الخالية من الشوائب، وسورية الواقعية التي يقطّع لحمها تقطيعاً. ولعل ذلك ما جعل بداية الرواية بسَوْرنَة - من سورية – عادل لقصة قتل قابيل لأخيه هابيل، هي أيضاً الخاتمة التي خسر فيها آدم الرهان، وانتصر قابيل. بانسيون مريم تتظلل رواية «بانسيون مريم» لنبيل الملحم بروح رواية نجيب محفوظ (ميرامار). وفي مفتتحها، تعرفنا رواية نبيل الملحم على البنسيون عبر من فيه: أنيس السبعيني الذي يقيم في البنسيون منذ ثلاثين سنة، ومريم صاحبة البنسيون الصامتة الغارقة في نسج لوحاتها بالكانفا، ثم ناصر حداد الفلسطيني المرابط في غرفته مع قططه وأمام نافذته التي تطل على فندق القيروان، حيث يتلصص ناصر على العاهرات، ثم رعد الأسمر العراقي الذي كان رساماً لبورتريهات صدام حسين. وبعد هذا التعريف بالبنسيون وشخصياته، يأتي الحدث المركزي الذي سيزلزله، وهو توسطُ جلال لدى مريم كي تسمح بنزول صديقه رضا الذي اضطر إلى تبديل مقامه هرباً من الاعتقال. ينزل رضا في غرفة (ماشالله) التي ترفرف عليها روح الموت، والتي تبدو له مزاراً أو ضريحاً، كما يبدو له البنسيون سجناً. وتدقق الرواية وتبدع في وصف وتأثيث البنسيون، وهي تشبكه بالفضاء الخارجي، عبر الشخصيات التي تفد، أو المقيمة، أو ذات الصلة بالمقيم وبالوافد. وكل ذلك يتمركز في البنسيون وفي شخصيتي رضا ومريم، بينما الزلزال يفعل فعله. وبالتوازي، يفعل زلزال رضا فعله في مريم بخاصة، وفي البنسيون بعامة. فـ (رضا) وحده بات قادراً على السيطرة على لحظة مريم التي توقن أن ثمة انقلاباً فظيعاً قد حلّ بالمكان بين ليلة وفجرها. فالحياة الطويلة الراكدة ارتجّت بقدوم رضا ولحاق ريتا به، المصابة بالسلس البولي وبالعشى، والتي ستعزف على البيانو الصامت في صالة البنسيون منذ دهر، فتعزز التبديل الذي تلحظه مريم يطرأ على مملكتها. وهكذا تترد في صالة البنسيون الأغنية الأولى منذ موت والدة مريم (ماشالله) قبل ثلاثة عقود. هذا يجب أن يرحل، إنه الشيطان وقد حلّ بنا: هكذا تتمتم مريم، بينما يذوي أنيس العاشق العجوز الصامت، والرواية تصطخب بمجزرة الحمير قرب (مضايا) من ريف دمشق، وبمثلية الدكتور فريد الذي يجزم بهزيمة المعارضة، وكما تصطخب الرواية بمظاهرات حي الميدان، وبنشاط السلفية الجهادية، وبالطائفية، وبالسيارات المفخخة... لمرة واحدة في السنة، تخرج مريم من البنسيون لتضع فوق قبر أمها (ماشالله) ضمّة من زهرة (البيلاّدونا) التي تنفث سمها ببطء ومكر، واسمها بالعربية (ست الحسن)، وبها قضت والدة مريم (ماشالله) على أبيها، وبها ترمّز الرواية لما يسمّم الحياة، من البانسيون، إلى الفندق المقابل (فندق القيروان) إلى الخارج في أحياء دمشق التي تتلاطم بالمظاهرات والرصاص، كما يتلاطم ريفها (المزرعة المدججة بالكلاب القاتلة) في سوار دمشق، إلى أنحاء شتى من صدر سورية الجريح، والمسمّم. تنوع تقني لقد تنوعت تقنيات الشكل فيما ادعوه بروايات الزلزال السوري. ومن فضل القول إن في كل رواية أكثر من تقنية. فاستراتيجية الخبر كان لها فعلها أيضاً في رواية (بنسيون مريم)، تارة في هيئة الملخص الإخباري، وتارة في هيئة الشريط التلفزيوني الإخباري الذي يزين أسفل الشاشة. وقد بلغت استراتيجية الخبر في رواية فواز حداد (السوريون الأعداء) أحياناً، ذلك المبلغ الذي جعل الروائية النوبلية الجنوب إفريقية دوريس ليسينج تصنف بالأسوأ تلك الروايات التي تنحو منحى التقارير الصحفية أو تذخر بها. ولم تقتصر السيرية على روايتي (مدن اليمام) لابتسام التريسي و(جنة البرابرة) لخليل صويلح. ففي رواية سوسن جميل حسن (قميص الليل) ثمة شيات سيرية، وكذلك في رواية روزا ياسين حسن (الذين مسهم السحر) وفي روايتي عبدالله مكسور. أما استراتيجية اللاتعيين التي عَبَرَتْ في رواية سميرة المسالمة (نفق الذل) فقد انفردت برواية واحدة هي (مدائن اللهب) لفتح الله عمر، حيث الاشتغال تحدد بأمر واحد هو (الطائفية). وإذا كانت الرواية لا تحدد الفضاء السوري، فمخاطبتها له لا تخفى، بل ولا تحتاج إلى جهد كي تدرك. وإذا كانت الوقفة الأكبر عند الطائفية قد تحددت برواية فواز حداد (السوريون الأعداء) كفكرة مهيمنة، فقد ندر أن تقع على رواية لم تشغلها الطائفية، بدرجات متفاوتة، ويكاد يكون الموقف النقدي هو القائم المشترك بينها (قميص الليل – عائد إلى حلب – شارع الخيزران – نفق الذل – بنسيون مريم..). أما الموقف غير النقدي الذي تبدى في (السوريون الأعداء) فهو يتبدى أيضاً في (رمش إيل). وربما كانت (الطائفية) هي التعبير الصارخ عن الصراع بين السياسي والفني، كما تجلى في المدونة، حيث تعلو الخطابة السياسية والثورية، كما في بعض المظان في رواية نبيل الملحم (سرير بقلاوة) ، أو في رواية عبدالله مكسور (أيام بابا عمرو) أو رواية سميرة المسالمة (نفق الذل). وهنا لابد من الإشارة إلى ما انفردت به روايتان هما: (مقهى الجنرال) لغسان الجباعي، و(تحت سرة القمر) وهي باكورة جهينة العوام. أما الأولى فقد انفردت بالتجريبية التي بلغت حد التتقين، بينما انفردت الثانية بشعرية اللغة التي قد تكون وشّت مواطن شتى من رواية أو أخرى، لكنها وسمت لغة (تحت سرة القمر)، كما وسمت اللغة التراثية لغة روايتي شهلا العجيلي (سجاد عجمي) وغازي حسين العلي (ليلة الإمبراطور). وكل ذلك يحتاج إلى تفصيل، لعل غيري ينهض به. وإذا كان الأمل أخيراً يظل معقوداً على ما ينتظر الرواية من الزلزال السوري، فالأمل الأكبر، قبل أية كتابة وبعدها، يظل معقوداً على ألاّ يكون ما سيخلفه هذا الزلزال هو فقط تسوية ربع سورية بالأرض، ومصرع مئات الآلاف، وتهجير الملايين، بينما العماء لا يوفر منا أحداً، وفيما ندر مثيله عبر التاريخ. كتبوا الحرب ألهمت الحرب البشرية أعمالاً فنية وأدبية خالدة، وربما كانت الرواية هي الأكثر تعبيراً عن تفاصيلها لاتساع مساحة السرد،ومنها: «الحرب والسلام» لتولستوي، «وسام الشجاعة الأحمر» لستيفن غرين، «ذهب مع الريح» لمارغريت ميتشيل، «عودة الجندي» لريبيكا ويست، «ثلاثة جنود» لجون دوس باسوز، «السيدة دالاوي» لفرجينيا وولف، «كل شيء هادئ في الجبهة الغربية» لإيريك ريمارك، «زواج الأحجار» للهولندي هاري موليش، «الحياة في القبر» لليوناني ستراتيس ميرفيليس، «وداعا أيها السلاح» و« لمن تقرع الأجراس» و»غداً تشرق الشمس» لأرنيست هيمنجواي، «موت بطل» لريتشارد ألنغتون، «جنرالات يموتون في السرير» لتشارلز بال هاريسون، وثلاثية بات باركر «الانبعاث»و «من هنا وحتى الخلود» لجيمس جونز، «جسر على نهر كواي» لبيير بوليه، «العراة والموتى» لنورمان ميلر، «الاسود الصغيرة» لآروين شو، «قارب الحزن» لويليام وودراف، «يوم من حياة أيفان دنيزوفيتش» لألكسندر سولنجستين وغيرها كثير مما لا يمكن حصره. كوابيس بيروت عربياً، افتتحت غادة السمان الموسم الروائي الذي ازدهر في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية 1975- 1990. وكانت الفاتحة هي رواية «كوابيس بيروت»تقول غادة تحت كابوس رقم (2): حين غادرت سيارتي ذلك الصباح، ودخلت إلى البيت سالمة – حتى إشعار آخر – لم أكن أدري أنها المرة الأخيرة التي سأغادر فيها بيتي إلى ما بعد أيام طويلة … وأنني منذ اللحظة التي أغلقت الباب خلفي، أغلقته أيضاً بيني وبين الحياة والأمل... وصرت سجينة كابوس سيطول ويطول..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©