الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأنثى تضرم النيران مجدداً

الأنثى تضرم النيران مجدداً
7 ابريل 2010 22:17
امرأة من ثلاثة أسماء وثلاثة وجوه، لم تتعب من إشعال رمادها، ولم تدفعها صروف الدهر لأن تعيد النظر في قرارها بإعادة تدوير ملامحها وأحلامها المتهالكة تحت ضغط عادات وسلوكيات خشنة، رؤى متوارثة ترى في أي حضور أنثوي، من خارج النسق المقرر، خطراً يستدعي المكافحة. هذه المرأة هي الشخصية الأساس التي تدور حولها أحداث رواية “خارج الجسد” للروائية الأردنية عفاف البطاينة، وقد أثارت الكثير من الجدل، ولا تزال تفعل بالتزامن مع صدور طبعتها الثالثة عن دار الساقي، حيث اختارت البطاينة أن تطرح على بساط البحث الروائي، وبجرأة عالية المنسوب، معاناة الأنثى في محيط يتسم بذكورية صارخة، ويستمد أفراده حضورهم من مقدرتهم على مصادرة أحلام وهواجس شريكاتهم المفترضات في عملية البناء الإنساني.. أنوثة سيزيفية ما يمكن إبرازه كأحد الخطوط العريضة للرواية هو ذلك الجنون العذب الذي يثيره الأمل في بعض النفوس المختزنة لسمات التمرد، فيقودها نحو اجتراح معجزات ممتعة، وإن كانت متواضعة، معجزات تتجلى في الرواية من خلال إصرار سيزيفي مدهش على حمل صخرة الانتساب الأنثوي إلى المعترك الآدمي بالرغم من معوقات كثيرة، وبالرغم من الرسوخ التاريخي للسطوة الذكورية على القمة المفترضة، سطوة زائفة تدفع رجالاً مثقلين بأعباء الماضي إلى تحصين مواقع امتيازاتهم الموهومة بكل ما يحيط بهم من تقاليد وأسانيد وسلوكيات معظمها واهم ومصطنع، يحدث كل ذلك بوحي من هدف محوري، يستند إلى الرغبة الغريزية في إقصاء الأنثى عن موقعها البديهي والطليعي على خارطة العيش.. هي منى، فتاة الريف التي تستجلب غضب الطبيعة البشرية الخشنة جراء محاولتها الساذجة للإصغاء إلى همس القلب المتعب وسط منظومة مشرعة من الظلم الاجتماعي، ظلم مقونن يحيل كل ما يلمسه إلى ظلمة دامسة.. أمَّا الحل الذي تقترحه الرواية فهو إشعال النار في جسد الأمس الذي يرفض أن يصير أمساًً، ويصر على مصادرة اليوم وإخضاع الغد، متنكراً لأبده معادلات الزمن ونواميسه.. رؤية صادمة ينطلق البوح الروائي متأرجحاً بين صيغة المتكلم على لسان منى، وأخرى للغائب ينهض بها راو أثيري الحضور، وقد تكون هذه الثنائية الأسلوبية تعكس انفصاماً مجتمعياً حاداً في الوعاء الجغرافي الذي يحتضن الأحداث، إذ سرعان ما تتلاشى بتغير المكان لنقع على أحادية سردية واضحة المعالم، أما الحدث المدخل، الذي سعت الروائية إلى تزخيم نصها من خلاله، فيتمثل بمشهد الأب، الرمز الأنقى للهيمنة الذكورية، مسجى على فراش الرحيل، في إشارة لا تحتمل اللبس إلى انهيار بنيوي في منظومة السلطة المتحكمة بسيرورة الأحداث. البطاينة لا تكتفي بذلك، بل هي تُنطِق بطلة روايتها بإعلان حاسم عن كراهية خالصة تحملها حيال والدها، كما لو أن النص الروائي يريد أن يصدمنا، ومنذ سطوره الأولى، لكونه لا ينوي إبداء أي تساهل في مقاربة استهدافاته المتجاوزة للمألوف، وأنه ليس بوارد مسايرة حالة النفاق الاجتماعي الجماعي التي يتواطأ عليها الناس أحياناً، الأصح غالباً، محققين حولها ما يشبه الغطاء الشرعي لسلوكية تستدعي الإدانة. رحل الأب عن هذه الدنيا، تاركاً خلفه الكثير من الندوب في وجه منى، وأكثر منها في قلبها المتشظي بين ديرة الأهل الذين لم يستكملوا مواصفات الأهل، وملجأ الغربة التي تدهشنا أحياناً بمفاجأتها معلنة أنها ليست غربة بالمعنى الواقعي للكلمة. أمَّا في المسافة الزمنية الفاصلة بين قدوم منى إلى هذا العالم، وهو حدث تضعه العقلية الخشنة عادة في خانة الضريبة التي يتعين على الناس دفعها، حيث ينجبون الإناث في سياق سعيهم الدائب لتعزيز ترسانتهم الذكورية، في المسافة الفاصلة بين هذا الحادث المؤسف وبين رحيل والدها عن العالم نفسه، وهو موقف عابر لم ينطو على شيء من مسوغات الأسف، أقله من وجهة نظر منى ووالدتها وأخواتها، ثمة الكثير من درب الجلجلة التي يتعين على البطلة اجتيازها لتنتزع اعتراف الآخرين بحقها في الحياة.. فجوة في جدار العزلة كان منى هو اسمها الأول، وكان عليها أن تهرب منه لأنه صنيعة بيئة اجتماعية تطلق الاسم وتمتلك المسمى، وكان عليها أيضاً أن تتمرد على محيط بالغ في حسم أموره، اختزل الفرد إلى مجرد خانة في جداول الإحصاء، متغاضياً عن أحلامه وطموحاته، وعن قدراته كذلك.. بكثير من التصميم والصبر والكدمات أيضاً، بنت منى استراتيجيتها في الخروج من سجل الإحصاء ، ولم تتردد في قبول الزواج من عريس الصدفة التي وضعتها الأقدار في مرمى غرائزه، أملاً منها في أن يكون السجن الزوجي هو نفق الخروج من سجن العائلة الممتدة إلى حدود العشيرة، وعندما تستغل وجود العديد من الناس في عقد قرانها، بوصفهم ممثلين للهيمنة المطلقة التي تمارسها الجماعة حيال الفرد، عندما تنجح منى في توظيف تلك السطوة لتضمين عقد الزواج بنداً يسمح لها بمتابعة دراستها بعد انتقالها من عهدة الأب إلى ملاك الزوج، يصير بوسعها القول إنَّها أحدثت فجوة مرشحة للاتساع في جدار السيطرة المتأصلة والمتواصلة بين حراس الهيكل الأنثوي من الرجال المعتدين بذكورة لا تعكس سوى الضعف.. رحلة طويلة وشاقة كانت بانتظار بطلة الرواية التي لم تغب عن مسرح الأحداث لحظة، رحلة مقرونة بالكثير من الجهد والسعي كان عليها أن تخوض غمارها، لتتحرر من اسم علق بها كالوشم، ومن كونها مجرد ضلع ذكوري أعوج يحتاج إلى تقويم دائم، فإذا استعصى لا يبقى أمامه سوى الكسر.. أيضاً كان على الكاتبة أن تهيل الكثير من رماد الأحداث، بعضها بدا مفتعلاً ومغرقاً في ذرائعيته، فوق مسار بطلتها حتى أمكنها أن تدفن تحتها ملامحها المتوارثة، لتطل أخيراً على مسقط رأسها (مذبح إنسانيتها بالأحرى) تحت اسم وهيئة سارة الكزاندر، المثقفة البريطانية التي يحتفي بها الناس في أرض المنشأ بوصفها نتاجاً آدمياً للبلاد المتطورة يستحق الاحترام، ويفترض حسن الإصغاء..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©