الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البيوت أسرار

البيوت أسرار
8 ابريل 2010 21:32
الزوج مات والوقت فات نورا محمد (القاهرة) - من المؤكد أن الطائرة كانت تسير بسرعة مذهلة في الفضاء الفسيح، لكنني كنت أشعر بأنها متوقفة في مكانها، لا تريد أن تتحرك، وودت لو قفزت منها وجريت أكثر منها وسبقتها، فقلبي يكاد يحترق ويقفز من مكانه، لأن زوجي في المستشفى ولا أعرف حقيقه مرضه، فمنذ ثلاثة أيام اتصل بي ابني الأكبر وأبلغني هذا الخبر، هذه ليست المرة الأولى في السنوات الأخيرة التي يصاب فيها بوعكة، إلا أنني أكثر قلقا وتوترا، لم أستطع تذوق الطعام الذي جاءتني به المضيفة، لقد فشلت هذا العام مثل كل عام في إقناعه بأن نقضي معا عدة أسابيع في باريس عند ابننا الأصغر الذي يعمل أستاذا في الجامعة، اعتدت أن ألبي دعوته، أتنزه وأجري بعض الفحوص الطبية وأقضي وقتا ممتعا مع أحفادي الذين أحبهم، ودائما زوجي يرفض رغم تكرار الدعوة والإلحاح عليه، وجهت لنفسي لوما شديدا وقاسيا؛ لأنني تركته وحيدا وسافرت، لم يخطر ببالي أبدا أن أقطع رحلتي لأعود إليه، رغم أنه طمأنني وحادثني هاتفيا، لكنني شعرت بآلامه التي حاول أن يخفيها؛ حتى لا يقلقني، وطلب مني عدم العودة وأنه بخير، لم أحتمل الصبر ولا البقاء، غلبني إحساسي، لعبت الظنون برأسي، عدة ساعات كانت طويلة بطيئة مثل دهر متوقف، لم أنتظر توقف الطائرة تماما عندما هبطت على أرض المطار رغم التحذيرات، وكنت أول النازلين أتوكأ على عصاي، فقد بلغت من الكبر عتيا واقتربت من السبعين من عمري، ساعدوني في حمل حقائبي وتوجهت بالسيارة مباشرة إلى المستشفى. كانت المفاجأة أنه في غيبوبة كاملة، سالت دموعي رغما عني، لم أستطع إيقافها، وظللت عند رأسه انتظر إفاقة يراني فيها، وقد حدثت بعد يومين وأنا لا أبرح مكاني، فتح عينيه ألقى عليّ نظرة شعرت فيها بسعادته لأنني بجانبه، كانت بالنسبة لي كعودة الروح وتمنيت أن تتم سعادتي وأن يتم شفاؤه، وبالفعل تحسنت حالته واقترب من العودة إلى طبيعته، وما هي إلا سويعات ونعود إلى منزلنا يتأبط ذراعي، داعبته بأنه سبب شقائي وحرماني من إكمال رحلتي الجميلة، إنه متعِب في حياته كلها معي، دائما ينغص عليّ اللحظات الحلوة، ابتسم وضحك وهو يتقبل كلماتي لأنه متأكد من أنني أمزح معه ولا أقول الحقيقة، فالحياة لا تكون إلا معه وبجانبه، فالعشرة بيننا تعدت نصف قرن. إنه الرجل الوحيد في حياتي كلها، فقد تقدم لخطبتي وتزوجت وأنا طالبة في السنوات الأولى بالجامعة، كنت حينها في السابعة عشرة، ليست لي أي تجارب عاطفية ولا علاقات، فكان أول من عرفت وأحببت، صحيح كنت جميلة وتقدم كثيرون قبله لخطبتي رغم صغر سني، لكن أبي رفضهم، ولا أدري لماذا وافق على «علاء» تحديدا، واكتشفت فيما بعد أنه يستحقني وأنه ذو منصب رفيع ومن عائلة محترمة ثرية وعلى خلق واحترام، وأيضا شعرت أنني محظوظة لأنني فزت به، وقد أنجبنا ولدينا اللذين صارا أستاذين بالجامعة، وكافحت معه في تعليمهما بأرقى المدارس والجامعات حتى حصلا على شهادتيهما ثم الماجستير والدكتوراة، واستطعنا أن نشتري لكل منهما شقة في حي راق وتحملت أنا وزوجي جميع النفقات ولم يتحمل الولدان من المسؤولية ولا حتى القليل، أشهد بأنه رجل مكافح يعشق العمل ويكره الكسل، فمنذ أن تقاعد من عمله، رفض البقاء في المنزل، وبدأ يبحث عن عمل يناسب خبرته وسنه، واهتدى إلى وظيفة في إحدى الشركات الصناعية، يستيقظ في الفجر ويعود بعد العشاء، حتى تأثرت حالته الصحية، وتركها مضطرا، وبعدها سافر إلى الخارج، لكنه هذه المرة كان يكابر، فلم يعد في مقدوره تحمل الغربة، رغم أنه اعتاد الوحدة ويستطيع أن يقوم بكل شؤون نفسه، وخسرنا كثيرا من هذه التجربة التي لم تعد علينا إلا بالديون. وقبل أن نغادر المستشفى، حدثت له انتكاسة صحية وعاد إلى الغيبوبة مرة أخرى، وبعد ثلاثة أيام فاضت روحه، ودعت شريك حياتي، بكيته بالدم والدموع، لم أصدق أنه رحل بلا عودة، وأن هذا هو الوداع الأخير، شعرت اليوم باليتم الحقيقي، لقد كان أبي وأخي وزوجي وحبيبي، وأيضا ابني وأحيانا أمي، بالغت في الحزن عليه كما كان يقول من حولي، فهذه مشاعر حقيقية لا أدعيها، فحياتي خالية وشقتي فارغة، أعيش وحيدة بعده، فهو الذي كان يوقظني كل ليلة قبيل الفجر للاستعداد للصلاة، حتى إذا سمع صوت المؤذن وتأكد أنني استيقظت خرج إلى المسجد، ثم يعود وهو يحمل اللبن الطازج وبعض الفطائر، وأقوم بإعداد الإفطار نتناوله معا، ثم يرتدي ملابسه مع إشراقة الصباح ويتوجه إلى عمله، فأجلس أطالع الصحف، ثم أتنقل بين قنوات التلفاز وأتوجه بعد ذلك إلى عملي، وأعود في الثالثة ظهرا، لأبدأ إعداد طعام الغداء، أنتظره إلى أن يعود في المساء متأخرا، نتناول طعامنا ونشرب الشاي، وبعد قليل يأوي إلى فراشه، لم يكن فيه ما كنت أسمعه من صديقاتي وقريباتي وزميلاتي بشأن أزواجهن، فهو بلا مطلب، لا يشكو من شيء، ولا يعيب طعاما ولا يرفضه، بل كان كثيرا ما يقوم ببعض أشغال المنزل، أو يعد الشاي لي وله، أو للضيوف المقربين، أتذكره في كل حركة، هنا كان يجلس، وهنا ينام، وهذا مقعده في الشرفة، أفتقده في الزمان والمكان، لا يعوض غيابه كل الذين تجمعوا حولي يخففون أحزاني، دائما أمام عيني وفي أحلامي. الرجل يستحق ما أفعله وأكثر، إنني أزوره كل يوم، أترحم عليه في قبره، أشعر بأنه قريب مني، يسمعني ويكاد يحييني، فلا أحد في هذا العالم يعرفني مثله، أقضي ساعات طويلة وأنا أدعو له بالرحمة، وأتلو آيات القرآن، أقلب ألبوم الصور، أستعيد كل ذكرياتنا، العشرة بيننا طويلة في أماكن كثيرة، الشيء الوحيد الذي لم نغيره هو المسكن الذي شهد أيامنا الأولى والأخيرة ورحلة حياتنا، غيور إلى حد المرض، حنون إلى درجة الضعف، كريم حتى التبذير والإسراف، مستسلم حتى الخنوع، قوي مثل الفولاذ، ترك لي قيادة زمام أمور الأسرة من البداية، فقد كانت ظروف عمله تضطره للتغيب بالأسابيع لذلك اعتاد أن يدس في يدي راتبه ولا يحصل منه إلا على القليل الذي يكفي مصروفاته المحدودة، فكما قلت هو رجل بلا مطالب، أقاربه وجهوا له اللوم كثيرا مرارا وتكرارا لأنه يترك لي التصرف في أمور الأسرة، وهو يعلم أنني أحمل عنه مسؤولية كبرى، ومهام جساما في التربية وإدارة البيت والاحتياجات وتدبير كل شؤونا، ويجد نتائج إيجابية مذهلة، لذلك لم يكن يهتم بأقوالهم ولا يلقي لهم بالا. لقد تحملت عنه مهام متابعة الولدين في الدراسة خلال كل مراحلها، لم أجعله يوما يشعر بأي مشكلة، فقد كنت أتصدى لها، ولا أخبره إلا بعد حلها والتغلب عليها تماما، حتى أصابه الذهول عندما علم أنني استطعت أن أحصل لكل واحد منهما على شقة فاخره، دفعت مقدم الثمن وأقوم بسداد الأقساط بانتظام من غير أن تتأثر حياتنا كثيرا، لا يصدق هذه الإنجازات التي يعجز الكثير من الرجال عن تحقيقها ومعهم الإمكانيات الكبيرة، حافظت على ميراثه من والده، عدة أفدنة من الأراضي الزراعية، تناسيتها لتنفع ولدينا في حياتهما، لم أقترب منها ولم أسأل عنها حتى استسهل التصرف فيها وأنا أعاني تدبير المبالغ المطلوبة، خاصة أن احتياجات الولدين تتزايد وهما مقبلان على الزواج. طال بي السهر وأنا أتجول في حديقة السنين الغابرة، أتفكر في أحداثها، وتزداد آلامي وتتجدد أحزاني على فقد نصفي الآخر، قمت إلى خزانة ملابسه أعيد ترتيبها رغم أنها ليست بحاجة إلى ترتيب، فهي منظمة وكل شيء في مكانه، إلا أنني أقلب فيها متعللة بذلك، لأنني أريد أن أعيش معها وأقضي وقتا في التقليب فيها، وبعد ما فرغت منها، اتجهت إلى حقيبة أوراقه الخاصة التي لم أفتحها من قبل حتى في حياته، وعندما كنت أحتاج إلى شيء مما فيها كنت أطلبه منه، وبعد ما انتصف الليل لم أتوقف وواصلت الغوص في الذكريات، أقرأ أوراقا حتى إذا كانت بلا قيمة ولا جدوى، ولكن فيها رائحته واسمه وتعاملاته، حتى وقعت عيني على ما لم أصدقه، وهرعت أحضر نظارتي بعد ما اتهمت نظري بالضعف، وأنني مخطئة فيما أقرأ، زوجي سبق له الزواج، ويا للطامة الكبرى، إنه تزوج صديقتي بعقد عرفي بعدما مات زوجها، كدت أصاب بالشلل، ارتعشت أطرافي، عجزت عن التماسك، أعدت قراءة العقد مرات ومرات لا أعرف عددها، حتى أنني حفظتها، بكل تفاصيلها عن ظهر قلب، حفظت شكل كلماتها وحروفها، الآن فهمت لماذا كانت صديقتي تكثر من زيارتي في تلك الفترة، إنني مغفلة كبيرة، لقد سقط هذا الملاك من عيني تماما، وما زاد الطين بلة أنه باع كل ما ورثه ولا أدري أين أنفقه؟، لقد ضاع كل شيء، إنني في كابوس مرعب وددت لو استيقظت منه، لكن للأسف إنها الحقيقة المرة. اشتد بي الحزن وتجدد متضاعفا، لا حزنا عليه وإنما حزنا من أفعاله، فقد رد الإخلاص بالغدر، والوفاء بالخيانة، طعنني في ظهري، وجاءني الغدر من مأمن، اعتقد من حولي أن هذا الحزن على فراقه، ولم أستطع أن أنفي ذلك وعجزت عن قول الحقيقة، عانيت كثيرا من هذه الطعنات، وقاومت نفسي وأنا أحاول أن أكتمها وألا أبوح بها حفاظا على صورته في عيون ولديه ليظل الأب المثالي كما يتوهمان وعاهدت نفسي على ألا يعرفا الحقيقة هما ولا أحد غيرهما، وجاءت القشة التي قصمت ظهر البعير من صديقة أخرى حاولت أن تخفف عني أحزاني وكانت تتبادل معي الحديث في أمور شتى وفاجأتني بسؤال مباغت: أتدرين ماذا قال لي «علاء» أي زوجي عندما توسطت بينك وبينه لحل المشكلة التي نشبت بينكما في أيام الخطبة؟، قلت لها لا أدري؟، قالت: لقد طلب أن يتزوجني ويتركك؟، لم أجد إجابة ولا ردا على هذه المطرقة الجديدة التي هوت بها على رأسي في الوقت غير المناسب. لقد كان يستطيع أن يتخلص من هذه الأوراق التي قتلني بها بعد موته، وكانت صديقتي تستطيع أن تكتم ما حدث قبل خمسين سنة ولا تطعنني بخنجر مسموم، لكن الوقت قد فات والزوج مات ولا مبرر للبكاء على اللبن المسكوب. ميزان العدالة حب على حبل المشنقة أحمد محمد (القاهرة) - كانت ضربات الدفوف والطبول مثل الطعنات والصفعات تنهال على جسده ووجهه، والأضواء نار تحرقه، الضيوف والمدعوون الكثيرون من الرجال والنساء والأطفال الذين يحضرون الحفل، كأنهم مشيعون أو معزون جاؤوا يشاركون في توديعه إلى مثواه الأخير بل هم الذين ينزعون منه روحه وهم يزفون حبيبته إلى رجل غيره، يشاركون في قتله مع سبق الإصرار والترصد، تغمرهم السعادة وتعلو وجوههم الفرحة وهو يغرق في الأحزان والتعاسة هذا هو حال الدنيا، كلها متناقضات، لا أحد يهتم بالآخر، كل منهم يقول نفسي نفسي، بدا «نجيب» عصبياً متوترًا ولم يتوقف عن التدخين وهو يروح ويجيء في الشقة لا يستقر على حال يبحث عن مفر فلا يجد، ضاقت عليه الدنيا ولا يوجد فيها مكان يمكن أن يسعه، وضاق صدره مع إعلان النهاية وهو يرى ويعيش موت حبه، بل قتله بدم بارد. «نجيب» يقيم هنا منذ ولادته، وطفولته، كان يستريح للتعامل مع جارته «مريم» يلعب معها ومع شقيقها وتطور الأمر مع الانتقال إلى مرحلة الشباب إلى حب من ناحيته، وإن كان لا يعرف مشاعرها نحوه لكنه يستطيع أن يترجم حركاتها وسكناتها بأنها تستريح له ويمكنه أن يقول إنها تبادله مشاعره، حاول كثيراً أن يبدي أحاسيسه لكن بلا مصارحة لأنه يخشى الصدمة ولا يريد أن يسمع منها كلمة رفض ويتمنى أن تستمر الأمور على ما هي عليه حتى لو لم تكن تحبه، يخشى لو صارحها أن يفتقدها تماماً وهو اضعف من ذلك فهي كل حياته، حاضره ومستقبله، وعندما بدأ الشباب يفكرون في التقدم لخطبتها وجد نفسه بين خيارين كلاهما مر، الأول إن استمر في صمته فإن غيره سيفوز بها ويلوم نفسه على هذه السلبية ومن المؤكد أنه سيندم طوال عمره على هذا الخطأ الجسيم، والثاني أنه يعلم الفارق الاجتماعي الكبير بينه وبينها وبين أسرته وأسرتها، ويظن انه لو تقدم لخطبتها في هذه الظروف فإن الرفض هو الرد المنطقي على مطلبه وكلتا الخطوتين انتحار بالنسبة له وسيخسر في كل الأحوال، لابد من تحمل أخف الضررين، وأرسل إلى أسرتها من يجس النبض ويتلمس الأمل الذي سيبقيه على قيد الحياة، وما كان تفكيره بعيداً عن الحقيقة، فقد جاءه الاعتذار عن عدم تلبية مطلبه بشكل يحفظ له كرامته، أخبروه بأنه تمت خطبتها لشخص آخر سبقه إليها وأنه ليس به ما يعيبه ولو تقدم قبله لوافقوا عليه، وفهم «نجيب» مغزى الرد بأنه رفض مغلف بالاحترام، لكن ما آلمه وزاده وجعاً انه تأكد الآن من أنها لم تكن يوماً من الأيام تحبه، وكان يعيش في وهم اختلقه لنفسه، وهو مجرد سائق يملك سيارة قديمة لا يجوز أن تسمى سيارة فهي إلى الخردة أقرب وتأخذ أحياناً أكثر ما تعطي بينما هي من أسرة ثرية تعمل بالتجارة، والفارق بينهما واضح لا يخفى على كل ذي عينين. هذا كله ورد على خاطره مرات عدة، في تلك الليلة التي تعد الأطول في حياته وعلى الرغم من ذلك لا يريدها أن تمر وامتلأ رأسه بالأفكار الشريرة كلها كانت عدوانية، إذ تمنى حينها من كل قلبه أن تنقلب السيارة بالعريس قبل حضوره ويلقى حتفه، أو تصاب العروس بمرض مفاجئ ويتم نقلها إلى المستشفى، أو تصاب بجنون وتذهب إلى المصحة النفسية، أو حتى يحترق بيتها وتلغى الزيجة كلها، لكن لم يحدث شيء من ذلك ولا غيره، وزفوها إلى عريسها على الرغم من أنف أفكاره وغادرت المكان بجسدها، لكنها بقيت في قلبه تعيش حياة كاملة معه في كل لحظة. ثلاث سنوات مضت على تلك الليلة الحالكة السواد حتى جاءه شعاع ضوء ينير حياته من جديد، لقد طلقت «مريم» وعادت إلى بيت أبيها، ومعها طفلان، شعر متوهماً أنها عادت من أجله، وإن كان ذلك غير صحيح لكن الحقيقة أنها جاءت، وهذه المرة لم تعد كما كانت، أو بلغته أصبحت «معيبة» وليس مرغوباً فيها مثل قبل ذلك، تغيرت الظروف والأحوال ولا يمكن أن يرفضوه كما حدث في الماضي، ومن قبيل العادات والتقاليد لا يمكن الآن فتح هذا الموضوع، فهي لابد مجروحة من الطلاق سواء كان بسببها أو رغما عنها ولابد أن يتركها لبعض الوقت حتى تتخلص من آثاره وتكون مهيأة لبدء حياتها من جديد مع رجل آخر، والآن يكفيه منها شعوره بأنها قريبة منه في المنزل المجاور، ويحظى بنظرات إليها، وينعم بتبادل التحية. لم تبك «مريم» على اللبن المسكوب، ولم تجعل نفسها سجينة لتجربة فاشلة، وخرجت إلى العمل، وأسست مشروعاً تجارياً يدر عليها دخلاً تعيش منه هي وولداها، حتى لا تكون عالة على أسرتها، ولا تنتظر أن يمنوا عليها بالمال، فأقامت مطعماً مع «حازم» الذي تكبره بعامين وأصبحت تقضي معه معظم ساعات النهار والليل في إدارة العمل لكن مع مرور الأسابيع والشهور لم يتوقف الأمر عند هذا الحد وتطور إلى علاقة حب بين «مريم وحازم» فأصبح المطعم ملتقى للعمل والحب معا يلتقيان فيه منذ الصباح الباكر ولا يفترقان إلى بعد منتصف الليل، ولأنها أحبته حتى النخاع، فإنها في الساعات القليلة التي تغيبها عنه كانت تلاحقه بالاتصالات فيكون صوته هو آخر ما تسمعه قبل النوم، وأول ما تسمع عند الاستيقاظ. الليلة كعادتها بعدما انتهى العمل تركته وحيداً يشاهد التلفاز وعادت إلى منزلها وعندما تهيأت للنوم مارست طقوسها اليومية واتصلت به، لكنه على غير العادة هذه المرة لم يرد، وواصلت وكررت الاتصالات مرات عديدة مع رسائل لهفة، والنتيجة واحدة بلا جواب، تملكها الخوف والقلق عليه، فهي تعرف أنه لا يؤجل الرد عليها مهما كانت انشغالاته، لابد أن شيئاً ما قد حدث وعلى الرغم من الوقت المتأخر من الليل الذي أصبح في ثلثه الأخير والفجر يقترب نهضت وبدلت ملابسها وخرجت مسرعة ملهوفة إليه، وعندما اقتربت من المطعم جاءها صوت التلفاز، وقبل أن يطمئن قلبها به، وقعت عيناها على ما لا تحب، بركة من الدماء في الأرض، و»حازم» ملقى على وجهه بلا حراك، صرخت وألقت بنفسها عليه تقبله، وجدت سكيناً في قلبه، لقد قُتل، احتضنته وأخرجت هاتفها المحمول تبلغ المباحث وعندما حضروا وجدوها على حالها هذه لم تخف من الجثة والدم والسكين، بل ظلت تقبله وتطلب أن تموت معه، وتتهم «نجيب» بقتله لأنه عاد لخطبتها منذ أسابيع عدة، وهذه المرة رفضت مطلبه بشدة، بل وحذرته من العودة إلى هذا الموضوع وعندما علم بعلاقتها مع «حازم» توعدها وهددها بأنه سيتخلص منه لتكون له وحده، ولن يتركها تضيع منه مرة أخرى بعدما عادت إليه الروح، ويلقى القبض على «نجيب» والغريب أنه لم ينكر أي شيء مما قالته «مريم» بل زاد عليه واعترف بأنه تخلص من غريمه الذي كان يقف حجر عثرة بينه وبين حبيبته وكان السبب في رفضها الزواج منه، واختطفها وهي على بعد خطوة من بيته، وتسكن قلبه. وعلى الرغم من أنه ينتظر عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد فقد طلب منها أن تنتظره إلى أن يعود!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©