الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رواندا بين طي الماضي والتفاؤل بالمستقبل

رواندا بين طي الماضي والتفاؤل بالمستقبل
1 مايو 2008 03:23
لم تكن ''فرانسين إنجابير'' الطفلة ذات الإثني عشر ربيعاً سوى واحدة من آلاف الأطفال الذين قطعت أوصالهم بالسيوف والفؤوس في رواندا إبان جرائم الإبادة الجماعية التي عصفت بالبلاد في العام ،1994 والمبنى الذي يروي قصة الطفلة -كما الآلاف غيرها- هو المكان الذي يخلد المجازر في العاصمة ''كيجالي'' بمعماره المتميز الذي يجمع بين موضوع المأساة الظاهر في محتوى المبنى، وبين طريقة التصميم التي تحيل إلى الأمل في المستقبل والرغبة في طي صفحة الماضي الأليم، ويبدو أن هذا التناقض الذي يختزنه المبنى بين الجوهر الحزين والشكل المتفائل كان مقصوداً ومتعمداً للتعبير على حال رواندا اليوم باعتبارها إحدى أنجح الدول الأفريقية وأكثرها تفاؤلا بالمستقبل، وبالطبع لا يلغي ذلك إحصاءات المجازر وما تثيره في النفوس من شعور بالصدمة والذهول، حيث أبيد 83 بالمائة من السكان ''التوتسي'' على يد جيرانهم ''الهوتو''· وحتى بعد مرور 14 عاماً على المجازر، مازالت الندوب الجسدية والنفسية واضحة لدى الناجين من الإبادة الجماعية، حيث الآلاف من النساء يعانين من ذكريات الاغتصاب الأليمة، لا سيما وأن العديد منهن تعرضن لإصابة مقصودة بالإيدز كجزء من الإبادة الجماعية التي مورست ضدهن، وبالنسبة لغير المطلعين على أحوال أفريقيا تبقى رواندا مقرونة في أذهانهم بفظائع الإبادة الجماعية وما صاحبها من جرائم يشيب لهولها الولدان، ومع كل هذا الوقت الذي مر على ارتكاب الجرائم إلا أن الانطباع الأول الذي يتولد لدى المراقبين لرواندا هو الإبادة الجماعية، والحقيقة أن واقع رواندا اليوم مختلف تماماً بعدما أصبحت تعتز بالتقدم الذي أحرزته كأمة وتفاؤلها بالمستقبل، فرواندا تسعى إلى نيل التقدير والاعتراف بما حققته، وليس استدرار العاطفة والشفقة بعدما أثبت الشعب قوة شكيمته وصلابة تحمله وقدرته على تجاوز المحنة بمراراتها المترسبة في أعماق النفس ومعانقة الأمل في مستقبل أفضل، وبدلا من الغرق في اليأس والاستسلام أعطت رواندا نموذجاً رائداً في التحمل وتجاوز الصفحات القاتمة من تاريخها· لكن كيف تتعامل أمة مع ماضيها الموجع؟ وكيف تتحرر رواندا من أسر الذكريات والألم؟ يكمن الجواب في المبنى الذي يخلد الإبادة الجماعية في العاصمة ''كيجالي'' من خلال اعتماده لرواية تاريخية تساعد على طي ملف الماضي وفتح صفحة جديدة، وتقوم الرواية على أن الروانديين شعب واحد يشترك في اللغة والثقافة، كما أن ''الهوتو'' و''التوتسي''، وخلافاً لما هو رائج ليسا عرقيتين مختلفتين، بل هما طبقات اجتماعية، بحيث تحيل التسميتين إلى الانتمـــاء الطبقي لأفراد الشعـــب وإلى مدى غنى كل مجموعة بالمقارنة مع الأخرى، غير أن المستعمر البلجيكي حوَّل هذه الفوارق الطبقية بين الروانديين إلى تقسيمات عرقية قائمة على فصل صارم في الهوية، وذلك في إطار استراتيجية فرق تسد التي اعتمدها المستعمر للسيطرة على البلاد، وبعد الاستقلال السريع تُركت رواندا نهباً للديماغوجيين كي يؤججوا هذه الانقسامات إلى حد التحريض على الإبادة الجماعية في ·1994 لكن اليوم وبعد المجازر اعتمدت ''رواندا'' دستوراً جديداً يؤسس لعلاقات مبنية على ثقة الروانديين ليس فقط في الحكومة، بل في جميع مؤسسات الدولة من جيش وقضاء وشرطة، ولعله من مظاهر الإصلاح الأساسية الدور الكبير الذي تلعبه النساء في الحياة السياسية، حيث تشكل نسبة النساء في البرلمان 47 بالمائة وهي النسبة الأعلى في العالم، وعندما سألت عقيداً في الجيش الرواندي كيف تم التعامل مع هذا الصعود الكاسح للنساء إلى السلطة أجاب ''وما المشكلة؟ لقد كان المجتمع الرواندي دائما غير ذكوري، نحن فقط منحنا التعبير القانوني لتلك الحقيقة''، والواقع أن رواندا تخطو حثيثا للتحول إلى مثال يحتذى به في عموم القارة الأفريقية، فعلى سبيل المثال أصبحت العاصمة ''كيجالي'' الأكثر أمناً مقارنـــة مع باقي العواصم الأفريقية، هذا الأمن الذي يعم البلاد، بالإضافة إلى المناظر الطبيعيــة الخلابـــة التي تزخر بها جعلهــا القبلة المفضلة للسياح الذين يقصدون أفريقيا· وتأمل الحكومة أن يشكل الأمن حافزاً لجذب المستثمرين الأجانب، وربما الأهم من ذلك تصدير نموذجها الرائد في الاستقرار والسلام إلى باقي ربوع أفريقيا، وفيما كنت أنتظر وصول الطائرة في مطار ''كيجالي'' أسَر لي صديقي العقيد في الجيش الرواندي، قائلا: ''عندما كنت صغيراً اعتقدت أن زمن الإبادة الجماعية ولى دون رجعة، إلى أن شهدت ذلك في بلدي، لكني اليوم متأكد من أنها لن تتكرر مجدداً في رواندا''، ومع أن بعض أشباح الماضي مازالت تعبث في الخفاء، إلا أنه من غير اللائق مواجهة التفاؤل الذي يسود البلاد بالرجوع إلى ماض تحاول جاهدة تجاوز فظائعه والتمسك بالأمل· والحقيقة أن رواندا بمعنوياتها العالية وروحها المتجددة التواقة إلى مستقبل أفضل، تناقض الصور التقليدية التي عادة ما تطالعنا في أفريقيا؛ فبدلا من الاستسلام للهزيمة هناك حراك وديناميكية، وبدلا من الشفقة، هناك الشعور بالفخر، لذا فإنه إذا كان من مستقبل زاهر ينتظر أفريقيا فلا شك أنه يسير في اتجاه رواندا· جيرالد ديجروت أستاذ التاريخ في جامعة سانت أندروز البريطانية ينشر بترتيب خاص مع خدمة كريستيان ساينس مونيتور
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©