الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشحاذ

الشحاذ
1 مايو 2008 04:21
لقد عاصر أياما أفضل رغم ما يعيشه الآن من البؤس والشقاء· عندما بلغ الخامسة عشرة، كلا ساقيه سحقتا تحت حافلة على طريق فارفيل السريع· منذ ذلك الحين وهو يتسول جاراً نفسه على الطريق وخلال الحدائق متكئا على عكازيه رافعاً كتفيه حتى أذنيه حيث بدا رأسه وكأنه حشر بين جبلين· لقيط، وجده كاهن كنيسة ليبيلتيز عشية عيد القديسين وعمده· لهذا السبب تربى نيكولاس توسان على الصدقات، ممضياً وقته بدون تعليم مقعداً ومفرطاً في الشراب الذي يعطيه له الخباز ومشرداً طوال حياته· الشيء الوحيد الذي كان يجيده هو مد يده للصدقات· وفي وقت ما سمحت له البارونة ديفاري بالنوم على مرتبة فرشت بالقش قريباً من حظيرة للدواجن في المزرعة المجاورة لقصرها، حيث يمكنه الحصول على عصير التفاح أو كسرة خبز من المطبخ· وعلاوة على ذلك، كثيراً ما رمت السيدة المسنة له ببضع قروش من نافذتها· ولكنها ميتة الآن· الناس في القرى زودوه بالكاد بكل شيء، قد سئم الجميع رؤيته يوماً بعد يوم لأربعين عاما، وهو يجر جسده المشوه والبالي من باب الى باب على عكازيه· ولكنه لم يستطع اتخاذ قرار بالذهاب الى مكانٍ آخر لأنه كان يعتقد بأنه لا وجود لمكان آخر على وجه الأرض، تلك الثلاث أو الأربع قرى حيث أمضى كل حياته البائسة· لقد حدد منطقة تسوله ولن يتجاوز حدودها· لم يعرف ما إذا كان العالم يمتد لمسافة أبعد من الأشجار التي كانت تحد مدى رؤيته· ولم يسأل نفسه يوماً هذا السؤال· وعندما كان الفلاحون يسأمون رؤيته في حقولهم أو على طول الطريق يصيحون: ''لماذا لا تذهب الى قرى أخرى بدلا من العرج دائما هنا؟'' لم يكن يجيبهم بأي شيء ولكنه يمضي جاراً قدميه يتملكه الغموض والفزع من المجهول: وجوه جديدة، وتهكم، وشتائم، والنظرات المشبوهة من الناس الذين لا يعرفونه، ورجال الشرطة الذين يمشون على الطرقات· هؤلاء كان دائما يتجنبهم بالغريزة، باللجوء الى الأحراش أو خلف أكوام الحجارة عندما يشاهدهم قادمون· عندما يلمحهم من على مسافة بزيهم اللماع في الشمس يشعر فجأة برشاقة غير مرغوبة وكأنه حيوان بري هارعاً الى مخبأه· كان يرمي بالعكازات جانباً ويرمي بنفسه على الأرض كخرقة بالية، ويجعل نفسه أصغر ما يمكن وهو جاثم في ملابسه الرثة· لم تكن لديه أي متاعب مع الشرطة إطلاقاً، لأن غريزة تجنبهم كانت في دمه· يبدو أنه قد ورثها عن والديه اللذين لم يعرفهما أبداً· لم يكن لديه أي ملجأ أو سقف يظلل رأسه· في الصيف ينام في العراء وفي الشتاء كان يبدي مهارة مميزة في الانزلاق الى داخل المخازن والاسطبلات· كان يرحل دائماً قبل اكتشاف وجوده· كان يعرف جميع الفتحات التي من خلالها يمكن للمرء التسلل الى مباني المزارع، والتعامل مع العكازات منحه عضلات ذراعين مدهشة، فهو غالباً ما حمل نفسه الى الغرف العلوية حيث كان يبقى بعض الأحيان لمدة اربعة او خمسة ايام متتالية شريطة ان يكون قد جمع ما يكفيه من الغذاء وخزنه مسبقاً· عاش مثل بهائم الحقول· كان في خضم الرجال، ومع ذلك لم يعرف أحدا، ولم يحب أحدا، مثيراً في صدور الفلاحين نوعا من الازدراء واللامبالاة والعداء المحرق، فلقبوه بـ''الجرس'' لأنه معلق بين عكازيه مثل جرس الكنيسة بين حمالتيه· لم يأكل شيئاً منذ يومين، لم يعطه أحد أي شيء· لقد استنفد صبر الجميع· كانت النساء تصرخن فيه من عتبات أبوابهن عندما يشاهدنه قادماً: ''قف مكانك حيث أنت، إنك لا تصلح لأي شيء أيها المتشرد! لماذا، لقد أعطيتك قطعة من الخبز منذ ثلاثة ايام فقط!''· ليستدير على عكازيه متجهاً الى البيت المجاور حيث يستقبل بنفس الأسلوب· النساء أعلن لبعضهن البعض حيث وقفن على أبوابهن: ''إننا لا نستطيع إطعام تلك البهيمة الكسول على مدار السنة!''، ولكن ''البهيمة الكسول'' في حاجة الى الغذاء كل يوم· لقد استنزف سانت الير وفارفيل وليبيلتيز دون أن يحصل على قطعة نقدية أو حتى كسرة خبز· أمله الوحيد كان في تورنوليز ولكن ليصل الى ذلك المكان عليه أن يمشي خمسة أميال على الطريق السريع وقد كان يحس بالإرهاق لدرجة أنه لا يمكنه جر نفسه لياردة أخرى· بطنه وجيبه كانا فارغين بنفس القدر ولكنه بدأ طريقه· إنه شهر ديسمبر حيث هبت الرياح الباردة على الحقول محدثة صفيراً خلال غصون الأشجار العارية· الغيوم تلبدت بجنون في السماء· والكسيح جر نفسه ببطء على الطريق رافعاً عكازيه الواحد بعد الآخر مجهداً ومتألماً، مسنداً نفسه على ساقه المشوهة التي بقيت له· جلس بجوار حفرة لبضع لحظات ليستريح· الجوع قضى على حيوتيه، وكانت هناك فكرة يتيمة في عقله المرتبك البطيء وهي الطعام ولكنه لم يعرف السبيل الى ذلك· واصل رحلته المؤلمة لثلاث ساعات، وفي النهاية منظر أشجار القرية مده بالطاقة من جديد· أول فلاح التقاه وطلب منه الصدقة أجابه: ''أنت ثانية أيها المسن الشقي؟ ألا يجدر الخلاص منك أبداً؟''· فمضى ''الجرس'' في طريقه· لم يحصل على أي شيء سوى الكلمات الجارحة في كل باب· جال على القرية بأكملها ولكنه لم يحصل على نصف قرش إزاء آلامه· بعد ذلك زار المزارع المجاورة، كادحاً خلال الأرض الطينية منهكاً لدرجة أنه كان يرفع عكازيه من على الأرض بمشقة· قوبل بنفس الاستقبال في كل مكان· كان يوماً بارداً وكئيباً، حيث القلوب متجمدة والمزاج مستعر، والأيدي لا تبسط لإعطاء المال أو الطعام· بعد أن زار كل البيوت التي كان يعرفها غرق ''الجرس'' في زاوية خندق يمر خلال مزرعة السيد تشكيت· بقي ساكناً بعد أن ترك عكازاته تنزلق على الأرض، معذباً بالجوع، ولكن بذكاء كاف يجعله يدرك بؤسه الذي لا يوصف· انتظر ما لم يكن يعلمه، يتملكه ذلك الأمل الغامض المستمر في قلب الإنسان رغم كل شيء· جلس ينتظر في تلك الزاوية من المزرعة في رياح ديسمبر القارصة، لا بد من معونة غامضة من السماء أو البشر دون أن تدرك أدنى فكرة طريقها اليه· عدد من الدجاج الأسود كان يركض هنا وهناك بحثاً عن الغذاء في الأرض· كانت تعض بين مناقيرها على حبة ذرة أو حشرة ضئيلة، ثم انها واصلت بحثها البطيء والدؤوب عن الغذاء· كان ''الجرس'' يشاهد من دون تفكير في أي شيء· ثم خطرت فكرة راوغت معدته بدلا من ذهنه· فكر في أن احدى هذه الطيور ستكون جيدة للأكل إذا طبخت على نار الحطب· لم يظهر نيته في السرقة ولكنه أمسك بحجر بجواره وبمهارة عالية قتل أقرب طائر له بالرمية الأولى· سقط الطائر على جانبه خافقاً بجناحيه· وقد هربت بقية الطيور متناثرة هنا وهناك، أما ''الجرس'' فقد التقط عكازاته وعرج حيث ترقد ضحيته· عندما وصل الى الجسد الأسود الصغير برأسه القرمزي تلقى ضربة قاسية على ظهره جعلته يفلت عكازاته من يديه ودفعته عشر خطوات بعيداً· وبجانبه المزارع ''تشكيت'' غاضباً، وكان يكبله ويركله بحقد فلاح منهوب بينما ارتمى ''الجرس'' غير قادرٍ على الدفاع عن نفسه· عمال المزرعة خرجوا وانضموا الى سيدهم في تكبيل الشحاذ الأعرج· وعندما تعبوا من ضربه حملوه وأغلقوا عليه مخزن الحطب، في حين ذهبوا لإحضار الشرطة· كان ''الجرس'' نصف ميت، ينزف ويتضور من الجوع مستلقياً على الأرض· جاء المساء، ثم الليل، ثم الفجر· وهو لم يأكل بعد· حوالي منتصف النهار وصل رجال الشرطة· فتحوا باب مخزن الحطب بأقصي درجات الحذر، خوفا من مقاومة الشحاذ· المزارع تشكيت أكد انه تعرض للهجوم من قبله، وأنه واجه صعوبة عظيمة في الدفاع عن نفسه· صرخ المأمور: ''هيا، انهض!''· لكن ''الجرس'' لم يقدر على الحركة، فعل ما بوسعه لرفع نفسه على العكازات ولكن دون جدوى· اعتقد رجال الشرطة أن ضعفه مصطنع فسحبوه بالقوة ووضعوه بين عكازيه· استولى عليه الخوف ـ خوفه من الزي الرمادي ـ كالخوف من اللعبة في وجود لاعب محترف أو كخوف الفأر من الهرة، وبعد أن بذل مجهوداً شاقاً نجح في البقاء واقفاً مستقيماً· ''إلى الأمام!'' قال المأمور· سار على قدميه· جميع نزلاء المزرعة شاهدوا رحيله· النساء لوحن له بأكفهن والرجال سخروا منه وأهانوه· اقتيد في النهاية! بئس المصير! تابع السير بين الحارسين· أظهر قدرة كافية·· قدرة اليأس·· لجر نفسه على الطريق حتى المساء· أذهله ما كان يحدث له وكان خائفاً جداً ليفهمه· الناس الذين التقى بهم على الطريق توقفوا لمشاهدته ماراً والفلاحون يتمتمون: ''إنه مجرد لص''· وصل الى البلدة في المساء· لم يدرك سبب وجوده هناك وما سيحدث له· كل الأحداث الرهيبة وغير المتوقعة التي حدثت له خلال اليومين الأخيرين وكل هذه الوجوه غير المألوفة أصابت قلبه بالفزع· لم ينطق بكلمة واحدة لأنه ليس لديه ما يقوله ولأنه لا يفقه شيئاً· حيث إنه لم يتحدث الى أي أحد لسنوات عديدة ويبدو أنه فقد القدرة على استخدام لسانه· وأفكاره لم تكن محددة لتوضع في كلمات· أغلق عليه في سجن البلدة· ولم يخطر ببال رجال الشرطة أنه قد يكون في حاجة الى الطعام فتركوه وحيداً حتى اليوم التالي· ولكن عندما جاءوا في الصباح الباكر لرؤيته وجدوه ميتاً على الأرض··· ياله من أمر مذهل! جاي دي ماوباسانت (1850 ـ 1893): كاتب فرنسي ولد في تشاتو ودرس القانون، يعتبر من أعظم كتاب القصة القصيرة الفرنسية· معظم أعماله كانت تدور حول أحداث الحياة اليومية العادية والتي اتسمت بالموضوعية والفكاهة في أغلب الأحيان· جاي دي ماوباسانت ترجمة: عبدالله الشبلي abdulla.alshebli@gmail.com الذبابة حائرة فلا تبطش بها (مختارات من شعر الهايكو الياباني) ترجمة: محمد عيد إبراهيم الهايكو الياباني ·· عبارة عن مقطعات تتألف من سبع عشرة لفظة· ومن هذه البوصلة المحددة يستطيع شعراء الهايكو اليابانيون التعبير عن أفكارهم ومنطلقاتهم النوعية، غايتهم الخلود، إذ يلمحون مرة إلى الزوال ومرة إلى المألوف· وكل شاعر كبير، سيان كان يابانياً أو غيره، هو فنان بنزعة من الهايكو، كما يقول ميورا يوزوري شاعر الهايكو الياباني· ولو نظرنا إلى مثال قريب فسنجد أن وليم بليك، الشاعر الغامض، مثله مثل شاعر الهايكو القديم، بإمكانه أن يرى العالم فحسب في راحة يد أو يتصور الكون في زهرة برية نبتت على جنب الطريق· يتلازم الهايكو مع الفصول المتغيرة: الربيع، الصيف، الخريف، الشتاء، رأس السنة· ولا يزال هذا الشكل التقليدي شائعاً حتى في اليابان المعاصرة· وقد حاول بعض شعراء الغرب محاكاة الهايكو (عزرا باوند، وغيرهم)، لكن معظمهم أخفق في أسر بساطته الماكرة أو وميض الحس بمجازه المتوتر· وعموماً، سوف تظل له مكانته الشاهقة في التراث الشعري البشري بما تعنيه الكلمة· إن قصائد الهايكو تتعامل مع الطبيعة، لكنها ليست ''قصائد طبيعة''، فهي تشمل موضوعات عديدة: الدين، الحب، الهجاء الاجتماعي، المرايا الفلسفية، الأخلاقيات، بالإضافة لكون الطبيعة نفسها في شعر الهايكو لا تبتعد عن صلب الموضوع بل هي الموضوع ذاته، حيث هموم الإنسان ونشاطاته جزء من الطبيعة، كما هو الحال بالإنسان نفسه· وقد يكون في هذا التحليل تبرير لما يمكن أن نطلق عليه ''النزعة الفصولية'' في شعر الهايكو، نظراً لاقترانه بعالم الطبيعة الذي يأتي بداهة واحتفالياً بمكنون اللغة وهو ما يجيدون استخدامه· وقد أشار أرشيبالد ماكليش لهذه الميزة، فقال: إن العالم قد ينقلب إلى تجربة، ذلك معناه أن نقول انقلب إلى حياة، ومثل هذه اللحظات المدركة حسياً، كما يقول ريلكه عن حق، لحظات نادرة، لأنها حين تهل تجد خطابها فحسب في الشعر الذي يتمكن من لفظ ما تعني، حيث الشعر وحده يتملك الحياة والإنسان · إنها لحظات الهايكو، فنجد فيها أن الحس بالفصول ليس غير تنفس الحياة، لأنه الفعل القريب من الحياة، كما أنه إيقاع الحياة في الفعل· عند الغروب صوت انفجار برعم بسفح جبال الربيع· فراشة في يدي- كأنها روح غريبة، موهَمة· سكون! صوت الجرس يتخلى عن الجرس· يوسا بوسون بين عشب الأرض تغنّي القُبّرة خليّةً عما حولها· البرق وامض- شكاية مالك الحزين تسافر في العتمة· أمرض في الرحلة فتنشط أشباح على مستنقع خرب· ماتسو باشو ترتمي أزهار كاميليا على صخرة وسط سيّال نهر· ميورا يوزوري ضفدع متكئة، لا تبتئسي! إني هنا أحييك· مركب ليليّ إلى بعيد يبحر منوّر بحريق· بالنعاس واليقظة، في التثاؤب الفاغر تجثم القطة للجِماع· مطر غزير فجأة- أمتطي عارياً حصاني الوحيد· الذبابة حائرة تلوي يديها وتحك رجليها- فلا تبطش بها! كوباياشي إيسا شاعر، يُقعي فوق هاوية وسط أزهار كرز عتيق· كادوكاوا هاروكي جرس الريح ساكن لكن الساعة تدق- آه، الحر! يوكوي يايي امرأة تسبح في حوض يشتهيها غراب· تاكاهاما كيوشي الذبابة على ثدي- نام الوليد عن الرضاعة· امرأة غافية- تثير أنفاسُها النسيم· هينو سوجو أنوار الفراشات سلسال من الخرز حذاء حدّ الماء· قطرة ندى على حجر مثل ماسة· كاواباتا بوشا أحب هدأة عمري وهي عابرة كالنور في مجد الصباح· تومياسو فوسي كالصور الهاربة على مشكاة يكبر الناس فجأة· نيجيما باكيونان تحت القمر الزاهي صنوبرة على التل، هل تلك صورة بعثي؟ أوشيما ريوتا وأنا أشم الأقحوان تغوي قلبي روح قُدسٍ زهرية· عقلي هادئ، مستسلم، حين أخطو على ورق هشيم· في توعك الموت يرى المريض فوق المجمرة أظافرها الجميلة· إيدا داكوتسي ينزل جمد الأمطار كأنه من حضيض الوحشة· نايتو جوسو ورد الشتاء مشهد يعشي عينَي العليل· كاتو شيسون على جدار أبيض ظلٌ شاحبٌ أبيض من أزهار كاميليا· إيشزاكي ريوكوفي عام جديد بدأ فوردة واحدة تزهر في الجليد· ميزوهارا شيوشي ردُّنا الوردُ محمد حسن حسن ردُّنا الوردُ ـ ان ما قطفنا قليلا من الوقت، ان ما فقدنا كثيرا من الرفق بالقلب ـ نفرده باقة باقةَ في الطريق الى فاطر البرق؛ والورد كالماء يطفئ جمرا ويشعلُ مرجا، ويطرحُ بارقة للمنى··· حسبنا الله··· يا وحدنا ردنا وردنا··· ان تخطت، وان ما تخطت، حدودَ البلاد خُطانا، وان ما تبدى كلامُ الرّجال جُمانا؛ وانْ ما شهدنا الصبايا على حافة البئر تقطفُ أوصالنا قلقا ردّنا وردُنا ما ذبحنا بنظرة عين تولد يوما جديدا؛ يعدّ من العمر، أو ان جبرنا على الانتظار بباب الجحيم الحميم لبضع ثوان تمرّ على المرء دهرا، هو الورد؛ يا وردُ مرمرت أكثر من مرة مرّ مرآتنا· حينما تسأل المزهرية عن زهرة لا تموت، نلبي وعن ضحكة الغار في جسد؛ علقتهُ الحبيبةُ ليلا على حائط من نهار، نلبي وان ما شُغلنا بآلام ظهر، كأحصنة حُضرت لاختزال الجبال، نلبي أما نحن والوردُ صنوان، عنواننا الماءُ! أما نحن نحل الحكايات في الذكريات، نظل نطلّ، على كل من عاد الى أصله مطرا؛ طالما بعدُ ما طالنا الموتُ، اذ بعدنا، بل وأكثر مما مضى، نصحب الغيم للمنتهى، ونعطّر أرواحنا قبل أجسادنا، رحمة بالصحارى التي حولنا، أسوة بالصخور التي أينعت ذات محل هنا سَوسَنا· أيها الورد علمتنا الانتباهُ الى أيّما شهوة لا تحدُّ··· وعلمتنا كيف نستخرج الحبّ من كستناء النساء، وننثر أحزاننا مازة في الممرات؛ يا وردُ علمتنا كيف نمشي مع الشمس من دون ظل لنا أو علينا؛ وكيفَ نُباغتُ أحلامَنا بالوصول السريع، ونأخذ أكتافنا تحت أوطاننا كالنبيين، يا وردُ لمّا انتفضتَ وأعلنت للنار والماءِ أنّ الحيادَ حدادٌ، سوادٌ يمرّ بطيئا على أهله، وسريعا على الناس؛ كنّا فهمنا لما الاقتداء بذاكرة الماء؛ كيما ندافع عن آخر الودّ في ما وراء الوراء؛ وفي الفارق الصلد ما بين ماء ومارين من دون قطرة ماءٍ·· بلى أيها الورد ثمة من يخطئ الدرب عن ظهر قلب، ويسأل كم محنة تسند الظهر يلزمنا أيها الرّبّ في يومنا ههنا؟ كي نعودَ ـ ولو بعد حين ـ كما الاغنيات تعود على حالها، حين يندلع العشب في برك الذكريات··· وصلنا أخيرا الى ما وصلنا، ومرّ القطار سريعا؛ و''حواء''؛ أمي؛ التي ما تزال تهشّ الجحيم الى لا نهايات ذات المتاهة؛ بنت البداية واللانهايات، تجثو على ركبتيها؛ تقشّر أشهى الخطايا لخطو أبينا، وتدفعه للتنازل عن سدّة الأرض، من صوتها نقطف الآنَ: (يا ''آدم'' البشرُ قل لي: أتذكر تفاحة الجنة المشتهاة؟ أتذكرها؛ هي ذات المذاق لتفاحة القلب في الأرض!؛ سرّ الهلاك؛ هبوب ''الخماسين'' من كل صوبٍ ومني، على جرف ''قابيل'' هيّا نعود إلى أول البدء؛ للربّ، نسأله عن هبوط جديد وخلق عتيد لنا، ولفاكهة لا تمت لتفاحة النفي ذيّاك؛ إني أحنّ إلى بعض نصفك، يا كلّ نصفي؛ ''لهابيل'' أحلى رعاة الحياة، على سطح دمعته عالقا بالنباتات؛ كل السلام عليه؛ على الأكسجين مع الهيدروجين، لهذا الثنائي، في غمرة المدّ والماءْ···)· شاعر فلسطيني مقيم في الإمارات المدنسون عبد الرزاق كزولي مثلي، أفقت متأخرا تبدى لك أنك عالق في شرك حباله أحلام بسيطة تؤجلها باستمرار· تلجلجت في الأوهام، فلم تترب يدك بشيء· انسلخ جلدك فاكتشفت أنهم استغفلوك فدنسوك· ذاكرة: بالأمس كان الرفاق يعزفون على أوتار مدوية، غنيت بأعلى صوتي للانعتاق، رقصت مع عقارب الساعة وسرني المسار· لكن الرفاق تركوني هائما وغيروا الطريق· تمرد: نزعت لساني من دفاترهم، وجمعت ما تبقى من الكلام في رزمة بيضاء· ربما فعل آخرون مثلي، أقمنا الجنازة، وأعلنا الحداد· في الطريق أنشدنا لمحمود: ما كنت أعرف أن تحت جلودنا ميلاد عاصفة··· عبثا كنا نذرف الدموع، ونتلو صلوات الجنازة· مراوغة: حين ضاقوا ذرعا بنا، نظموا زيارة لقبر الزعيم، تلقفتهم نظراتنا، تصنعوا الحزن، واعتصرهم القلق· قدموا ضدنا شكوى: لم نعد نبرهم كما عهدوا فينا؟ تحجرت عقولنا واستعصى علينا فهمهم، لم نصفق بحرارة حين خطبوا آخر مرة· تصلبت أيادينا وتكاسلنا عن النضال والمشاهرة، فتركنا الديار بلاقع، لقد زغنا عن الخط! مرافعة: لما تفرقوا، تسللت إلى القبر، غضب الزعيم وأشاح بوجهه، ثم صاح: ـ تجسرون على اخوتكم؟ تعقون كباركم؟ تبا لكم· ـ أيها الزعيم: متى استؤمن الذئب على الخرفان؟ تركتنا مأدبة لهؤلاء اللئام، نهشوا لحمنا، ومن عظامنا صنعوا أرجلا لكراسيهم· تبرمنا من ثقل جثتهم فأمرونا بالصمود· ـ ما تلك الرزمة؟ ـ لقد أفرغوا الكلمات من معانيها، جمعت ما تبقى من الحروف خوفا عليها من الضياع· أملي أن نعيد تركيبها من جديد· ـ ولم أفرغتم دياركم؟ أيها الزعيم، ورثتك باعوها وباعونا ليلا في أسواق عفاريت الحساب، لم نحضر المناقصة، ولوا أبناءهم على جني المحصول، أما نحن فرمونا ''بعظمة يابسة''· ـ أف لهم، مدنسون، منابث غدر، واجبكم تطهيرهم، ثم انسحب الزعيم بين القبور· حكم: عدت من المقبرة، مع بعض الرفاق أعدنا تركيب الحروف: ـ لابد أن نكون نارا تطهرهم! ـ لابد أن ننتزع اللقمة من حلوقهم، ونطعم جياعنا! ـ ''أبدا لن نخضع، أبدا لن نركع'' هذه وصية الزعيم أيها المدنسون··· كاتب مغربي في جهنم الأرضية عادل مردان تمشي، ويداكَ على الرأس وهم يتجلببونَ بالتقوى يدفنون نهرَنا وضحَ النهار الظلاميون الظلاميون الظلاميون برابرةُ القهرِ الأكثر تألقاً بالخزيّ أزاحوا الجمال جانباً الظلاميون الظلاميون الظلاميون كررْ ما شئت فالمصائبُ تضحكُ طروباً الدروب تنثّ غبارَها أيّها الأعزلُ المستغني خذْ نفساً أعمق تحت سماء اليورانيوم الظلاميون الظلاميون الظلاميون لماذا يختارك الهمّ لابنته؟ ألأنّكَ ثاقبُ النظرة في الأصدقاء في جهنم الأرضيّة يفضلك الهمُّ على نفسه الظلاميون الظلاميون الظلاميون حزين المشيةِ يومك حِرابٌ وغصص شارد اللبِّ إلى أين؟ في جهنم الأرضية تكره ساعةَ ولدت شاعر عراقي ـ البصرة عندما يبتل السوسن سعيد وليد بريدي أنا من سأخرج من البيت ولستِ أنتِ··· هكذا خاطب (منار) زوجته (سهيلة) حين اشتد بينهما الشجار، وحين همت بالخروج وهي تحمل طفليهما (رصين)، سارع منار بمنعها من الخروج وآثر أن يخرج هو، فهي مهما يكن أنثى، وهو قطعاً أقوى منها كون الليل قارب منتصفه والشوارع خلت إلا من خفافيش الظلام البشرية التي تتسكع في الأزقة وأمام الحانات بحثاً عن صيدٍ نسائي·· وقبل أن يغلق منار باب المنزل بعنف رمقته سهيلة بنظرةٍ غاضبةٍ جداً، ورصين على ذراعها يصرخ خوفاً وقهراً· خرج نحو الشارع، وصار يمشي وحسب، دون أن يعرف إلى أين، حتى اقترب من متجر صغير وصاحبهُ يشرعُ في إغلاقِ أبوابهِ، فأسرع نحوه واشترى علبة سجائر وشرع بالتدخين، مع أنه ترك هذه العادة السيئة منذ رزق برصين، لكنه بلا شعور وجد السيجارة بيده وهي تحترق وتحرق معها وجدانه ومشاعره، وهو ينفخ مع دخانها براكين الغضب المتوقدة في قلبه· كان يدخل من حارة ليخرج من أخرى، يلج من زقاق إلى آخر، يمشي على الأرصفة ثم يقطع الشوارع بشكل عشوائي، كان لا يعلم أين يذهب فقط يمشي، وكلما انتهت سيجارة أشعل الثانية منها، يريد أن ينسى، يريد أن لا يعيش واقعهُ، هو من أشهر كتاب المسرح في البلاد بأسرها، وقد جسد الممثلون على خشبات المسرح الكثير من مسرحياته التي كانت عروضها تستقطب كل فئات الجمهور، فهو يعنى بكل مشاكل المجتمع، بل يجد لها حلولاً في خواتيم مسرحياته، لتبقى الجماهير تصفق له بشكلٍ متواصل ومنقطع النظير إلى أن يدخل المسرح بعد الممثلين مع نهاية كل عرض· لقد كتب في كل شيء بل نجح في كل مواضيعه، عن البطالة، عن الفساد الإداري، عن عنف الأزواج ضد الزوجات، وأبدع بالكتابة عن الوجدان الذاتي والرومانسية، فهو لا يكتب بموضوع إلا ويطرح الحل فيه، على خلاف الكثير من الكتاب الذين يضيعون الحل بل يتركونه للقارئ أو للرائي، لكن (منار) لم يستطع حتى الآن أن يجد ولو حتى شبه حل لمشاكله الداخلية التي لا تنتهي، فهو لم يجد كما يدعي لغاية الآن الصدر الحنون الذي ينام عليه، ولم يُخلق أحد من جنس البشر من يفهمه أو يستوعبهُ، قد يكون النجاح متجسدا فيه بهيئةِ آدمي، لكن ذلك من الخارج فقط، أما من الداخل فهو إنسان معذب، طريد، يعيش بحزنٍ دائم، وفد من الريف ليعيش بالمدينة منذ أن كان طالبا، وبرع في الكتابة ودخل دائرة الأضواء والشهرة، ولم تعد قريته قادرة على استيعاب شهرته، فكثيراً ما كان يمشي بشوارعها ليجد نفسه حقل رمي لامرأةٍ تتخلص من ماء غسيلها على ملابسه، ولربما يكون موضوع سخريةٍ عجائز القرية المرميين على مقهى بائس مثلهم، وهم يستهزئون من ربطةِ عنقهِ الوردية التي لا تناسب ذائقتهم· فما كان منه سوى الامتناع عن زيارة القرية، وهو بالأصل نشأ يتيم الأبوين فيها· كتب في قصص الحب أرقى المسرحيات، حتى تبادل العشاق نصوص مسرحياته في عيد الحب من كل عام، كان يقول على لسان البطلة كلاماً يجعل كل شابٍ هائما الى أعماقه، وحين يجعل الحوار على لسان الحبيب المتيم، وهو يخاطب حبيبته، فإنه يجعل من كل أنثى حالمةً سادرةً بخيالها نحو كل ما هو جميل، لكنه مع ذلك لم يستطع أن يكمل أي قصة حب، فمن أحبته لم يحبها، ومن أحبها لم تحبهُ، ومن أحبها وأحبتهُ فرقت بينهما قرارات طائشة، لذلك اضطربت هرمونات العشق بداخله· وظل يصعد ويهبط بأمواج بحر الغرام دون أي نتيجة ليتزوج بالنهاية من (سهيلة) طبيبة العيون ذات الحسب والنسب وسليلة عائلة من أغنى عائلات المدينة، وهي طبيبة ناجحة ماهرة بمهنتها، وقد تعرف عليها حين كان يعالج عينيه بسبب ما أصابهما من فرط القراءة والكتابة التي يمارسها، وقد تعلق بها مع أنها كانت فاترة المشاعر تجاهه، لكن ما دفعه للاقتران بها كونها طبيبة ناجحة، ناهيك عن أنه قارب الخامسة والثلاثين من عمره· كان يعيد شريط الذكريات بعقله وهو يمشي بلا هدف، حتى بدأ المطر الخفيف بالهطول، حينها انفرجت أساريره، فهو يحب المطر الخريفي، وخاصة اذا كان ليلا، بصحبة حبيبةٍ يبتل شعرها الحريري فترتمي في حضن حبيبها لكي يحميها من قطيرات المطر، هذه الصورة الجميلة ولدت بطيات أعماقه، وكانت بذرة أو نواة مسرحية جديدة سيصنعها مستقبلاً، لأنه فعلاً يتمنى أن يعيش تلك المواقف الشاعرية، وحين استحال ذلك على أرض الواقع لم يتوان عن عيشها عبر الخيال أو عبر الورق، وتذكر باسماً، حين طلب من سهيلة في إحدى الليالي الماطرة أن تتمشى معه تحت قطيرات المطر، فامتنعت بشكلٍ كوميدي معزيةً بأنها لا تزال عاقلة، وكأنها بكلامها هذا طعنتهُ في خاصرته· هو لا يكره سهيلة على الإطلاق، لكنها في كوكب وهو في آخر· اهتماماتها تنحصر في بوتقة عملها كطبيبة، وهي لا تغفل عن متابعة آخر صيحات الموضة والأزياء النسائية وآخر مساحيق الجمال، لكنها البتة لا تهتم بما يكتبه منار، مع أنه حرك آلاف المشاعر وما استطاع أن يحرك فيها شيئاً، هي تهتم بمطعمهِ ومشربهِ وهندامه، كما أنها حريصة على شراء أفخم الملابس وربطات العنق الفاخرة له· لكنها اهتمت بالقالب الخارجي وغفلت عن الداخل، وزاد من بؤسه تذكره لحادثة وقعت قبل شهور قليلة حين استرق السمع -عن غير عمد- الى حديثها مع بعض صديقاتها، حيث سألتها إحداهن قائلة: هل أنتِ محرض العشق والمشاعر في صدر زوجك بما يجسده عبر كتاباته، فردت ببرودة الأطباء المعهودة ونفت أن تكون كذلك، بل تفاخرت بأنها لا تحب أصلاً الأدب أو المسرح، وإن كانت تجامل منار أحيانا، وتقرأ بعض كتاباته دونما اكتراث بفحواها· تراوده أفكار، وتقاطعها ذكريات، وتحيطها حكايا، وعقله مستمر في ذلك، والمطر يبلله بشكل كلي وحين أراد أن يشعل سيجارة اندفع إلى مدخل إحدى البنايات التي صادفت طريقة، وأخرج كبريته وشرع بإشعالها، وحين التفت للخلف شاهد طيف فتاة تدخل المبنى، وهي تطوي مظلتها وكان المدخل شبه مظلم، فهم بالخروج فوراً كي لا تخاف، لكنه سمع صوتاً حنوناً يناديه (أستاذ منار)، سمع صوت سوسن، فتسمّر في مكانه، ووقفا وجهاً لوجه، هي استغربت منظره البائس، في حين كان ينظر نحوها بسعادة مفعمة بالشوق· ـ أليس الوقت متأخرا؟ (قال منار) ـ بلى ولكنني أنهيت للتو عرض المسرحية، ردت سوسن، وأضافت: أراهن يا أستاذ منار بأنك تعمدت المشي تحت المطر حتى يكون ذلك محرضا لمسرحية جديدة تكتبها، فأنا لا أحفظ مسرحياتك عن ظهر قلب فحسب، بل أعرف كل موطن جمال في قلبك الرهيف· ـ هل منزلك في هذا المبنى؟ (منار) ـ في الحقيقة هذا منزل والدتي وهي مريضة جداً· (سوسن) ـ هل يوجد عندك مانع لو نتمشى سوية تحت المظر (منار) ـ بل ما أخشاه أن يكون لديك أنت مانع· (سوسن) لم يدم الحوار طويلاً، فسرعان ما انطلقا نحو المطر وفي قلبيهما من الفرح ما يكفي لمحو كل أحزانهما، كان الوقت متأخراً، والجو أصبح أكثر برودة، والشوارع باتت خالية، ومع ذلك كانت الصدفة التي جمعتهما خيرا من ألف ميعاد، تنفس منار الصعداء حين وجد من يغوص بأعماق قلبه، ويلامس وجدانه، فسوسن ليست فقط قارئة محترفة للأدب والمسرح، بل هي، من ولعها بالمسرح، صارت ممثلة ناجحة جداً، وسبب شغفها بالمسرح هو منار، فقد عشقت كتاباته وأسلوبه الرقيق، فراسلته ولم تمل من إرسال خطاباتها له، حتى ردّ عليها بخطاب مختصر فحواهُ موعدً لمقابلتها، وحين قابلته أول مرة، جسدت له مقطعاً يصور شخصية من شخصيات إحدى مسرحياته، وقد اكتوت بنار الحب، فلمس منار من سوسن قابلية الاحتراف، وعرض عليها استغلال موهبتها عبر خشبة المسرح، فمثلت أروع الأدوار، حيث كانت تعيش الشخصية حتى تتقمصها تماما، ولا تخرج منها سوى في غرفة الملابس، حين ترتدي ملابسها لتهم بالخروج·· سوسن لم تفجر أمواج التصفيق المستمر في كل ليلة عرض، بل فجرت عشرات الإلهامات والأفكار في مخيلة منار، حتى كتب أروع الكلام من وحي حضورها في ذاكرته·· مثلت له أكثر من خمس مسرحيات، وكان الحب المتبادل بينهما غريبا، فقد هام بها عبر كتابته من خلال ورقهِ وأسطرهِ، وهامت به أيضاً عبر أدائها المتميز على خشبة المسرح، فعندما كانت تتألق بحوارات عاطفية كانت لا ترى سواه أمام عينيها، كذلك هو حينما يبدعُ بكتاباته كان يطوي مخيلته عليها وحدها· وبقرارٍ غريب لم يشأ منار أن يفسد أمواجَ إلهاماته بطلب الاقتران من سوسن التي كانت تنتظر إشارة من بنانه، لأنه خاف بحصوله عليها أن يتوقف هذا الإلهام بداخله، ليحل محله طلبات ومتطلبات الحياة الزوجية· وبخطأ فادح أو سوء تقدير ظن بأن سوسن ستستمر بنفس عطائها المعهود، وسيظل العشق الصامت بينهما مستمرا، حتى بعد تلقيها بطاقة دعوى حفل زفاف منار على الدكتورة سهيلة· ـ أخطأت يا معلمي حين ظننت ذلك·· قالت له سوسن وقد اختلطت دموعها بقطيراتِ المطر المتساقطة على وجنتها حينما كانت لما تزل تمشي معه· ـ وهذا سبب امتناعي من بعد ذلك عن تجسيد أي شخصية من شخصيات مسرحياتك (قالت سوسن)، منار كان في هذا الحوار صامتاً أكثر من متكلم، وضع يده على يدها، ثم رفعها الى شفتيه ليقبلها، فلاحظ وجود خاتم في إصبعها، حينها أطلق تنهيدة الربان الذي أضاع في البحر الهائج سفينته، ما هي إلا لحظات حتى أراحت سوسن رأسها على كتف منار، وأخبرته قصة زواجها الفاشل، الذي تعاني تبعاته كل يوم، حيث حظيت بزوجٍ لا يقدر مهنتها ولا مشاعرها ولا أحاسيسها، وحين وجدت نفسها بين مفترق طرق الاستمرار بمهنتها أو اعتزالها إرضاءً لزوجها، فضلت الاعتزال، وشاءت الأقدار أن تكون الليلة تلك هي آخر ليلةٍ تطلُ فيها سوسن على المسرح، حيث استمر التصفيق لها طويلا· وشاءت الأقدار أيضاً أن تلتقي على مدخل عمارة والدتها بملهمها الأول والأخير، ليكون آخر من يودع فنها النبيل· في النهاية دخل منار إلى منزله وهو مبلل تماماً والوقت متأخر جداً، فاندفعت سهيلة نحوهُ، وهي تسوقُ له كلمات الاعتذار· هو لم يتفوه ببنت شفة، بل اندفع مسرعاً إلى مكتبته داخل البيت، وأوصد الباب من خلفه، ثم ارتمى على طاولته، وأخرج بعنف أوراقاً من درجهِ، ليبدأ بكتابة مسرحية جديدة، لم يتوقف المطر، بل استمر بالهطول أمام عينيه، وكتب بأعلى الصفحة عنواناً لمسرحيته الجديدة: (عندما يبتل السوسن)، لينهار تماماً ثم يرتمي على الورق باكياً كالأطفال· وفيما بعد أصحت هذه المسرحية قمة أعماله جميعاً، وحين مُثلت المسرحية جسدت دور البطلة ابنة سوسن ذاتها، وذلك بعد مرور عشرين عاماً على كتابة هذه المسرحية، فقد ظلت مجهولةً، حتى أظهرها للنور المخرج المسرحي (رصين) وفاءً لذكرى والدهِ الراحل·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©