الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نكات نزار قباني «الخضراء» تضحك أدونيس

نكات نزار قباني «الخضراء» تضحك أدونيس
4 يونيو 2009 00:02
اكتشفت نزار قباني من خلال شاعر تونسي كان يقلده كما اكتشفته فيما بعد. وقتها كنت في سن المراهقة، وكنت في الصف الثاني في إعدادية حفوز، البلدة الصغيرة الواقعة غرب القيروان، معي في نفس الفصل فتى نحيل، أشقر قليلاً، كان يقرض الشعر، ومثلي كان ميالاً إلى المطالعة. معاً قرأنا كثيراً من الكتب الجميلة أذكر منها «النبي» لجبران خليل جبران، وقصص محمود تيمور، و»الأيام» لطه حسين، و»عودة الروح» و»يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم، و»زقاق المدق» لنجيب محفوظ. معا أيضاً كنا نتابع الملحق الثقافي الأسبوعي الذي كانت تصدره آنذاك جريدة «العمل» التونسية، ومجلة «الفكر» التي كان يأتينا بها من القيروان أستاذنا في مادة اللغة العربية. في مجلة «الفكر» التي أرادها أصحابها أن تكون منفتحة على إنتاج الأدباء الشبان، كان ذلك الشاعر التونسي الذي سأكتشف فيما بعد أنه، يقلد نزار قباني، ينشر قصائده. وكانت هذه القصائد تعجبني حتى أنني حفظت البعض منها عن ظهر قلب. ولعلي بالغت في حب تلك القصائد إذ أن صاحبي قال لي ذات يوم بهدوء الحكماء «يبدو أنك تبالغ كثيراً في الإعجاب بهذا الشاعر التونسي». ـ «ولم لا؟» قلت له. أجابني: «أليس من الأفضل لك أن تقرأ الأصل لا الفرع!». ـ «ومن هو الأصل؟» سألته. فرد عليّ قائلاً: ـ الأصل هو شاعر سوري كبير يدعى نزار قباني. ثم أعطاني ديوانه «قالت لي السمراء». فما إن قرأت هذا الديوان حتى نسيت الشاعر التونسي نهائياً ولم أعد أحفل بقصائده ولا بقصائد من ماثله من الشعراء التونسيين الآخرين. بعدها أصبح نزار قباني واحدا من شعرائي المفضلين، وأصبحت قصائده بمثابة الرياض المعطرة بالفل والياسمين. أقرأها فأنسى الأحراش الجدبـاء المحيطة ببلدة حفوز، ويحلق بي الخيال بعيدا بعيدا فإذا أنا أهمس بأجمل كلمات الحب للصبايا الحسان في جنان الشام، وأشرب قهوة مع سمراء، دعجاء العينين على رصيف باريسي، وأهدي ورودا للصبايا الأندلسيات وهن يرقصن «الفلامنكو» تحت قصر غرناطة المكتمل. وكانت قصيدته «خبز وحشيش وقمر» تصاحبني طـوال الوقت. وكان يحلو لي بالخصوص أن أرددها وأنا أقطع وحيدا تلك الطريق المغبرة الفارغة الفاصلة بين حفوز وقريتي. وعندما قرأت كتابيه النثريين «الشعر قنديل أخضر» ثم «قصتي مع الشعر» أصبحت أمنيتي هي أن أكون ذات يوم قادرا على أن أكتب نثرا بمثل ذلك البهاء، وبمثل تلك اللغة التي تتدفق سعيدة جذلى مثل سواقي الماء في الواحات، وتلمع مثل اللآلئ على أجياد الحسان، أو مثل الندى على ورود الصباح الطالع. ثم انقطعت الصلة بيني وبين نزار قباني وذلك بعد أن اكتشفت الشعر العالمي وقرأت لشعراء من أمثال رامبو وبودلير وايلوار وأراغون وناظم حكمت ولوركا وبابلو نيرودا. ولم أعد أهتم بما يكتب من نثر أو من شعر إلا لمجرد الفضول، لا أكثر ولا أقل. مع ذلك ظل إعجابي بلغته وبقدرته على توليد الصور والاستعارات كبيرا. وخلال الثمانينات، التقيت نزار قباني مرتين غير أنني لم أحاول الاقتراب منه. لكن عندما جاء إلى القيروان في ربيع 1995 بصحبة أدونيس وسـعدي يوسف للمشاركة في مهرجان «ربيع الفنون» كانت رغبتي شديدة في التحدث إليه والتحاور معه. وعندما بحت برغبتي هذه لأدونيس وعدني بأنه سيفعل كل ما في وسعه لتنفيذها. وهذا ما تم بالفعل. وصل نزار قباني إلى مطار «تونس ـ قرطاج» الدولي ليلا، استقبله الشاعران القيروانيان محمد الغزي والمنصف الوهايبي مصحوبين بفتاتين جميلتين قدمتا له باقتي ورد. بعدها جاؤوا جميعا إلى «سيدي بوسعيد» أين كنا ننتظرهم، أدونيس والصديق عبدالجليل بوقرة وأنا. وكان أدونيس يرغب في تناول العشاء على ضفة البحر غير أن نزار قباني فضل الانطلاق فورا إلى القيروان بسبب التعب. في الساعة العاشرة ليلا، كنا في عاصمة الأغالبة في فندق «كونتيننتال» الواقع أمام المسبح الكبير الذي كان يمضي فيه ملوك بني الأغلب سهراتهم الصيفية. في اليوم التالي، دعتنا لجنة المهرجان لتناول طعام الغداء في مطعم شهير مختص في الأسماك في مدينة المهدية، عاصمة الفاطميين، الواقعة على ساحل البحر، شرق القيروان. كنت في نفس السيارة التي كان فيها كل من نزار قباني وأدونيس. كان الجفاف قد ضرب وسط البلاد ذلك العام. وبالرغم من أننا كنا في أوائل ابريل فإن الحقول كانت تبدو شبه عارية وكانت البوادي كئيبة مقفرة. على مدى أزيد من ساعتين. وهو الوقت الذي استغرقته الرحلة مع استراحة قصيرة في بلدة الجم حيث المسرح الروماني الشهير، راح نزار قباني يروي بطريقة بديعة طرائف «خضراء» كما ينعتها بدو القيروان. وكان أدونيس يضحك عاليا لكل واحدة منها. وعندما كنا نقترب من المهدية، التفت نزار قباني إلى أدونيس وقال له «اسمع يا أدونيس.. يبدو أن ميلنا إلى رواية طرائف من هذا الصنف يزداد كلما تقدمت بنا السن.. فما سر ذلك يا ترى؟!» فرد أدونيس قائلا «ربما تعويضا عما لم نعد قادرين على القيام به بشكل فعال»، انفجر نزار قباني ضاحكا وعلق على كلام أدونيس قائلا «يبدو أن ما قلته صحيح تماما!». بعد الغداء الذي لم ينقطع خلاله نزار قباني عن الحديث بحماس في مواضيع شتى، خصوصا الشعر والجمهور والسياسة، انطلقنا عائدين إلى القيروان عبر المنستير. في الطريق أوقفنا شرطي مرور في حوالي الثلاثين من عمره وراح يتحدث إلى السائق، بادر السائق بالاعتذار بأدب عن الخطأ الذي ارتكبه ثم أضاف بأنه مرفوق بضيوف بينهم «الأستاذ» نزار قباني. وما إن سمع شرطي المرور باسم نزار قباني حتى هش لنا وبش معبرا عن سعادته «الكبيرة» بأن يرى أخيرا الشاعر الذي أحب منذ أن كان تلميذا في المدرسة. وبعد أن طلب توقيعا منه، انطلقت بنا السيارة من جديد باتجاه القيروان، وعندئذ قال نزار قباني «يبدو يا عزيزي أدونيس أن الشعر لا يزال نافعا في العالم العربي..». طوال الأسبوع الذي أمضياه في القيروان، كانت العلاقة بين الشاعرين الكبيرين نزار قباني وأدونيس ودودة إلى أقصى درجات الود. كان نزار يمضي كل الوقت تقريبا في الفندق ولا يخرج إلا عند الضرورة. أما أدونيس فبرغم مرض الحساسية الذي كان يعذبه كثيرا، فإنه كان يمضي ساعات طويلة مع الشبان في مقاهي المدينة العتيقة، مدخنا «الشيشة»، مستمعا إلى قصائدهم بانتباه شديد. بل أحيانا كان يسهر معهم حتى ساعة متأخرة من الليل. ومرة كنت مع نزار قباني في غرفته فسألني «أين يذهب أدونيس.. إني لا أكاد أراه في الفندق؟». ولما أعلمته بما يفعل أدونيس، قال لي «ألا يخاف على صحته.. إن ما يفعله خطير للغاية!». وبعد أن صمت قليلا أضاف ضاحكا «هناك فرق كبير بيني وبين أدونيس.. ألا تعرف ما هو؟». ـ «أنا نخبوي في حياتي وشعبي في شعري. أما أدونيس فنخبوي في شعره وشعبي في حياته!». وخلال الحوار الذي أجريته معه في ذلك اليوم قال لي نزار «يا أخي.. الشاعر يظل طفلا دائما وأبدا.. والشعر في نظري هو الطفولة والطفولة هي صانعة الشعر.. وحين ينفصل الشاعر عن طفولته فإنه يموت وفي أعماقه تذبل الكلمات الخضراء». وعن طفولته وعلاقتها بالشعر، قال نزار «منذ البدايات.. كنت طفلا أراقب الأشياء وأرصد بيئة دمشقية محافظة جدا. والمرأة في هذه البيئة كانت عورة. ليس فقط بسبب وجهها أو شعرها أو عنقها أو شفتيها وإنما بسبب صوتها كذلك! حين تطرق باب بيت دمشقي لم تكن المرأة تجرؤ على أن تقول لك «مين» لأن كلمة «مين» فيها جنس. وهذا ممنوع. في هذا الإطار كنت أرصد هذه الظواهر وأتأمل فيها ودائما كنت أسأل لماذا محكوم على المرأة أن تكون مطوقة بالممنوعات والمحظورات؟ هذا هو السؤال الدائم الذي كنت ألقيه على نفسي. على أن الحادثة الكبرى التي أحدثت زلزالا في حياتي الشعرية والفكرية وأنا على أبواب المراهقة هي انتحار أختي. أختي كانت وقتها في الثلاثين. وكانت تحب رجلا من الحي. بمجرد أن باحت بحبها، ثارت العائلة في وجهها وراحت تكيل لها التهديد والوعيد. عندئذ دخلت أختي إلى غرفتها وتناولت سما ثم نامت ولم تستفق بعد ذلك أبدا. هذه أول حادثة استشهاد في سبيل الحب عشتها. وعندما كنت أمشي في جنازة أختي كنت أسأل نفسي «لماذا الموت هو المعادل الوحيد للحب في مجتمعنا؟ هل محكوم على الإنسان أن يموت لأنه يحب؟». حدثت هذه الفاجعة عام 1929 ومنذ ذلك الوقت آليت على نفسي أن آخذ بثأر أختي بالشعر!». وعن الشعر والشعراء في العالم العربي راهنا، قال لي نزار «أنا أتابع بلهفة وباستمرار كل ما ينشر من شعر في العالم العربي. وأنا معجب بمحمود درويش. أؤخذ بصياغاته الجديدة، بموسيقاه المتفردة، بنظرته البانورامية للتاريخ، وبالطريقة التي يدافع بها عن قضيته. لكن أنا لا أحاول أن أغير خطتي ولا أسلوبي بناء على ذلك. الذاكرة الشعرية هي في نظري أسوأ ما يبتلى به الشاعر. لذا أنا أقول دائما بأنه لا ذاكرة لي. ما توصلت إليه شخصيا يقنعني بأن خطي الشعري هو الخط العربي. العرب شعب بسيط. الغموض ليس من مشمولاته والتعقيد مرفوض عنده. المتنبي يقرأ في كل البيوت منذ العصر العباسي وحتى هذه الساعة، يقرأ لموهبته وناره وكبريائه وبساطته. أبو نواس أيضا، إن طبيعة الأرض العربية صحراوية منبسطة، الأفق فيها واضح. لذلك عندما يأتي الشاعر الحديث يستعرض عضلاته الثقافية يفشل وينهزم بسرعة لأن استعراض العضلات الثقافية لا يهم الناس البسطاء». طاف نزار قباني في أسواق القيروان العتيقة فاستقبل بالهتاف والزغاريد. أحاط به التجار والباعة والنساء والأطفال وغمروه بالمحبة والقبلات. وكان الأمر على هذه الصورة عندما زار الجامع الكبير وضريح أبي زمعة البلوي ومعالم تاريخية أخرى. ويوم القراءة المخصص له، يوم السبت 5 أفريل 1995، امتلأت القيروان حد الفيض، وانسدت بعض الشوارع بسبب اشتداد حركة الازدحام، وكسرت أبواب «المجمع الثقافي». ورغم تدخل قوات الأمن، فإن الحمى بلغت أوجها حتى أن بعض المتفرجين أغمي عليهم وسط القاعة وخارجها. حتى سائقو التاكسي توقفوا عن العمل ليستمعوا إلى نزار. أبدا لم أر القيروان على مثل تلك الصورة. وقد اندهش الشعراء الفرنسيون المدعوون إلى المهرجان لهذه الظاهرة، وعندما سألوا أدونيس رد عليهم قائلا «نزار شاعر جماهيري كبير وهذا أمر لا يدعو إلى العجب!». صعد نزار قباني إلى الركح وسط الهتاف والتصفيق والزغاريد، وحيا أهل القيروان قائلا «شكرا لمدينة القيروان، فهي أول مدينة عربية ترتكب فضيحة حب الشعر وحب الشعراء. أول مدينة تكحل عينيها بقصائدها وتعلقها كأساور الفيروز في معصميها. أول مدينة ليبيرالية تتزوج الشعر بلا مهر، ولا وثيقة زواج ولا شهود ولا خواتم سوليتير!». لقد رويت هذه الذكريات لأن زيارة الشاعر الراحل نزار قباني للقيروان لم تكن فقط حدثا كبيرا بالنسبة إلى أهل القيروان فحسب وإنما بالنسبة إليه هو أيضا. وعندما التقيته في برلين بعد ذلك ببضعة أشهر، قال لي ونحن نتناول طعام العشاء بأن زيارته للقيروان أعادت إليه الروح وجعلته يطمئن من جديد على مستقبل الشعر في العالم العربي. ثم أضاف قائلا «سوف تظل أيام القيروان الجميلة عالقة في ذهني حتى النهاية!». وأظن أنه مات وهو يتحدث عن القيروان. تعوّد شَعْري عَلَيكْ (من ديوان «الرسْمُ بالكلِمَات») تعود شعري الطويل عليك تعودت أرخيه كل مساءٍ سنابل قمحٍ على راحتيك .. تعودت أتركه يا حبيبي .. كنجمة صيفٍ على كتفيك فكيف تملُّ صداقة شعري؟ وشعري ترعرع بين يديك .. ثلاث سنين .. ثلاث سنين .. تُخدرني بالشؤون الصغيرة .. وتصنع ثوبي كأي أميرة من الأرجوان.. من الياسمين وتكتب اسمك فوق الضفائر .. وفوق المصابيح.. فوق الستائر .. ثلاث سنين وأنت تردد في مسمعيا كلاماً حنوناً.. كلاماً شهيا وتزرع حبك في رئتيا وها أنت.. بعد ثلاث سنين تبيع الهوى.. وتبيع الحنين وتترك شعري شقياً.. شقياً كطير جريح .. على كتفيا حبيبي! أخاف اعتياد المرايا عليك وعطري، وزينة وجهي عليك أخاف اهتمامي بشكل يديك أخاف اعتياد شفاهي مع السنوات، على شفتيك أخاف أموت، أخاف أذوب كقطعة شمع على ساعديك فكيف ستنسى الحرير؟ وتنسى.. صلاة الحرير على ركبتيك؟ لأني أحبك، أصبحت أجمل وبعثرت شعري على كتفي طويلاً.. طويلاً.. كما تتخيل فكيف تمل سنابل شعري؟ وتتركه للخريف وترحل وكنت تريح الجبين عليه وتغزله باليدين فيغزل وكيف سأخبر مشطي الحزين؟ إذا جاءني عن حنانك يسأل أجبني، ولو مرة يا حبيبي إذا رحت ماذا بشعري سأفعل؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©