الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السلفيّ الآخر

السلفيّ الآخر
25 فبراير 2015 20:59
السّاحة الأميركية، على سبيل المثال، هي من السّاحات التي تعجّ بالعديد من اللّوبيات المتشابكة، ذات الطّابع السياسي والدّيني، التي تُصنَّف إجمالا تحت مسمّى عام «اليمين المسيحي»، أو ما يعرف أحياناً بالـ«نِـيُوكُون»، مختصر المحافظين الجدد. وتُنعَت النّواة الدينية في ذلك بالـ«تِـيُوكُون»، المستمدّة من تيُوكُونسرْفتوري، مختصر «اللاّهوتيين المحافظين». باعتبارهم الأكثر إلحاحاً في استدعاء الأدوات المحافظة، سواء لتحليل الأوضاع الاجتماعية، أو لتبرير ترسيخ قِيَم الآباء في المجال العمومي، رافعين وبشكل دائم شعار «الكتاب المقدس وحده هادياً ودليلا» -SolaScriptura-. وإن يكن الطابع الغالب على النسيج الديني الأميركي بروتستانتياً إنجيلياً، فإن الأسماء الأساسية في التيوكون، هي بوجه عام من الكاثوليك، من أتباع كنيسة روما. نجد منهم ريتشارد جون نيوهاوس، وهو رجل دين كاثوليكي لبق، مسموع الصّوت في الأوساط الأميركية؛ وميكائيل نوفاك، أحد أبرز علماء اللاّهوت الكاثوليك الأميركان؛ وجورج ويغل، وهو لاهوتي وخبير سياسي ومؤلّف سيرة «شاهد الأمل» عن البابا الرّاحل، يوحنّا بولس الثّاني، تدعمهم مجموعة من الباحثين يحفرون في الخندق ذاته. حيث يدّعي تيار التيوكون تراجعاً للقيم الخلقية بين الأميركان، ويفسّر الأمر بقوّة ضغط التيار اللاديني وزحف العلمنة. والملاحظ في توجّه التيوكون، أنه لا تغلب عليه الخاصيات المسيحية الصرفة، بل يحمل في طياته طرفاً قوياً يمثّله اليهود الأميركان، لذلك نجد إلحاحاً في الدّاخل على شراكة في القيم ووحدة في التراث، طبعاً اليهودي المسيحي. وإن يكن الإطار المسيحي الأكثر عدداً، فإن المكوّن اليهودي، يبقى الأوغل نفوذاً، لذلك نلاحظ داخل تيّار التيوكون إلحاحاً على الدّين مع عدم تحديد هوية الدين. تخاطر الأصوليات تأتي الحروب التي خاضتها أميركا في السّاحة العالمية، في أعين كثير من الجماعات الدينية الداخلية، بمثابة حروب مقدّسة، باسم القِيَم اليهودية-المسيحية. وهذا الإحساس العام غالباً ما زادت من حدته القلاقل التي يشهدها العالم الإسلامي ولا سيما منه العالم العربي. إذ نجد تخاطراً، وتبادلا للأفكار عن بعد، بين السلفي الإسلامي القابع بالداخل في البلاد العربية، ونظيره المقيم في الغرب، سليل الإنجيليات الجديدة وابن التراث المسيحي. لذلك في خضمّ الأوضاع المتوترة التي يشهدها العالم العربي في تاريخه الراهن، تتعدّد أساليب اليمين المسيحي للتعاطي مع «المشكلة العربية». ففي الشبكة العنكبوتية مئات المواقع للتجمّعات الإنجيلية تدفع بأنصارها للتوّجه نحو أرض العرب، غاية العمل على بناء الكنائس السرّية والعلنيّة، وجذب الناس نحو رسالة الفادي المخلص. كما نجد مؤسّسات علميّة مهتمّة بالشّأن، على غرار «جامعة كولمبيا» بكارولينا الجنوبية، التي تكوّن المبشّرين، وتموّل التربّصات لغرض إكساب المتدرّبين تقنيات الفهم والإقناع عند التعامل مع الثّقافة الإسلامية. وفي ما مضى، على إثر الاجتياح الأميركي للعراق، حلّ فرانكلين جراهام بأرض الرافدين، وهو ابن المبشّر التلفزي الشهير بيلّي جراهام، زاعماً تقديم المعونة المادية والرّوحية للعراقيين بإشراف منظمة «TheSamaritanPurse»، فكان توزيع شيء من الألبسة والأدوية والمأكولات مصحوبة بالكتاب المقدّس. وقبل مغادرته، صرّح فرانكلين جراهام: «إن ما أطلقُ عليه بعملية (الحرّية للعراق) هي فرصة للمسيح. نذهب إلى هناك لنمدّ يد العون إلى العراقيين ولنخلصهم من الدّين الزائف والشيطاني –أي الإسلام-، فكمسيحي، أتحرّك باسم المسيح»، على ما أورده مختار بن بركة، في كتابه الصادر عن دار «بريفا» في فرنسا «اليمين المسيحي الأميركي: الإنجيليون في البيت الأبيض» ص: 175-176. وبوجه عام يتحدر الجيل الأوّل من المحافظين الجدد من الطّبقات الدنيا والوسطى للمدن الأميركية، من عائلات عمّالية عاشت في عمق أزمة الحرب العالمية الثانية، ومن جيل الشبيبة المثقّفة ذات الميول اليسارية. هذا فضلا عما شهده هذا التكتّل منذ نشأته من انضمام عديد العناصر ذات الأصول اليهودية. فقد جعلت تلك التحدّرات الاجتماعية، من طموحات المحافظين الجدد وتطلّعاتهم: مواجهة الحيف، إلى جانب انتقاد النّظام التعليمي بدعوى جعله أكثر جدوى. وبشكل عام كان هذا التيّار في وقت مضى يُنعَت بالميول اليساريّة، ولكن في الراهن الحالي بات يُعَدّ من اليمين الأصيل. وبفعل تجذّر المحافظين الجدد، صاروا في العقود الأخيرة الأكثر نفاذاً والأبلغ أثراً في تحريك مسائل الجدل السّياسي، الأمر الذي أهّلهم إلى صنع الخيارات السّياسية. غواية الأرض المقدسة قد يتساءل المرء عن دوافع تقارب اليمين المسيحي مع اليهود ومع الدّولة العبرية. والواقع أن الأمر له مبرّر لاهوتي، فهناك اعتقاد شائع بين المسيحيين أن انبعاث دولة إسرائيل دليل واضح على عودة المسيح، يأتي ذلك نتاج قراءة نبوية للكتاب المقدّس تبدو فيها إسرائيل محطّة على طريق العصر الألفي القادم. حيث لا عودة للمسيح قبل عودة اليهود إلى أرضهم، فكما يقول الكاتب الإسرائيلي الأميركي جرشوم جورينبيرغ في كتابه: «نهاية الأزمنة: الأصولية والصّراع على جبل الهيكل» المنشور في نيويورك «إن العقيدة الإنجيلية في الخلاص هي حالة من خمس مراحل يندثر اليهود في آخرها. ولذلك عُدَّت الانتصارات الإسرائيلية دائماً قرباً من نهاية الأزمنة، ومن عصر ظهور المسيح، ويشيع بينهم رفض قيام دولة فلسطينية، كما يتطلّعون إلى تهجير كلّ سكان المنطقة، ولو كانوا سكّان قطاع غزّة، إلى العالم العربي». وقد دفعت فكرة العودة إلى فلسطين، كمقدّمة إلى الظّهور الثّاني للمسيح، المسيّرين الإنجيليين، مثل بيلّي جراهام، وابنه فرانكلين، وجرّي فالوال، ورالف ريد، وبات روبرتسون، إلى المشاركة في التحريض على إرسال الإنجيليين إلى فلسطين. كما ساهمت في حثّ عديد اللّوبيات الإنجيلية مثل: - InternationalChristianEmbassy- بالقدس، وكذلك: - ChristiansforIsrael- على تمويل مشاريع الهجرة إلى إسرائيل وبناء المستوطنات. وبالنتيجة حلّ عدد هام من الإنجيليين بإسرائيل لتعلّم اللّغة العبرية، وسعوا في بناء برامج تعاون مشتركة يهودية مسيحية. ويقدّر اليوم عدد المسيحيين الإنجيليين الذين يقيمون بفلسطين بشكل شبه دائم بستين ألفاً. السّوق الدّينية تُعَدُّ عمليّة صنع الرّموز بمختلف أصنافها: الفنّية والسّياسية والمعرفيّة وغيرها، بدعةً مستحدثةً، يهدِف توظيفها في المجال الاجتماعي إلى إيصال رسالة إيديولوجية عميقة الدّلالة، غرضها إحكام القبضة على أذواق الناس وعقولهم عبر سلطة معنويّة رمزيّة. وقد تطوّرت العمليّة بالأساس مع تركّز النّفوذ الرأسمالي في المجتمعات الغربية، وسعي أربابه للمّ شمل العالم وشدّه تحت شبكة نفوذهم. ولم يسلم القطاع الدّيني، من فبركة تلك الرّموز-الأساطير للتحكّم بمقدّرات الحقل الرّوحي. والحال أنه قطاع يفتَرَض أن يبقى بعيداً عن الدّعاية والتوظيف، لما ترسّب في الضّمير الجمعي من علوّ مقصده وتنزّه مكوّناته. لكن الغرب بعد ثورته النفعيّة في العصر الحديث، أعاد صياغة ثرواته الرّوحيّة المتراكمة أيضاً، ضمن متطلّبات التّسويق الجديد، ساحباً منها علويّتها، لتتحوّل المسيحيّة المغَرْبنَة، ومختلف تفرّعاتها المذهبية والنِّحَلية، إلى ما يشبه مخازن الأسواق العامّة، التي تعجّ بالمناسك والطّقوس والعقائد وأدواتها ولوازمها، معروضة عبر تقنيّات التسويق المتطوّرة ومحتكمة إلى قوانين العرض والطّلب المرتبطة بالاستهلاك، على اعتبار: أ- أن الأسواق الدّينية تحوي مجموع المبادلات لشتّى المكافآت الماورائية، من وعود جزاء مستقبلي، وتفسيرات وتأويلات لأحداث الحياة. ب- أن العلاقات الاجتماعية مصادر الاعتماد الأساسية للاستعلام عن البضائع الدّينية، بما تساهم فيه من طمأنة للمستهلكين على قيمتها. ج- أن المنظّمات الدّينية هي شركات معهود لها إنتاج القيم الدّينية، في حين التجّمعات هي»وكالات»، مسيّرة من طرف أعراف، «رجال دين»، يخلقون المعنى للزبائن. د- تخصُّصُ الشّركات بأنشطة معيّنة تقدّمها وبنوعيّة منتوجات توفّرها. صناعة الرمز الديني وضمن أنشطة السوق الدينية في الغرب شكّل بيلّي جراهام، في التاريخ المعاصر، إلى جانب البابا الرّاحل يوحنّا بولس الثّاني، والأمّ تيريزا، والدّلاي لاما، خيرة الأيقونات الدّينية، التي جرى ترويجها بشكل واسع، لأجل عولمة الخطاب الدّيني، بعد يقين بانتهاء مرحلة الاستهلاك المحلّي. فإن عبّر بيلّي جراهام عن خطاب أميركا الدّيني، فإن مؤسّسة البابويّة، ممثّلة في حبرها الأعظم في روما، لا تزال خطاب القارة العجوز الدّيني. وتأتي الأمّ تيريزا، الألبانية الأصل، سعياً لتصفية حساب قديم مع التركي العثماني المتوغّل في خاصرة أوروبا. وأما الدّلاي لاما فهو تطوير أوروأميركي مشترك لمواجهة الصّين وفلكها الزاحف، من داخلها بعقائدها وأدواتها. نأتي إلى «التِّليفانْجِيلِيسْت» بيلّي جراهام لعظيم شأنه، ولنتلمّس من خلال شخصه كيفيّة تداخل السّياسي بالديني. لقد عُدّ الرجل حارس القيم الرّوحية الأميركية وداعية «Americanwayoflife»، حتى أدخِل بنثيون الأيقونات الأميركية المعاصرة، على نمط ألفيس بريسلي ومارلين مونرو. فقد ألهب جراهام أكثر من غيره الحماس الدّيني في الفضاء العمومي الأميركي، على مدى فترة طويلة، امتدّت من 1945 إلى الرّاهن الحالي. عَرَف عن قرب كافة رؤساء أميركا طيلة تلك الفترة، من هاري ترومان إلى أوباما. كان بعضهم من أصدقائه المقرّبين، مثل إيزنهاور، ونيكسون، وجونسون. وتردّد على بعضهم أثناء تولّيهم مهامهم الرّئاسية للقيام بالقداس الافتتاحي، كما الشأن مع نيكسون وبيل كلينتون، والتقى مع بعض منهم بانتظام. تسليع الدين! الغرب بعد ثورته النفعيّة في العصر الحديث أعاد صياغة ثرواته الرّوحيّة المتراكمة أيضا ضمن متطلّبات التّسويق الجديد، ساحبا منها علويّتها، لتتحوّل المسيحيّة المغَرْبنَة، ومختلف تفرّعاتها المذهبية والنِّحَلية، إلى ما يشبه مخازن الأسواق العامّة، التي تعجّ بالمناسك والطّقوس والعقائد وأدواتها ولوازمها، معروضة عبر تقنيّات التسويق المتطوّرة ومحتكمة إلى قوانين العرض والطّلب المرتبطة بالاستهلاك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©