الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جوهرة ماليزيا وزهرة اليابان في .. ملتقى التراث والتعليم

جوهرة ماليزيا وزهرة اليابان في .. ملتقى التراث والتعليم
7 ابريل 2010 22:06
لم يقتصر ملتقى “التراث والتعليم: رؤية مستقبلية” في بحوثه على الجانب النظري الذي حظي بنصيب وافر من جدل المشاركين ونقاشاتهم، لكنه اهتم أيضاً بالجانب التطبيقي، فعرض الباحثون المشاركون تجارب دولهم في موضوعة توظيف التراث في المناهج التعليمية. وقد تراوحت البحوث المقدمة حول هذه التجارب بين العرض السريع والمعمق، وعرضت تجارب مميزة منها: التجربة التركية، والأستونية، وتجربة جامعة بروكلين التاريخية، وحظيت التجربة الماليزية والتجربة اليابانية باهتمام الحضور. وبدا أنها من أغنى التجارب في هذا المجال. مع عرض التجارب العربية بدا أن دول العالم قطعت شوطاً كبيراً على صعيد توظيف التراث في مناهجها الدراسية وفي برامج جامعاتها، فيما العرب ما يزالون يخوضون في المفهوم والمصطلح، وما تزال معظم تجاربهم ترواح في أسئلتها غير المحسومة عن التراث، على الرغم من أن المفاهيم والمصطلحات، حسب ما قاله الدكتور زعيم خنشلاوي، أقرها خبراء من اليونسكو بعد دراستها لفترة طويلة، وأن الدول قد صادقت عليها، ما جعله يرى في مناقشة المصطلحات والمفاهيم نوعاً من “إضاعة الوقت”. وقد ساهم إيضاح الدكتور إسماعيل الفحيل الخبير في إدارة التراث المعنوي بهيئة أبوظبي للثقافة والتراث في تحديد بوصلة النقاشات إلى حد ما، حيث قال “إن الهيئة وهي تنظم هذا الملتقى وضعت في اعتبارها الحديث عن التراث بشقيه المادي والمعنوي، وفق ما أقرته منظمة اليونسكو في اتفاقية 2003م، وطالب أن يكون الحديث عن اللغة العربية كوسيلة ناقلة للتراث”. وإذا تركنا جانباً مسألة التراث ومفهومه يمكن القول إن بعض البحوث قدمت تجارب عربية متغايرة، تلتقي وتتفارق، حول فهمها لتوظيف التراث ومخرجاته التعليمية، وهنا، يمكن الإشارة إلى تميز التجربة السورية والمغربية والإماراتية أو هكذا بدا من خلال الملتقى على الأقل. الجوهرة الماليزية تحت عنوان مثير إلى حد ما “تعليم التراث: تحويل الأسطورة إلى حقيقة - تجربة جامعة ماليزيا كيلانتان” قدم الأستاذ الدكتور فاروق زكريا تجربة ماليزيا، مؤكداً أهمية التراث في تطوّر الأمم وما يهدده من الاختفاء والذوبان، مشيراً إلى حاجة ملحة في كافة أنحاء العالم، إلى إعادة التراث إلى أنظمتنا التعليمية، لأنه، بكل بساطة، يصوّر هوية الإنسان العرقية والثقافية. وتنظر جامعة ماليزيا كيلانتان إلى التراث كجوهرة ثمينة تحتاج إلى لمسة جديدة. لذلك ورغبة منها في الاستفادة من الماضي المنسي قدمت لمتخرجي الثانويات الماليزيين برنامجا أكاديميا فريدا من نوعه يُعرف بـ “إجازة في دراسات التراث بدرجة امتياز”، وهو البرنامج الذي أضاء عليه البحث من مختلف النواحي. أطلقت الجامعة البرنامج منذ عام 2007، ويتضمّن كافة مجالات التراث من مادية وغير مادية. ويتم تعليمه في كليّة التكنولوجيا الإبداعية والتراث ويغطّي معظم جوانب التراث أي التراث الثقافي والمبني والطبيعي فضلاً عن الحفاظ على التراث وحفظه وإدارته والمبادرات المتعلقة به والمتاجرة به. وبهذا، يقول فاروق زكريا، إن الجامعة تسير على الطريق الصحيح لتحقيق رؤيتها المتمثلة في “مناصرة تطوير الرأسمال البشري بخصائص ريادية لتحقيق ازدهار عالمي”. وتصنف ماليزيا الفنون والتراث بحسب فئة مواصفات عملها والمنتَج الذي يتم إنتاجه في التالي: فنون الأداء الماليزي التقليدي وتشمل: الموسيقى التقليدية، الرقص، والألعاب، والأغاني الشعبية، والمسرح، والفنون القتالية، والحِرَف اليدوية، والأدب الماليزي. وكافة منتجات التراث المذكورة أعلاه هي قابلة للمتاجرة وذات قابلية عالية لتسويقها كسلع قيمة. والجامعة تدرك ذلك، وتعتقد أنّها تحتاج إلى إدارة مناسبة لتفادي إلحاق أي ضرر بالحالة الجيدة التي تتمتع بها. ولعل هذا البحث هو الوحيد الذي ربط بين الاعتبارات الاقتصادية والثقافية في مجال التراث، وهو يرى أن برامج تسويق التراث والمتاجرة به تهدف إلى الحرص على استمراريته كسلعة عالية الجودة. وبصفته منتجاً مشهوراً للغاية، يجب أن يُعتبر التراث ليس فقط كحارس للثقافة بل أيضاً كمنتج تجاري كفيل بأن يدر تدفقات نقدية وأرباح على مالكه. ونوه الباحث إلى ان علامات وأعراض انخفاض شعبية منتجات التراث ظاهرة في معظم البلدان الآسيوية. غير أنّ العديدين أدركوا أنَّ التراث يحتضر وهم يضعون استراتيجيات لإعادة إحيائه. وبصفتها جامعة رسمية، تملك جامعة ماليزيا كيلانتان استراتيجيتها الخاصة في إعادة إحياء التراث من خلال هذا البرنامج الذي يشعر المؤلفون، بعد مرور حوالى ثلاث سنوات على وجوده، أنَّ التحديات التي واجهوها قد تحوّلت إلى تجربة قيّمة يستأهلها مجال ثمين كالتراث. وتدرك الجامعة أنّ الجهود الحثيثة التي تم بذلها ستُكافأ يوماً ما. فمتخرجوها يعتنقون التراث ويبنون طريقاً باعثة على الفخر، وهم سيكونون أصوات العالم في المستقبل. الزهرة اليابانية مثل زميلة الماليزي بدأ الباحث الدكتور مياتا شيغويوكي بحثه عن “دروس الثقافة التقليدية للأطفال في اليابان” بالتنبيه إلى أن التراث الثقافي غير المادي، معرض إلى الاندثار إذا لم يتم نقله إلى الجيل القادم. واعترف شيغويوكي أن نظام التعليم الحديث في اليابان، لم يولي الكثير من الاهتمام لتعليم التقاليد اليابانية، ويبدو أن اليابانيون مثلنا في همِّ الهوية والتراث، ففي غمرة التحديث السريع للدولة أهملت الثقافة التقليدية إلى حد بعيد، بخلاف ما كنا نعتقد ونردد باستمرار على سبيل الإعجاب بالتجربة اليابانية التي مزجت بكفاءة بين قيم الحداثة وقيم التراث. لكن اليابانيين، وهم في هذا يختلفون عنا حتماً، استعادوا الوعي سريعاً، وانتبهوا للثقافة التقليدية، والآن أصبح تعليم الموسيقى اليابانية التقليدية، على سبيل المثال، جزءً من المنهاج الدراسي الرسمي. فضلاً عن المشروعات التي تنظمها أكثر من هيئة إقليمية للأطفال وتحاول أن تنقل لهم الثقافات التقليدية لجماعتهم، ومن بين هذه المشروعات مشروع “دروس الثقافة التقليدية للأطفال” الذي ألقى الباحث عليه ضوءاً كاشفاً ومفيداً إلى حد كبير، فقد نجح الباحث في تقديم بحث جدي وشامل ودقيق لواحدة من الزهور اليابانية التي عبقت رائحتها في جنبات الملتقى، ومثلت نموذجاً عملياً على الكيفية التي يمكن بها تحقيق النجاح في مجال توظيف التراث في المناهج التعليمية والمشروعات الوطنية. والبرنامج هو برنامج تعليمي للأطفال يهدف إلى نقل الثقافة التقليدية الإقليمية إلى الجيل القادم إضافة إلى تطويرها، وقامت به المؤسسة الوطنية لإحياء الثقافة التقليدية عام 2003. وقدم الباحث وصفاً شاملاً تفصيلياً لكل ما يتعلمه الأطفال في المشروع، والهدف الذي يسعى إليه، وقال: “هذا الاستثمار التربوي هو مثل البذرة في مستقبلها، وطبعا، فان الأمر يحتاج إلى بعض الوقت لرؤية النتائج الملموسة، إلا انني اعتقد أن زهرة جميلة سوف تتفتح”. ولكي تتفتح الدروس وتعطي ثمارها المرغوبة لا بد أن تكون مرحة يستمتع بها الأطفال، وتتم في بيئة آمنة بعيداً عن الأذى، وينخرط فيها الأهل والجماعة. وفي نهاية بحثه الممتع خلص شيغويوكي إلى أن الآباء الذين كانوا أطفالاً في الخمسينيات من القرن الماضي هم الآن آباء. ولأنهم واجهوا مشكلة فقدان الثقافة التقليدية خلال نموهم، فان خبرتهم المباشرة في الممارسات الثقافية التقليدية اقل، وهكذا فانه من الصعب عليهم نقل التراث الثقافي غير المادي من الماضي إلى الممارسة الفعلية عند اطفالهم. وقد جاء برنامج “دروس الثقافة التقليدية للأطفال” ليتعامل مع هذه المسألة. التجربة الفرنسية ونقل البروفيسور جان رونيه تروشيه الحوار إلى مستوى آخر، إلى دمج التراث بالسياسة وبالثقافة وهو المنحى الذي تتبناه جامعة السوربون التي تهدف إلى تعليم الدارسين كيف أن التراث يمكن أن يكون جزءاَ من عملية التخطيط الأقليمى. مشيراً إلى أن الثقافة والسياسة والتراث هي محور دراسة الماجستير في الجامعة بباريس. وتضم جامعة السوربون الفرنسية قسمين لدراسة وبحث كل ما يتعلق بتراث الدولة؛ الأول: قسم البحث والآثار الخاص بتاريخ الفن والأثار. والثاني: قسم البحث والآثار الخاص بالجغرافيا. وبالرغم من ذلك، فإن القسم الأول لا يقوم بتدريس التراث كأحد التخصصات الرئيسية، ويرجع ذلك الى اعتبار الفن والآثار، كعوامل منتجة للتراث أى أنها تقوم بشكل أو بآخر بإيجاد هذا التراث. أما فى القسم الثانى (قسم الجغرفيا)، فإن التراث لا يتم تدريسه خلال الأربع سنوات الأولى، الا أنه من المتوقع تدريسه العام القادم من خلال مادة إختيارية تسمى الأرض والتراث. أما اختيار (الثقافة، السياسة، التراث) لتكون محور دراسات الماجستير فلم يحدث إلا فى عام 2005. ويعتقد جانب كبير من العلماء أن الجغرفيا تسمح بالربط بين التراث والعديد من الموضوعات التى تهم الباحثين وجانب كبير من الرأى العام: العولمة الثقافية، ومدى امتدادها، التنمية المستدامة. وقال بروشيه: نحاول جاهدين أن نوضح لهم أن هذا المفهوم متعدد الجوانب وأن هدفه ليس ثابتاً. ونعرض لهم أيضا كيف أن تخصصين مختلفين من العلوم الإنسانية أحدهما مرتبط بالبحث والاخر بملاحظة السلوك الثقافى والاجتماعى يوليان اهتماماً خاصا بالتراث وكيف أنه بوسعهما التأثير فى السياسات العامة. ومن أجل إيضاح هذه الجزئية، نركز بشكل خاص على قطاعين من قطاعات التراث واللذين لعبا دورا هاما فى تطوير بعض التخصصات (المنتجة) للتراث: التراث الريفى والآثار. التجربة الإماراتية حضرت التجربة الإماراتية بقوة بين التجارب العربية على صعيد المناقشة، حيث تناول عدد من الباحثين ملامح هذه التجربة وإشكالاتها وما تثيره من أسئلة فضلاً عن تاريخها وما حققته من إنجازات. وتحدث سعيد بن كراز المهيري نائب مدير إدارة تطوير مشروع قصر الحصن بالهيئة، عن تجربته في تقديم برنامج المسابقات التراثية عبر الإذاعة منذ عام 2005، مبيناً الهدف من البرنامج، وطبيعته، والإقبال الكبير الذي يلقاه لدى الجمهور. وأكد المهيري أنه يستند إلى مصادر ومراجع متعددة في التراث لإعداد البرنامج إلى جانب اعتماده على مصادر حية عبر علاقاته مع البدو وأهل البحر الذين ما يزالون يعيشون وفق الطريقة التقليدية. كما تحدث عن البرنامج التلفزيوني “السردال” الذي أعده لقناة الإمارات في شهر رمضان الماضي. واستعرض الدكتور حسن قايد الصبيحي نشأة الإعلام في الدولة وارتباطه بتأسيس الاتحاد مشيراً إلى أنه، وبعد أن اكتملت عناصره، منح مساحات واسعة وزمنا ممتداً لمعالجة قضايا التراث في مختلف الثقافات منذ وقت مبكر. وأشار الصبيحي إلى نمط البرامج الجماهيرية الشهيرة في أميركا التي يطلق عليها مسمى (البلوك باستر Block Buster) وأثرها الكبير على الجمهور، وقال: “في أبوظبي على وجه الخصوص نجح الفريق القائم على الإعلام بتقديم نموذج (البلوك باستر) في برنامجي “شاعر المليون” و”أمير الشعراء” ورآى أنهما نموذج من الجهد الإعلامي الثقافي الموجه للحفاظ على التراث. من جهتها، قدمت الدكتورة فاطمة العامري، عرضا لخلاصة بحثها عن فاعلية برنامج إرشادي في تنمية المسؤولية الاجتماعية لدى عينة من طالبات المرحلة الثانوية من خلال توظيف التراث. وبعد أن أجملت التعريفات والمضامين الاصطلاحية لمفاهيم الإرشاد النفسي ودورها في التربية والتعليم والمسؤولية الاجتماعية، واستعرضت العينة وحجمها، أشارت إلى أن “برنامج تنمية المسئولية الاجتماعية أحدث نموا ايجابيا لدى طالبات المجموعة، حيث أتاح لهن التفاعل والمشاركة فيما يدور حولهن بتلقائية وعلى نحو ضمن لهن الشعور بتحقيق إمكاناتهن الذاتية”. ما الدكتورة أمينة خميس الظاهري، فاثارت عدداً من الأسئلة الجوهرية فيما يخص علاقة الإعلام بالتراث، وأكدت أن الإعلام لا يستطيع أن يكون البديل عن الجدات وينقل التراث من جيل إلى جيل، لأنه “لا يعرف بالتحديد ما معنى التراث، فقد اقتصر التراث لديه على أغان ورقصات شعبية طورت ففقدت طعمها وعبقها، وانحصر الأمر لديه في برنامج مسابقات أو جلسات شعبية هنا أو هناك، وقال للأبناء: هذا تراثكم”. واعتبرت الدكتورة أمينة أن وسائل الإعلام تستطيع إحداث تغيير اجتماعي وتشكيل الفكر الإنساني خاصة لدى الأجيال الشابة من خلال تقديم أنماط سلوكية وقيم معينة. وأكدت أن الإعلام في الإمارات “يفتقر إلى الاهتمام بالتراث الشعبي إلا فيما ندر وبنسبة ضئيلة، وأنه يتعامل مع التراث باعتباره وسيلة لجذب السياح وينسى أنه الثقافة التي ترفد هوية هذا المجتمع وتميزه عن غيره من المجتمعات الإنسانية”. وأخيراً قدمت المعلمة لبنى علي الطنيجي عرضا لتجربتها في تعليم التراث لمادتي التربية الوطنية والدراسات الاجتماعية، مؤكدة أنها تنطلق “من رؤية إعداد جيل واع مطلع على ماضي أجداده ويسعى إلى الالتزام به والحفاظ عليه وإبرازه أمام المجتمعات الأخرى”. التجربة السورية بعد أن قدم لبحثه بمقدمة نظرية منهجية تحدث الدكتور علي القيم معاون وزير الثقافة في سوريا في بحثه “التراث في مرحلة التعليم الأساسي والثانوي.. التجربة السورية” عن كون التجربة السورية تنطلق من فهم التراث باعتباره يشكل أحد بواعث عبقرية الأمة العربية، ومن منطلق إنه يكون منّا (نحن الماضي) وبالتالي يكون (نحن - المستقبل) بمقدار ما يكون من تأثير الماضي في صياغة المستقبل، وبمقدار ما نستطيع أن نجهد في فهم هذا الماضي، وأن نعمل في سبيل الإضافة إليه والاستفادة منه، اي أن التراث ليس زينة، ولكنه سلاح، وليس تباهياً، ولا مدعاة للفخر بقدر ما هو ثقة بالنفس. وفي إطار هذا الفهم الشمولي، يقول القيم، كانت الأهداف والغايات والآفاق في إدراج عناصر التراث العربي بأشكاله المتعددة في المناهج التربوية في سوريا بهدف إعداد المواطن العربي السوري القادر على فهم هويته وتطوير معارفه وعلومه وقيمه المنفتحة على ثقافة أجداده وثقافات العالم. وقد تقصى القيم نماذج التراث وحضوره في مواد: التاريخ والجغرافية واللغة العربية والتربية الوطنية والتربية الإسلامية، موضحاً أنه أدرجت وفق معايير حضارية وثقافية وتربوية في جميع مراحل التعليم الأساسي والثانوي، وتم ذلك في الكتب الدراسية وفق الأمثلة التي وضعتها لجنة مختصة من مديرية المناهج والتوجيه في وزارة التربية. وقد تميزت المناهج المطورة بتصميم يسمح للطالب بتنمية مهارات التعلم الذاتي. وفي التفاصيل رسم القيم صورة شبه شاملة ومستفيضة لحضور التراث في هذه المواد مبرزاً أهمية التجربة السورية وما تحتويه من مضامين إيجابية. وكيف عملت المناهج التربوية على مراعاة الحفاظ على التراث وصونه وحمايته. التجربة المغربية “التوظيف الإجرائي للنص التراثي في المنظومة التعليمية” كان هاجس الباحثة الدكتورة سعيدة عزيزي التي اعتبرت أن كل عملية جرد للحكاية التراثية في المستوى الميداني تظل غير دقيقة ومختزلة ما لم تربط بسياقها العام، ما دفعها إلى الانطلاق منهجياً من ربط الحكاية الشعبية بالإطار العام الذي تتحرك ضمنه كخطوة بنائية في البحث انطلقت منها إلى الامتدادات التي يمكن أن يعبر عنها النص التراثي، ويمكن أن تطاله وتؤثر فيه. وقدمت عزيزي نموذجا تطبيقيا لماستر التكوين في التراث بجامعة الحسن الثاني/ المحمدية، حيث أوضحت أن المعارف والمكتسبات العلمية داخل هذا الماستر تندرج في إطار تسلسلي انسجامي دقيق ينطلق من العام الخاص ومن النظري إلى التطبيقي. ويستطيع الطالب من خلاله أن يؤسس جهازه المفاهيمي الدقيق بالوقوف على مجموعة من المفاهيم والقضايا والمعارف الأولية الضرورية نظرياً، ثم ينتقل إلى مستوى آخر لتفعيل إطاره النظري داخل المجال المعرفي التطبيقي والدخول المباشر في الأشكال المقارنة للتراث الشعبي الإنساني. أخيراً، هذه مجموعة من التجارب العالمية والعربية التي نجحت في توظيف التراث في المناهج التعليمية، والتي تمثل خبرة جيدة يمكن الاستفادة منها على أكثر من صعيد، لكن السؤال يبقى قائماً: هل يظل التراث على مستوى الواقع هو “الحاضر الغائب” كما قالت شيخة الجابري، وهل ستظل أوراق هذا الملتقى طي الأدراج وتلاقي نفس المصير التي تلقاه عادة بحوث الملتقيات والندوات والمؤتمرات العربية، أم أن الجيد والعلمي والمفيد منها سوف يستفاد منه ويتحول بالفعل إلى برامج تشهدها ساحات المدارس والجامعات العربية؟. تطبيق عملي من المظاهر التي لفتت الانتباه في الملتقى حضور طلبة من مدرسة جابر بن حيان أثناء مناقشة تجربة دولة الإمارات في المؤتمر، وقيامهم بتوزيع الكتيبات التعريفية، والنشرة الإخبارية التي تعدها المدرسة كجزء من جهودها لتكريس قيم التراث لدى الطلبة. وبهذا المسلك تكون المدرسة قد طبقت شيئاً مما يقال نظرياً على أرض الواقع، وقالت المعلمة مريم جاسم الزعابي معلمة مادة الدراسات الاجتماعية بالمدرسة: “إن اهتمام إدارة المدرسة بتعميق الجانب التراثي لدى الطلبة يأتي من رؤية مستقبلية لتمرير قيمنا الأصيلة إلى الأجيال القادمة، من خلال مختلف مواد المنهج وورش العمل الجانبية، كما يتم استثمار المناسبات المختلفة لخلق أجواء تراثية حيوية للطلبة يتعايشون من خلالها مع التراث بقيمه المادية والمعنوية”. الباقيات الصالحات يرى الأستاذ الدكتور نهاد الموسى عميد كلية الآداب في الجامعة الأردنية في بحثه الموسوم بـ “التراث في مناهج تعليم اللغة العربية: نظرات في مدار الكائن وآفاق الممكن” أن “التراث” يظلّ أحد “الثوابت” فيما تترسمه مناهج تعليم العربية، لكنه يؤكد أن تعليم التراث لم يفض الى ما يؤمل منه، رغم حرص المناهج على الاحتفاء بالتراث، ولو باجتهادات متفاوتة في الكميّ والنوعي، وأن المشهد التعليمي ما يزال يتردّد فيه بين الشعار المحفوظ، والاتّباع على غير بصيرة منهجية، وما يزال كثير ممنّ يتصدون للتأليف التعليمي يخبطون في هذا الأمر خبط عشواء. وصفوة القول أن الموسى يرى أن “جهداً مستفيضاً في النَّقْب عن الباقيات الصالحات الخالدات من منجز التراث العربي الإسلامي يمثّل الحلقة الأولى في تنزيل التراث منزلته اللائقة في مناهج التعليم. أما الحلقة التالية فتتمثل في منظومة مؤتلفة من مناهج قراءة النصّ، وهي طريقة إبداعية ممتعة حقاً لتدريس النصوص الأدبية قام بتطبيقها على قصيدة المقنع الكندي الشهيرة. وفي تقديري، أن مثل هذا الأسلوب التعليمي كفيل بأن يحبب الطلاب في اللغة والشعر والأدب، وأن يضفي على فصولنا ومدارسنا جمالاً استثنائياً، وربما، لا أبالغ إذا قلت أنه سيعيد ذلك الألق إلى حصص اللغة العربية الذي يفتقده أبناء هذا الزمان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©