السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العرّاب يضرب الرخو وأنا أبكي

العرّاب يضرب الرخو وأنا أبكي
25 فبراير 2012
في مرحلة من مراحل المراهقة التزمتُ بالآخرة، أعني أصبحت الآخرة نصب عيني مثلما هي ندبة السجود على بعض الجباه، كل من يراني يعرف من النظرة الأولى أنني من مراهقي الآخرة. ولا أذكر السبب بالضبط، ربما كان وفاة اثنين من رفاق الفريج «الحي» في حادثين منفصلين جعلتنا نعتقد أن لعنة أصابتنا وستبلعنا الواحد تلو الآخر. لكن لم أجد من يشاركني العيش في الآخرة إلا ولد هادئ ورخو قليلاً، تحوم حوله الأقاويل. ولم يكن الولد ضمن الدائرة المغلقة من الرفاق، فهو، ومن في مثل حالته، غير مرحّب بهم في الغالب بين الأولاد، خصوصاً أننا كنا مجموعة من الأوغاد الشرسين أو الذين يُحسب لنا خمسمائة حساب. صحيح أنني كنت في حروب الأحياء السكنية والنزاعات اليدوية صفراً على الشمال تقريباً، لكنني كنت أبدو رقماً صعباً، وهذا «الأبدو» نفعني كثيراً. ولأنني كنت أتزعّم مجموعتي، أو كانت كلمتي فيها مسموعة، فقد شجعت الولد الرخو على الانضمام إلينا لحاجة في نفسي، وبصراحة، كنت أريد استعماله جسراً لأخته التي لم تكن تدري شيئاً عن حبي لها، لكنني كنت أمنّي النفس بأن يبدأ شقيقها بالحديث عني أمامها. فيقول: اليوم قال الولد الدُب كذا وكذا، واليوم اصطحبني ذلك الولد السمين الذي يحوم حول بيتنا إلى النادي، فأصبحُ مع الأيام غزالاً يجري بين أذنيها الكريمتين، والأذن تعشق قبل العين أحياناً. لكن مشروع الجسر تعطّل وأوقف تنفيذه إلى أجل غير مسمى بعد أن تغيرت نظرتي للحياة، وأصبحت الآخرة هي كل شيء، على إثر حادثتي الوفاة، وبالتبعية تغيرت نظرتي تجاه ذلك الولد الرخو مع إعلان رغبته في الدخول معي في «دويتو» ديني. ولأنني أصبحت مراهقاً جاداً، واجهته بما يُقال عنه، فلم ينكر، وطلبتُ منه أن يفتح صفحة جديدة في حياته.. وأن يقاوم. نعم عليك بالمقاومة، ولو تعرّضت للضرب والأذى، فقاوم، ولو مِتّ فأنت شهيد تدافع عن نفسك، وهدّدته بقطع علاقتي به إذا سمعت عنه ما يُشين، وقلت له: لو لم تكن صلباً فلتبدو صلباً، صحيح أن الذي سيضع يده عليك فإن يده ستغوص في جسمك الاسفنجي، لكن لا تسمح له ابتداء أن يمد يده. استجاب الولد بحماسة وانفعال ووعدني بأن يتحدى ويقاوم من يتعرّض له. تغيرت حياتي كثيراً، فبعد أن كنت أخرج من البيت بعد الغداء ولا أعود إلا مع العشاء، رحت أمضي أكثر الوقت في البيت أقرأ القرآن. وحين التقي باقي الرفاق، أشعر بالغربة وبالاشمئزاز من حكاياتهم وتصرفاتهم، ولم أكن آنس إلا عندما أسير في أزقة الفريج الترابية مع ذلك الولد، نتحدث عن الفضائل وندخّن السجائر. وكنا نذهب في فترة العصر إلى المقبرة القريبة من فريجنا، نتسلق السور ونمشي بين القبور ونقف على الحفر المجهّزة، ونذكّر أنفسنا بأن مشوار الحياة ينتهي هنا، لكنه بداية طريق الآخرة: ما نزرعه اليوم يا رخو، نحصده غداً في هذه الحفر. وفي أحد الأيام كنا جلوساً في حديقة المسجد ننتظر صلاة العصر ونسلّي أنفسنا بذكر نعيم الجنة وتدخين السجائر. جاءنا ولد يكبرنا سناً يُعتبر عرّاباً للكثيرين في الفريج. وأعني بالعرّاب هنا أنه كان يتدخل في فض المنازعات، ويقيم بطولات الدوري والمباريات بين الأحياء السكنية، ويحترمه بقية العرّابين ويخافه الملاعين. لكنه لم يكن ولداً محترماً بالطبع، ومتى كان المحترمون هم الذين تتزلزل الفرجان تحت أقدامهم؟ وطلب من رفيق الدرب الذهاب معه لكنه رفض، فحشره في زاوية وأخذ يرفسه برجله ويضربه لكمات على رأسه وأنا أحاول منعه وأطلب منه أن يتركه في حاله لأنه قطع عهداً على نفسه بترك حياة الرخاوة. لكن ذهبت محاولاتي سدى، واستمر في ضربه بينما رفيقي يتأوّه، إذ لم يقتنع العرّاب بأن الولد الرخو تغيّر فجأة. لم أعرف ماذا أفعل، فلست في قوة العرّاب ولا أستطيع أن أواجه هيبته الصبيانية وتاريخه الإجرامي. تنحيّتُ جانباً وغطيت وجهي بيداي ورحت أبكي لأنني أرى أمامي ولداً ضعيفاً لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، وفوق هذا، كنت أبكي لحال العرّاب وما سيلاقيه من عذاب. استمر الوضع هكذا لبضع دقائق: هذا يضرب، وذاك يتلقى الضربات، وأنا الذي أبكي. ويبدو أن العرّاب لم يكن لعيناً بما فيه الكفاية، إذ رقّ قلبه لدموعي، فترك رفيقي وأخذ يرجوني الكفّ عن البكاء، لكنني لم أكن أستطيع التوقف. تركنا وغادر المكان، وحاول رفيقي تهدئتي هو الآخر لكنني كنت أبكي وأبكي إلى أن طلبت منه المغادرة، فغادر وبقيت وحدي أبكي إلى أن جفت دموعي. وعدت إلى البيت وأنا أترنّح من الإجهاد، لكنني كنت سعيداً، فقد تأكدت أن رفيقي ملتزم بالوعد الذي قطعه لي. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©