الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هل أفل نجم لاهوت التحرر؟

هل أفل نجم لاهوت التحرر؟
11 مايو 2016 02:49
كتابة: روجيرو غامباكورتا سكوبيللو ترجمة - عز الدين عناية مثّلت أوضاع العسف في جنوب القارة الأميركية، إبان حكم الأنظمة العسكرية، التربة الحاضنة للاهوت التحرر، ما دفعه قسرا إلى إدراج قضايا العدالة والمشاركة السياسية والحريات العامة، في صلب جوهر نقاشاته اللاهوتية والاجتماعية. مع ذلك لا يبدو أن هذا اللاهوت اندثر مع تحولات الانفراج الجارية، حيث لا يزال حاضرا، سواء في ظلّ مناخات الديمقراطية التي شملت معظم البلدان، أو مع التوجهات الاشتراكية التي طفت مجددا، وإن هفتت حدّة معارضته وتضاءل بريقه، لكن البارز أن لاهوت التحرر قد غدا أقلّ جاذبية وأدنى حضورا على الساحة الإعلامية، سواء في التلفزيون أو على أعمدة الصحف، أو في الشبكة العنكبوتية، مقارنة بحركات دينية أخرى أكثر محافظة على غرار الكنائس الإنجيلية الجديدة المتحفّزة لاجتياح جنوب القارة، لكنه ما فتئ محافظا على تواجده، وعلى موقعه ضمن الكاثوليكية الرومانية، ولم يشهد فتنة كما كان مرتقَبا، ولم يُرصد هجران أنصاره للكنيسة. دعاية كنسية ميكائيل لوفي كبير الباحثين الفرنسيين في المركز القومي للأبحاث، وأبرز المتخصّصين في لاهوت التحرر، يذهب إلى أن كلّ شيء أَلمّ بلاهوت التحرر إلاّ موته: «فأن يقال إن عهد لاهوت التحرر قد ولّى وانقضى، فهو لا يعدو أن يكون خطاب حاضرة الفاتيكان منذ عقود، وفحوى الدعاية التي روّجها الإعلام الدائر في فلك الكنيسة. كون القول الفصل بالنسبة إلى المؤسسة الدينية في روما يبقى متلخصاً في القرار الحاسم “Roma locuta، causa finita” أي (إن تكلّمت روما فالمسألة منتهية)». وبحسب ليوناردو بوف، أحد أبرز رجالات لاهوت التحرر، فإن روما قد أخطأت فيما ذهبت إليه جازمة، بقدرتها على الحظر البيروقراطي للاهوت التحرر، حيث لم تخلّف قرارات «مجلس مراقبة العقيدة» في روما سوى أثر ضئيل في الواقع الاجتماعي في جنوب القارة المحتضن لهذا اللاهوت: «لقد وُلد لاهوت التحرر تلبية لنداء المهمَّشين، ولا زال صرخة في وجه الاستغلال. ولطالما استمرّ صوت المحرومين مدوّيا، وتوالت نداءات الاستغاثة من عسف الاستنزاف والقهر، فإن ثمة ألف مبرر لحضور رؤية تحررية تناصر الفقراء. فلاهوت التحرر هو الرد الملائم عن واقع الجور والحيف وهو ما يعصم الكنيسة المركزية من مغبّة الاغتراب والصلف». بالفعل لا يزال لاهوت التحرر مطلاّ هنا وهناك، في العديد من التجمعات المسيحية، ولا سيما في أمريكا اللاتينية. وما زالت العديد من الجماعات تستلهم مقولاته: حيث يبلغ عدد أنصاره في البرازيل وحده أكثر من مئة ألف، كما أن جملة من الأساقفة ما برحوا ملتزمين بمقولات لاهوت التحرر. والعديد من الناشطين في الجمعيات يوالون مساره، فضلا عن أحزاب اشتراكية، كما ينضوي «المنتدى الاجتماعي العالمي» ضمن خياراته، فضلا عن أننا نجد منظمات راعوية نسائية وتجمعات عمالية لا سيما في قطاع المناجم والسكان الأهليين (مجلس المبشرين الأهليين) لا زالت إلى الآن على ولاء لتعاليم هذا اللاهوت. وفي الكثير من التجمعات الدينية ما فتئت قراءة الأناجيل من منظور لاهوت التحرر سائدة، وتنشد التحرر من أوضاع الفاقة والخصاصة. عقيدة سياسية وفي المجال السياسي، نجد في صفِّ هذا التوجه الرئيسَ البرازيليَّ الأسبق لولا، كما هو شأن رفائيل كوريا في الإيكوادور، وفرناندو لوجو الأسقف سابقا ورئيس البارجواي، وهوجو شافيز رئيس فينيزويلا الأسبق ودانييل أورتيجا في نيكاراجوا، فضلا عن الكاهن والدبلوماسي ميجيل ديسكوتو، الذي شغل مناصب دولية. يؤكد ليوناردو بوف في أحد مقالاته أن لاهوت التحرر قد ساهم في خلق ثقافة سياسية، ملهِما المحرومين سُبل الوعي بأوضاع حرمانهم ومعينا الفقراء لإيجاد مخرج لمأزقهم التاريخي: «فقد ساند إنشاء منظمات أهلية مثل منظمة «مواطنون بدون مأوى» و«الراعوية الأهلية» و«حركة السود» وكان طرفا فاعلا في إنشاء«حزب العمال» في البرازيل الذي تزعّمه الرئيس لولا». وبوصف الديمقراطية اليوم في أمريكا اللاتينية «رثّة»، باستعادة توصيف أوليفييه دابان المختص في ديمقراطيات أمريكا اللاتينية، كون النمو الاقتصادي لم يشمل كافة الأرجاء، والتفاوت الاجتماعي ما زال حاضرا بقوة، ونضالات الذين بدون مأوى ما فتئت ثابتة والذين لا ملكية لهم ما انفكت أعدادهم في تكاثر. يمكن لنضالات لاهوت التحرر ضد التفاوت الاجتماعي، والمواقف الشجاعة للبابا فرانسيس من مسألة المديونية التي توجه أصابع الاتهام لليبرالية الجديدة والعولمة، أن تدشّنَ أفقا مشتركا بين الخصمين التقليديين. لا سيما وأن الشق الأوسع من الأعضاء المؤسسين للاهوت التحرر، باستثناء هيلدر كامارا في البرازيل وأرنولفو روميرو في السلفادور، ما زالو ناشطين كليوناردو بوف وفراي بيتو وغوتيراز وإيفاريستو آرنز. أوضاع متباينة لا يبدو المشهد العام للاهوت التحرر متماثلا في جميع البلدان، ففي البرازيل ما زال الحضور مهمّا بفضل «التجمّعات الكنَسية الشعبية». وفي هذا البلد أيضا حصل تشكّل أول المنتديات الاجتماعية العالمية (في بور أليجري سنة 2005 وفي بيليم دو بورا سنة 2009) كما لاحظ ذلك ميكائيل لوفي. وعلى سبيل الذكر اللاهوتي شيكو ويتاكر الذي كان ملهم هذه المنتديات هو عضو في المؤتمر الوطني لأساقفة البرازيل وفي تجمع لاهوتيي التحرر، كما هو شأن فرانسوا هوتار، صديق كاميللو توريس وفراي بيتو. ويشكّل هؤلاء اللاهوتيون تجمعا عالميا يلتقي بشكل دوري ضمن فعاليات «المنتدى الاجتماعي العالمي» (لقاء نيروبي سنة 2007 ولقاء داكار 2011). لاهوتيو التحرر وكاثوليكية روما أوضحَ الكولومبي ألفريدو جوميز مولر، الأستاذ في جامعة تور، أثناء حوار أُجري معه بتاريخ 29-07-2009 قائلا: نلحظ اليوم تراجعا للثقة من جانب بعض القيادات الكنَسية. ففي جامعة كاثوليكية من الصعب القيام ببحث عن كتابات غوستافو غوتيراز وليوناردو بوف. وفي هذه الأجواء يمكن أن نتخيل أن لاهوت التحرر سائر إلى زوال، لكن بتصادم أقلّ مع البابا يمكن تصور إمكانية المحافظة على شيء من التماسك. لكن لا ينبغي الخلط بين إلحاح البابا على مقاومة الفقر والانتماء إلى لاهوت التحرر. فالجدل القائم بين المثقفين والمؤرخين بشأن لامبالاة البابا فرانسيس بالدكتاتورية في الأرجنتين وتقرّبه من عسكريين في السلطة إبان الحقبة السابقة لم يُحسَم بعد، وهو ما يبعده نوعا ما عن خيارات لاهوت التحرر، الأكثر تصلّبا. ومن هذا الباب لا يشكّل البابا فرانسيس طرفا نصيرا للاهوت التحرر، بل بالعكس ناصبَ الرهبان الحمر العداء خلال سبعينيات القرن الماضي بغرض النأي بالكنيسة وعدم تسييس «الجماعة المسيحية»، وضمن رغبته لتشكيل كنيسة فقراء ومن أجل الفقراء، يدعو البابا في عظاته إلى تغيير هادئ في الكنيسة، لا يمسّ محاذير السياسة، على خلاف الرهبان الحمر. يوضّح ليوناردو بوف أن موقف البابا بالنسبة إلى لاهوت التحرر لا يعني الكثير: «فالمهمّ ليس أن يكون المرء من ضمن لاهوتيي التحرر أو لا يكون، بل أن يقف إلى جانب تحرر المهمَّشين والمحرومين، وهذا الموقف حرص البابا عليه بوضوح لا خلْط فيه». ودائما وِفق بوف، ينبغي الإحجام عن الانشغال باللاهوت، وتسليط اهتمام أوفر على التحرر. وحين يفصح البابا عن رغبته في إنشاء «كنيسة فقراء ومن أجل الفقراء»، فهو بالتالي في صفّ خيارات التحرر. أشكال جديدة يفسر ميكائيل لوفي الأوضاع الحالية للاهوت التحرر قائلا: برغم أن الفاتيكان حكم على لاهوتيي التحرر بالتصميت في تناول القضايا اللاهوتية وصادرَ حقهم في التطرق إلى المواضيع الدينية، فإن هذا اللاهوت لم يندثر. تطوّر فكرهم ودشّن حقولا جديدة، من خلال التركيز على تحليل اضطهاد المرأة، وعلى أوضاع تجمعات السود والإنديجان (الأهليين)، واستطاع توسيع دائرة اهتماماته والتطرق إلى تحديات التنوع الثقافي والمسائل البيئية والتعددية الدينية والحوار بين مختلف الاعتقادات. فقد تأقلم لاهوت التحرر في الظرف الحالي مع الرهانات الحديثة، كما تشهد بذلك إدانته «وثنية السوق والليبرالية المتوحشة». وبالنتيجة يمكن أن نرجّح حصول حيوية في مواجهة التحديات التي يفرزها التفاوت الاجتماعي والاقتصادي جراء التجمع المتطور لأرباب الأسواق المالية. هل لاهوت التحرر لاهوت هرطوقي؟ تساءل الفيلسوف البرازيلي لويس فيليب بوندي في مقال منشور في «مجلة إيبوكا» بشأن نهاية لاهوت التحرر. ووِفق تحليله لم يندثر هذا اللاهوت، لأنه ما زال يختزل تطلعات عدد غفير من الكاثوليك في الدول النامية. وبحسب هذه القراءة التحررية، يُفتَرض أن تكون المؤسسة الدينية في صفّ المحرومين أوّلا. ودائما بحسب بوندي، فإن لاهوت التحرر قد ارتكب أخطاء جسيمة مع الكاثوليكية الرومانية. كان تحالفه مع الماركسية وارتباطه بتنظيمات يسارية (فراي بيتو وحزب العمال مثلا)، وتركيزه الكبير على البروليتاريا، وإهمال بقية قطيع «شعب الرب» من الأخطاء الفادحة التي حدّت من رواجه، لأن الماركسية تفسر التاريخ في ضوء صراع الطبقات، في حين المسيحية فهي نهج خلاص للجميع. وهو ما قاد دائما بحسب بوندي إلى تبلور حركة دينية علمانية، وما جرّها لتكون غير اعترافية، جاعلة من المسيح محرراً دنيوياً في حين هو مخلّص أخروي يرنو إلى ملكوت السماء. غير أن بوندي في خضمّ نقده للاهوت التحرر يغفل عن كون «الجماعات المسيحية الشعبية» قد تشكّلت في حضن الترانيم الدينية وأداء القداس ولا يزال نشاطها متمحورا حول المضمون الإنجيلي. فأن نقول إن لاهوت التحرر قد مات يبدو أن الحكم متسرع. ذلك أن تأثيره عل دور الكاثوليكية في السياسة في أمريكا اللاتينية لا يزال فاعلا، فقد شكّل تلاحما بين مقولات الكتاب المقدس والحساسيات الاجتماعية والسياسية. والبابا فرانسيس، وإن لم يكن بشخصه من ضمن لاهوت التحرر، فإنه يسلك في نهجه موقفا محايدا مقارنة بحبر الكنيسة الأسبق بندكتوس السادس عشر (راتسينغر). ستخبرنا الأيام إن كان لاهوت التحرر قادرا على منح دفعة جديدة للمسيحية في جنوب القارة، خصوصا وأن المنطقة تشهد تحولا كبيرا نحو الإنجيليات الجديدة، وهي توجهات دينية تبشّر بظهور كنيسة ثالثة، لا هي بالكاثوليكية ولا بالبروتستانتية. فدولة البرازيل على سبيل المثال تشهد تحولا جذريا في خارطتها الدينية. وبحسب«المعهد البرازيلي للجغرافيا والإحصاء» كانت البرازيل خلال العام 1970 تضمّ 92 بالمئة من الكاثوليك، تراجع ذلك العدد خلال العام 2010 إلى 65 بالمئة، ويُرجَّح بلوغه 50 بالمئة مع العشرية القادمة، والأمر كما يمسّ البرازيل يمسّ سائر دول جنوب القارة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©