الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشعر والقتل

الشعر والقتل
4 يونيو 2009 00:01
«كان يلبس ثيابا خضرا ويجيد الغناء بالطنبور وهو أشقر أزرق العين يصبغ حاجبيه بالزنجار وذقنه بالحنّاء ولذلك قيل له ديك الجنّ». هكذا يحدث كل من الأصباني وصلاح الدين الصفدي أما ابن رشيق فيذهب إلى أنه كان «أشعر الجنّ والإنس». تجمع الروايات أيضا على أنه «كان خليعا ماجنا عاكفا على اللهو والقصف» غير أن الشعر لم يقتد خطاه على درب المجد والشهرة بل اقتاده إلى الجريمة ووضعه في حضرة الفاجعة. يكفي أن نتملّى ديوانه وسنجد الشعر قد تحوّل إلى خطاب طافح بندم لا تطفأ ناره حتى صار عبارة عن نشيد أسود يرفع طلبا لغفران أحبّة تولّى الشاعر قتلهم بنفسه. فالروايات التي حدّثت عن سيرته تلحّ جميعها على أنه شاعر صادق الصبابة قد أوصله الحبّ إلى ارتكاب جرائم فأهلك أكثر من نفس. فلقد عشق جارية نصرانيّة من أهل حمص أسلمت على يده فتزوّجها وكان اسمها وردا. وقد حزّ ديك الجنّ رأسها بالسيف وخصّها بمراث عديدة طفحت بالندم وشكوى الحال. وهو يشير صراحة إلى أنه إنما قتلها شماتة بمن يمكن أن تقع عليها عينه فيشتهيها. يقول معللا قتلها: رَوّيْتُ مِنْ دَمِها الثّرى ولَطَالَما رَوَّى الهَوَى شَفَتَيَّ مِنْ شَفَتيْها قَدْ باتَ سَيْفي في مَجَالِ وِشَاحِها ومَدَامِعِي تَجْرِي على خَدَّيْها فَوَحَقِّ نَعْلَيْها وما وَطِىءَ الحَصَى شَيءٌ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَعْلَيْها ما كانَ قَتْليِها لأَنِّي لَمْ أَكـُنْ أَبكي إذا سَقَطَ الذُّبَابُ عَلَيْها لكنْ ضَنَنْتُ على العيونِ بِحُسْنِها وأَنِفْتُ مِنْ نَظَرِ الحَسُود إِليها وتذكر الروايات أيضا أن ديك الجن قتل جارية له وغلاما كان يعشقهما حين فاجأهما في خلوة مريبة. وأمضى زمانا ينظم الشعر في رثائهما. ويبدو أن الأحداث التي عاشها ديك الجن وما سفكه من دماء جعلت أشعاره تتّسم بنوع من القتامة والحديث عن الموت والموتى والأجداث والقبور. إن محنة ديك الجنّ وما تنبني عليه حكايته من أبعاد تراجيديّة هي التي تجعل المتلقّي يتعاطف معه. إن حكايته كما ترسمها المتون القديمة قائمة في ما يخصّ تتالي أحداثها وأفعال شخصياتها على مبدأ تراجيدي متعارف وهو تشكّل الأحداث وأفعال الشخصيات وفق مبدأ الضروري والمحتمل. وهو مبدأ بدونه لا يمكن أن يحدث التعرّف الذي يؤدّي إلى انقلاب الأحداث انقلابا تاما. وديك الجنّ حين اكتشف أنه قد قتل زوجته دون أن تأتي أيّ ذنب انقلبت حياته وجعا وضنى. وشخصيّة ديك الجنّ التي ترسمها هذه الأخبار ترد، هي الأخرى، حاملة لسمات البطل التراجيدي. وهي إنما تتمكّن من جعل المتلقّي يتعاطف معه في محنته، بتلك السمات وبما تثيره في نفسه من شفقة ورحمة أو من خوف وفزع. فشخصيّة ديك الجنّ شبيهة بنا، وما وقع له ليس أمرا خارقا لا يمكن أن يعاود الظهور ويحدث ثانية، بل هو من الأمور المحتمل وقوعها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©