الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دراسة في أدب الصحراء

دراسة في أدب الصحراء
7 ابريل 2010 22:33
أصدر الفنان والباحث المغربي الفائز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي والمهتم بالتراث الشعبي الحسّاني ابراهيم الحَيْسن كتابه الجديد الموسوم: “الشفهي والبَصري في الموروث الأدبي والجمالي الحسّاني”، وهو من الإصدارات الجديدة والمتميزة التي قدمتها مؤخرا وزارة الثقافة، وهو من القطع المتوسط يقع في 272 صفحة مع ملحق خاص بالصور الإيضاحية التي تبرز بعض مظاهر الحياة والإبداع بالصحراء. وكما هو معروف لدى الباحثين فالمخزون الثقافي والجمالي الحسّاني يحبل بالعديد من التعبيرات اللسانية والجسدية والمشغولات اليدوية التي تنمو وتتفاعل وتتحوّل داخل وجدان إبداعي مشترك مجسدة بذلك قدرة الإنسان الصحراوي على الإضافة الثقافية والفكرية والخَلق الفني باستخدام أدوات وخامات ومفردات تعبيرية بسيطة مستعارة من التربة الصحراوية الخصبة. وتأتي أهمية الكتاب من الموضوع الذي بحث فيه الكاتب وهو أدب الصحراء، فأدب الصحراء، الشعبي منه والفصيح، برأي المؤلف “لا يختلف كثيرا عن التراث الأدبي العربي، بحيث يضم أنماطا تعبيرية عريقة تقوم على طقوس كلامية كثيرة تتصل بالحياة اليومية بالصحراء، ومن ذلك نذكر: اللهجة الحسّانية والأمثال والشعر التقليدي (شعر البادية) والفصيح والأغنية والحَكايا الشعبية والنوادر والألغاز والأحاجي والتلاسن والمعاظلات اللسانية والكنايات والأوصاف والنعوت وعبارات التحية والوداع والتعزية والمردّدات والحواديث اليومية ونداءات الباعة.. فضلا عن العديد من التقوّلات الشعبية التي ترافق الاحتفاليات الاجتماعية والدينية ومواسم القنص والحصاد والصيد البحري وممارسة المهن والحِرف التقليدية.. وغير ذاك من التعبيرات التي ترسم في بنياتها اللسنية المتنوّعة صورا عديدة من حياة إنسان الصحراء، وتقدّم فكرة عن طقوس ونمط عيشه البدوي.. في عمق هذا التراث الشعبي اللفظي الموسوم بمسحة إثنوغرافية كلامية.. أو كلامية إثنوغرافية، تشتغل مجموعة من التعبيرات الشفاهية الحسّانية على الذاكرة واللسان بوصفهما يشكلان الحافظة الجمعية التي بات الاعتماد عليهما أمرا ضروريا لصون هذه الإبداعات القولية في غياب حركة تدوين حقيقية قادرة على تحويل الخطاب اللساني الحسّاني من مجال التداول الشفاهي إلى إطار التلقي المكتوب.. أليست الكتابة علامة الحضارة، كما يقال؟ إن الإنسان الحسّاني ـ يقول إبراهيم الحيسن في مقدمة مؤلفه هذا ـ وسيرا على خطى دي سوسير الذي يشير إلى أولوية الكلام الشفاهي، كان يحتقر (قديما) فعل الكتابة ويحسبه أمرا ثانويا، على اعتبار أنه كان سريع البديهة وقوي الحفظ والتذكر، لذلك لم يكن التدوين عنده سوى تضييعا للوقت وإجهادا زائدا لا طائلة من ورائه، ولا أدلّ على ذلك وجود مجموعة من الإبداعات والتقوّلات الشعبية التي تجسّد أهمية اللسان عند المجتمع الحسّاني قبل الذاكرة المنقولة كتابة. ومن قولهم في ذلك: ـ لَكْلامْ سابكْ.. ـ وأيضا: كْلامْ اللَّوْلينْ ما يْكَذْبوهْ لّكْتوبْ.. من ثم نفهم بأن إنسان الصحراء كان يولي اهتماما كبيرا للقول Parole وللتقاليد المروية بشكل عام. ويبرز ذلك من خلال اعتقاده وتمسكه بجدوى كثرة الكلام، كما في المثل الشعبي الحسّاني: “كثّرْ كْلامَكْ تْعودْ ولي”. هكذا يشهد تاريخ الأدب: المنطوق أسبق على المكتوب.. فرغم أن الكلمات تذوب وتنطفئ قبل أن يكتمل نطقها، إلا أن الوعي الشفاهي الحسّاني، بمختلف عناصره التي تُكوّن أشكال الإفصاح الرمزي والعلني عن الذات، يظل يتجدّد على قدر كبير من الاستمرارية التاريخية رغم سلطة المكتوب وقداسته.. ورغم طغيان عصر الكتابة، أو عصر المجال الخطي بتعبير ريجيس دوبري بينما تشتمل فنون الصحراء على الكثير من النفائس المادية والقطع التراثية والجماليات البصرية التي تعتمد الفضاء والرمز والأثر المادي والحركة والإيقاع والإيماءة والجسد. فهذه الفنون والإبداعات التقليدية تضم الأغاني والألحان والأنشاد والمواويل وغيرها من أشكال الغناء، مثلما تشمل جميع أنواع الفنون الزخرفية والصناعات والحرف الشعبية التي تتعدى الأعمال الفكرية إلى الأعمال التطبيقية والمهنية. وفضلا عن ذلك، تضم فنون الصحراء إبداعات مكانية/ تشكيلية وأخرى زمانية لا ترتبط بزمن محدّد إلى جانب جميع ما يتطلبه العيش اليومي، كأدوات المنزل والحقل والعمل والأزياء، وكل ما يستعمله الإنسان في حياته الروحية والطقوسية التي يقوم بها في المناسبات الدينية والاجتماعية وما يمارسه في أوقات الحروب والتسلية والترويح.. هذا إلى جانب الصنائع والمشغولات اليدوية التي تكشف على تنوّعها مستوى الإبداع وتعكس طبيعة التفكير الجمالي لدى الحرفيين الذين يقومون بصنع الأواني والآلات الزراعية والأحذية وغيرها من الأمور الضرورية لحياة المجتمع، كالمراجن والخناجر والرواحل والسروج والصناديق والأقداح والقصع والأوتاد والخلاخل والخواتم والقرب والشكاوي وأحواض الماء والأحزمة، مع تغليف الكتب وتحلية القوارير والصناديق بالجلد المنمّق وصفائح المعدن المطروق والمنقوش.. إلى غير ذلك مما يدخل ضمن النشاط اليومي للصانع، أو الصانعة.. هي بلا شك تعبيرات مكانية/ مادية وزمانية، تشكل لدى الحرفيين وسيلة من وسائل العيش والتكسّب وطريقة من طرائق التفكير الشعبي والوعي البصري، كما تعدّ، في مناحٍ متعدّدة، نزعة تصوفية وسؤالا ثقافيا متحوّلا، إذ يعتبر إبداعها أساسيا لإحياء الأعياد والمسامرات الليلية والرقصات الفردية والجماعية وخلال المناسبات الدينية ومختلف الاحتفاليات الاجتماعية..وغيرها.. إن هذه الفنون الصحراوية التقليدية، تظل تشكل في الزمان والمكان أنماطا وصنوفا فنية وتقاليد عملية ـ حِرَفية ـ ووحدات تعبيرية جمالية تجسّد جهود الصنّاع والحِرَفيين وأصحاب المهن الشعبية الرامية إلى تأصيل القطع والمشغولات التراثية والتعبيرات الفولكلورية وحمايتها من الضياع والتَّفتت والاندثار.. ويؤكد الباحث على أن من خصائص هذه الفنون، أنها لا تقوم على مهارة المحاكاة بدافع الحفاظ على الشكل الموروث فحسب، بقدر ما تشتغل على استخدام الصيغ الفنية القديمة وإعادة صياغتها على إيقاع رؤى وتصوّرات جديدة متميزة على مستوى التكوين والبناء الجمالي والأسلوب الفني. ورغم أنها تدور في فلك الفولكلور الشعبي، فإن الفنون التقليدية الصحراوية تسعى إلى الانتقال من البسيط التقليدي إلى الشكل الفني الجمالي، ومن مرحلة التعبير النمطي (المتكرّر والرتيب) إلى مرحلة الإنتاج المتجدّد والمتحوّل، لتصبح بذلك علامة من علامات التقدّم المعرفي الذي يعتمد على نمو التجربة الجمالية بشكل متواتر واضطرادي. وقد أصدر إبراهيم الحيسن العديد من الكتب القيمة التي تبحث في الثقافة الشعبية الصحراوية والحسّانية نذكر منها: التراث الشعبي الحسّاني/ العناصر والمكونات، الثقافة.. والهوية بالصحراء ـ رؤية أنتروبولوجية حول المجتمع الحسّاني، التربية على الفن/ حفر في آليات التلقي الجمالي والتشكيلي (الدار البيضاء)، رقصة الكدرة/ الطقوس.. والجسد. وهو أحد الفائزين بالجائزة الثالثة للبحث النقدي التشكيلي بالشارقة عن دراسة نقدية بعنوان: “أوهام الحداثة في الفن التشكيلي المغربي”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©