الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قراءة آنية لموت مؤجل·· إلى الغد

قراءة آنية لموت مؤجل·· إلى الغد
1 مايو 2008 04:13
لو افترضنا أن عنصر المفارقة هو النظام المؤسس لقصيدة النثر بعيداً عن تقسيمات أو أهداف سوزان برنارد الثلاثة ''المألوفية ''المجانية'' والتوهج والايجاز''، لاتضح لنا أن المفارقة ما هي إلا فعل قصدي نابع من وعي مسبق من أجل التلاعب بأنماط اللغة التي تقود إلى تغيرات في المعنى وذلك يتوافق مع منطق التجريب· الشاعر يحاول أن يخلق مفارقاته الخاصة في قصيدة النثر فليس أمامه من سبيل إلى غرابة قصيدته إلا أن يذهب باللغة إلى أقصى استحضار مكوناتها لخلق عالم من المعنى يقوم على مبدأ المفارقة وهو ما يدهش المتلقي وبالتالي يجعله جاهداً في تشكيل الصورة أو المعنى وتضاداته أو تقاطعاته على عكس ما هو مألوف لديه من تشكل المعنى في الواقع· شاعر قصيدة النثر حتى لو عمد إلى التجريب فإنه لا ينسى كيف يمكن أن يتلاعب في تساؤلاته، في اختراع نمط جديد من عالم تصويري لا يمت للواقع بأي صلة، انه يخلق عالمه، واقعه، المقبول ذهنياً عند المتلقي· هذا التجريب قد يأتي في بنية العلاقات النظمية وليس في بنية العلاقات النحوية، حيث يسمي عبد السلام المسدي البنية الأولى دلالة ''الغموض'' بينما يسمي الثانية دلالة ''الوضوح''· من النظم يظهر الغموض ومن الغموض تظهر المفارقة ومن المفارقة يظهر التجريب وجميعها فعل قصدي غايته جعل المتلقي يتخيل عالماً لم يره ورؤى لم تتشكل من قبل في ذهنه، وواقعاً غير مألوف ومألوفية غير معتادة، وتوهجاً لم يشعر به من قبل· ولا يقتصر الأمر على المبنى، بل يتعداه إلى المعنى فالمبنى هو النظام الخفي الذي يقود إلى المفارقة، والمفارقة هي النظام المؤسس لمعنى آخر لم يعتده المتلقي من قبل· في إطار ذلك لنحاول قراءة ديوان شعر حفل بكل هذه المفارقات، للشاعر عبد الله عبد الوهاب تحت عنوان ''لا أحد'' والصادر عن ''مشروع قلم'' الذي أطلقته هيئة أبوظبي للثقافة والتراث مؤخراً· ''لا أحد'' إلغاء للوضوح، انه خطاب غامض تماماً أي أنه بنية نحوية أسست لتكون بنية نظمية، الـ ''لا'' النافية للجنس تلغي اسمها ''جنسها'' وهي صحيحة نحوياً غير أن قطعها بلا خبر لها حولها إلى بنية نظمية قائمة على الغموض أو الغياب، ولو افترضنا أن الشاعر قد وضع لها خبراً لاستقبلناها بطريقة أخرى، لا تمت للشعرية بصلة حيث تصبح خبراً بلاغياً ليس له من التصوير أو التخيل بشيء· الشاعر لبس في عنوانه قناع اللغة النحوية وخلعه قبل نهاية الطريق ليحول المعنى من الظاهر المألوف إلى اللا مألوف العميق المحكوم بنظام إشاري، صوفي ودليلنا على ذلك انه -لا أعرف كيف أتخيل تأويلي هذا - استشهد بنص لأبي حيان التوحيدي الذي يشرح عبارة ''لا أحد'' افتراضاً بقوله ''لقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق مستأنساً للوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملاً للأذى، يائساً من جميع من أرى''·· إنه لا يرى أحداً· عبارة التوحيدي مقولة من الماضي يستحضرها عبد الوهاب ليشرح بها مفهومه الحاضر وكأن الشاعر عبد الله عبد الوهاب قد تماهى في تصوره الصوفي، الرمزي مع التوحيدي معنى لا مبنى· إذ المعنى متطابق لديهما أما المبنى فالأول التوحيدي جاء مفصلاً والثاني عبد الوهاب جاء موجزاً· في قصيدته ''مظلة الغريب'' نقرأ: الليلة سوف أنام سوف أحلم بأي شيء حتى لو بالفئران أما غداً عندما استيقظ هذا إذا استيقظت لا يهم لن أنام وكيف أنام لقد طار النوم حط على غيمة الغيمة كانت غيمة والنوم لليلة واحدة على سرير يكلف الشاعر عشرين درهماً كل شيء في أسطر القصيدة يبدو عادياً، المعنى مألوف بين ''عندما استيقظ/ هذا إذا استيقظت'' و''لن أنام وكيف أنام'' و''حط على غيمة/ الغيمة كانت غيمة'' الأولى والثانية استفهاميتان والثالثة توصيفية لا يريد الشاعر إلا أن يحس المتلقي بعاديتها بمألوفية ما يكتب، بمجانيته، بتوهجه عند ''يكلف الشاعر عشرين درهماً'' من التساؤلات والاستفهامات والعادي تأتي مفارقة الاجابات ''الحقائق'' عالم تخيلي في كل القصيدة أو لنقل أنه يومي مستهلك يتفجر في عالم واقعي عند خاتمة القصيدة، وكلاهما عالم مفارق للآخر· أمس لم أكتب شيئاً اليوم لم أكتب شيئاً غداً مالذي نتوقعه من ذلك الغد والقصيدة السابقة هي بعنوان ''متاهة'' ولكن ما علاقتها بقصيدة ''مظلة الغريب''؟ أننا نلحظ في قصيدة المتاهة ''أمس·· غداً'' وفي قصيدة ''مظلة الغريب'' ''الليلة·· غداً'' وكلتا القصيدتين تصوران ذاتاً قلقة ''لن أنام وكيف أنام'' وعندما نكمل ''متاهة'' نجد تلك الذات تتكرر: المجهول متاهة ما الذي يجلبه ذلك الغد لشخص بات أنحف من عود ثقاب لا يكفي لإشعال سيجارة الحياة تكاد لا تحتمله لشخص يتحدث مع شخص له نفس الملامح أمام مرآة ضحكت على اثنين يحلمان بالموت تحت سماء إيطالية· ولو اقتنصنا ''الحياة تكاد لا تحتمل'' و''الحلم بالموت'' لوجدنا قلقاً وجودياً ولو أخذنا ''شخص يتحدث مع شخص له نفس الملامح/ أمام مرآة ضحكت على اثنين'' لوجدنا مفهوماً صوفياً بين الذات والآخر·· ولكن كل ذلك ينتهي بمفارقة تقود إلى ما هو واقعي بعكس مقدمات القصيدة تلك نجد ''تحت سماء إيطالية''·· هل أراد عبد الله عبد الوهاب أن يكسر أفق توقع القارئ بعد أن جعله موهوماً بالتخيل والغياب والرؤى الصوفية إلى ما هو واقعي حاد خشن هو ''تحت سماء إيطالية'' أشبه بـ ''يكلف الشاعر عشرين درهماً''·· هنا في هاتين المفارقتين لا نجد مجازاً يكسر أفق توقعنا أو لنقل يحول سياق النص الشعري ليخلق لدينا عالمين متناقضين بل نجد تخيلاً وواقعاً وهذا يدخل في باب الانحراف في الصورة· في قصيدة بورتريه نجد عبد الله عبد الوهاب يقول: هو، هو وجهه نزل مهجور عيناه مرافئ يداه مجاديف ''مجدافان'' وروحه قبر هذا هو هذا عبد الله عبد الوهاب الذي أعرفه (واقعي) الذي لا أعرفه (تخيلي) ومن خلال عملية احصاء لمجموع كلمات هذه القصيدة نجدها تحتوي ''13 كلمة'' بواقع كلي ''''20 كلمة حيث يصبح المكرر ''''7 كلمات هي تأكيد لذات الشاعر ''هو ثلاث مرات'' ''الذي·· مرتان'' و''أعرفه·· مرتان'' وكلها مختصرة في ''عبد الله عبد الوهاب''· هنا يفيد التكرار منطق المفارقة في البيت الأخير فبالرغم من كل التأكيدات فإننا نجد ''الذي لا أعرفه'' غياب لها جميعاً، التأكيدات السبعة حضور للمؤكد ''الذات'' والسطر الأخير نفي وغياب للمعرفة· إذاً لنقل إن المفارقة تحولت إلى شكل جديد لدى الشاعر·· شبيه بذلك قصيدة ''عصفور أحدب'' التي يقول فيها: دلفت إلى مقهى (واقعي) دعوت أصدقاء لحضور جنازة عصفور أحدب لم يحضر أحد يخيل إليّ (تخيلي) انني دعوتهم ولم يحضر أحد فما بين الدعوة بمفهومها الحسي المقصود الواعي إلى ''يخيل إليّ'' بمفهومها الافتراضي ينبني انكسار توقع القارئ·· في البدء إصرار على واقعية سردية ''دلفت إلى مقهى'' إلى أن يقول ''لم يحضر أحد'' ثم يتحول إلى ''يخيل إليّ'' حتى ''ولم يحضر أحد·· القصيدة تحتوي كلمات بواقع كلي هو ''''18 كلمة حيث المكرر 8 كلمات هي ''حضور مرتين'' و''دعوت مرتين'' و''لم يحضر مرتين'' و''أحد مرتين''· هنا نسأل هل أفاد هذا النسق من تكثيف القصيدة وضغطها إلى حد أنها أصبحت لا تستوعب أكثر من هذه الكلمات؟· أعتقد أن الشاعر أراد أن يقدم إلينا بناءً جديداً يقوم على عادية اللغة، ومفارقة منطقية بين الواقع والتخيل وهو نسق المفارقة من داخل اللغة لا من التشكل المتضاد داخل الصورة كما في بيت أدونيس: لثلاث ليال والسماء تمطر (واقعي) حتى كاد وجه البحر أن يتبلل (تخيلي) إذ ترى أدونيس انتقل من الواقعي إلى التخيلي في الصورة بينما نجد عبد الله عبد الوهاب كان انتقاله في الصورة واللغة معاً· هناك لدى الشاعر مفارقة في الضمائر حيث نجده في قصيدة ''حلم'' التي يقول فيها: حلم وحلم وحلم ولما أفاق وجد أن هذا العالم (ضمير الغائب) جد ضيق في حجم ثقب إبرة جد ضيق في ذاتي (ضمير المتكلم) المكرر من الألفاظ هنا يشي باقتصاد اللغة والتحول من المرآة ''ضمير الغائب'' إلى الجسد ''ضمير المتكلم'' فعبر اختلاف الضمائر تجسدت مفارقة القصيدة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©