الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حين تعثر القبل على أجنحتها

حين تعثر القبل على أجنحتها
3 يونيو 2009 23:57
قراءتنا في مختارات الشاعر الأميركي الزنجي إي. أثيلبرت ميلر الصادرة بعنوان «في الليل كلنا» عن مشروع «كلمة»، نابعة من أهميتها، وهي اختيار حر بالنسبة لنا، وقد وجدنا في مقدمة المترجمة وصال العلاق وتعقيب الشاعر على الترجمة ما يعزز ويساعد على إنجاز هذه القراءة. تقول المترجمة في معرض ترجمتها: «كان علي ألا أصغي إلى لغة النص وحدها، بل إلى الغائب المتخيل فيه أيضاً، وهذا لا يتم بالفهم الحرفي للغة القصيدة، بل باستخدام ملكة الخيال، والتشبع بمزاج النص وتقمص روح التجربة». وبالطبع فإن إنجاز ترجمة بهذه الرؤية، سيطمئن المتلقي بأنه أمام نص قد تعرض للخيانة، ولكنها خيانة مبدعة، وقد تكون لا بد منها، ولكن قد نجد أننا أمام تساؤل مشروع هو هل سنكون أمام نص مغاير ومفارق فيما لو ترجمه مترجم آخر؟، وهذا ما لا يمكننا البت فيه حالياً، لحين ظهور ترجمات أخرى. ولو تجاوزنا رؤية المترجمة إلى رؤيا الشاعر في كتابته للشعر فهو يقول: «أرى شعري باعتباره شعراً احتفالياً واستناداً إلى تراث والت وايتمان فأنا أعتبر جسد الإنسان مهماً لمخيلته تماماً، فحين يلتقي الاثنان، تستحيل الكلمة جسداً، وها هنا تغدو القصائد صلوات وتذكيراً بالحب والحياة». وإذ ننجز نحن قراءتنا لهذا الديوان فإننا نطمح إلى أن تكون قراءتنا بعيداً عن مهيمنات المقدمتين والتي يحاول أن يؤطرها كل من الشاعر والمترجمة على السواء. في نص «خوان» نقرأ مجموعة من الصور الشعرية المبتكرة، فهنالك عند الشاطئ تنام القوارب على الرمال وكأنها مغروسة فيها: نسيرُ صوبَ الماء حيثُ تنامُ القواربُ ِمغروسة ً في الرمال ِوكذلك نقرأ صورة أخرى لها ديناميكية غير عادية (رائحة الصباح)، حيث يمتزجُ فيها الزمان والرائحة ليصبحا ملفوظا ذا معنى واحد يشير أحدهما للآخر، أي أن رائحة الصباح تمثل زمناً معروفاً يتحول إلى محطة مكانية حيث نقرأ: ندفع بواحد ٍ منها صوب رائحة الصباح نتفقد شباكنا وأخيرا تتحول الشمس إلى حسناء مختبئة في السماء تنظر من خلال فتحاتها للصيادين: فيما تتطلعُ إلينا الشمسُ من فتحات في السماء ولو انتقلنا إلى نص آخر نجد صورة أخرى في نص «السلفادور» حيث نقرأ: يمشي الجنودُ بخطىً ثابتة في الشوارع كالخرز المنظوم في مسبحة أمي وهي صورة مركبة من عدة ثنائيات من مثل ثنائية (الجنود ـ الخرز) ومن ثم ثنائية (خطى ثابتة ـ منظوم) وكذلك ثنائية ثالثة (الشوارع ـ مسبحة أمي)، وبالطبع وجود هذه الثنائيات في سطرين شعريين يحيل إلى الإقرار بوجود تكثيف شديد، فضلاً عن وجود ثنائية أخرى نصف حاضرة (أي بقسم واحد من قسميها) وهي ثنائية (يمشي - ) والبياض هنا يحيل إلى تشاكل مشي الجنود وانتظامها مع حركة الخرز وانتظامها في خيط المسبحة، وكذلك هنالك ثنائية أخرى تمثل غيابا لحضور كسابقتها وهي ( - أمي) والبياض هنا قد يحيل إلى المدينة أو السلفادور لتكون الكلمة الغائبة هي شوارع المدينة أو الشوارع في السلفادور. وفي النص ذاته نقرأ صورة أخرى، تنطوي على اللون الأحمر بوصفه إحالة مجانية تؤطر الموت وتباغت الحياة وتلي صيرورتها سواء على المستوى الذاتي أو الموضوعي: أنا لا أخشى الموت فقد شهدت الكثير منه العشبُ أحمرُ والوردُ أحمر والأنهار بلون الدم إن مرجعية اللون الأحمر (حسب كوهن) هي مرجعية طبيعية في جزء منها، فانبعاث العنف من اللون الأحمر متصل اتصالاً مباشراً بالإثارة العصبية التي تتلاقى مع ذلك اللون لكن الربط الامتزاجي بين الأحمر والدم لا يفعل إلا أن يقوي هذا الشعور من خلال سياق مزدوج (الحمرة ـ الدم ـ العنف) (اللغة العليا ـ جان كوهن ص167)، وبالطبع هنالك مرجعية ثقافية في تمظهر العنف والموت من خلال الدم، ترتبط بالتراث الثقافي للمجتمع الذي ينتمي إليه الشاعر، وفي أعلاه فإن تعدد الصور والتي يستفيق من خلالها الموت، يقوم اللون الأحمر بصبغها لتكون حارة وقوية وممزقة، إنها صور حمراء لموت واحد لا يستثني أحداً، حيث العشب، الورد، الأنهار كلها حمراء، أو إنه الموت الكثير الذي تخلفه الحروب والجيوش، وهنا يمكن أن نقول إن اللون الأحمر قد تمظهر بمرجعيتين طبيعية وثقافية. في نص آخر تحت عنوان «كانت ترتدي ثوباً أحمر»، نقرأ عن شائعات مثل فرق الإعدام، وظلال كامنة لا تعود إلى رجال: هناك في السلفادور، يدور حديث حول الانتخابات غير أن الشائعات تنتقل كفرق الإعدام والظل الذي يكمن عند المنعطف ليس رجلا إننا أمام ثنائية غير عادية وهي ثنائية (الشائعات ـ فرق الإعدام)، وكأن الشاعر يريد أن يوصل لنا أن الشائعات قاتلة كفرق الإعدام، وبالطبع فالثنائية هذه تحيل إلى ما هو سياسي وصاخب ودموي وهو حال السياسة في بلدان العالم الثالث، فالذي يدس الشائعات قد يكون ذاته من يرسل فرق الإعدام، وبالتالي فالكل تحت المراقبة، وهو ما تبوح به الثنائية التي تحمل نقيضها (الظل ـ ليس رجلا) وهي تشير إلى كلام مسكوت عنه يحتمل الكثير من التأويلات وهو ما يفصح عنه النص التالي: في الصباح أرى الجثث ممددة على الأرض كقنانٍ وعلب مرمية حيث يتوضح من أعلاه ما قادت إليه فرق الإعدام والشائعات والمخبرين حيث الجثث حصاد الليل، والإنسان ما عادت له قيمة، وهو ما تشي به الصورة الشعرية في ثنائية (الجثث ـ قنان وعلب). في نص معبر آخر (بلا عنوان) نسمع الشاعر يصرخ عالياً: أين قصائد الحب المهداة إلى الطغاة؟ وهذه الصرخة موجهة إلى شعراء الكدية في كل حين ومكان وما أكثرهم في بلداننا، حيث يتناسلون كالأورام السرطانية التي لا شفاء منها في بلدان العالم الثالث، في النص نقرأ تصويراً حقيقياً للحالة المزرية التي يعيشها السجين في هذه البلدان، ومن منا لا يعرف سجون العالم الثالث المرعبة بسجانيها ومحاميها وقضاتها: في الزنزانة المجاورة ينتحب أنطونيو وقد هشمت جسده آلاف الحروق عندما يأتي المساء أهمس له شعراً عبر الشقوق كلماتي كنساء يقبلن عينيه وهنا ثنائية أخرى تعبر عن صورة حسية رائقة هي ثنائية (كلمات ـ نساء)، إن كلمات الشاعر في صورتها الغائبة تشير إلى ثنائية (صدى الكلمات ـ قبلات)، حتى هذه القبلات لها تأثير روحي وجسدي معا فهي لا تشير للغريزة بقدر ما تشير إلى متعة نفسية وسعادة روحية، فصدى الكلمات يشاكل أثر شفاه النساء حين يقبلن عيون الرجال، وهي صورة باذخة حقاً. في نص من ثلاثة سطور تحت عنوان «قصيدة إلى ماروتشا» نقرأ: حين تعثر القبل على أجنحتها ستعود إلى شفاهنا كي تحلق من جديد وهي تحيل إلى حميمية الشعور الإنساني الحق، إذ أن (ماروتشا) وهي صديقة للشاعر من تشيلي، ومن خلال هذا النص الذي تتحول فيه القبلات إلى طيور، والشفاه تصبح أعشاشاً للطير، والحبيبة هي الحياة والغذاء والطيران، إن رؤية الحبيبة من جديد معناه قبلاً جديدة، وحياة جديدة وصباحاً جديداً، إن الصداقة شيء مقدس ونبيل، وهي كالموسيقى لا تشيخ أبداً، وهذا ما نقرأه في نص «موسيقى جاز أرناي»: كالموسيقى الجديدة لا تشيخ أبداً تلك هي الصداقة في نص «شروق» وبشعرية مكثفة تتحول فيه ثنائية (ذكرى ـ نسيان) إلى ثنائية كونية (ضوء ـ ظلام) أو ثنائية (نهار ـ ليل)، حيث تنشطر هذه الثنائية الإنسانية إلى ثنائيات أخرى كمثل ثنائية (النسيان ـ شروق الشمس)، وكذلك إلى ثنائية مقابلة هي ثنائية (النسيان - الظلام) وهي استعارة يمتزج فيها الكوني بالذاتي: ما الذكرى سوى شروق الشمس كل يوم فكيف لي أن أنساك واحتضن كل هذا الظلام؟ إن الشعر والصلاة لدى الشاعر إي. أثيلبرت ميلر صنوان يكاد يكمل بعضهما بعضاً، وإذ تنبجس من بين الكلمات فهو يشاكل رقص الضوء وسط هذه الكلمات، كما أن طقوس الكتابة لدى الشاعر هي ذات الطقوس في الصلاة حيث يكررها كالرجل المسلم خمس مرات حيث نقرأ في نص «صلاة»: الشعر كالصلاة كالضوء يرقص وسط الكلمات أحاول أن أكتب خمس مرات في اليوم إن المرجعية إسلامية واضحة هنا، ويتعزز هذا المنحى حين نقرأ في النص ذاته: وخطوة تلو الأخرى أتجه صوب المحراب وفي النهاية لا يمكننا أن نعطي رأيا في التكوين الجملي أو اللغوي لأن النصوص مترجمة، ولكن ما يثير حقا هي تلك الثنائيات التي تزخر بها النصوص والتي تنطوي على صور شعرية طازجة ومبتكرة، وكذلك نجد أن الشاعر يشعر أن أحداث حياته كالأمكنة التي زارها وعلاقاته الكثيرة مع النساء اللواتي مررن بحياته، ويحاول أن يخلق لنا قصائد جميلة من تلك الأحداث، ولكن يبقى الشعر بخيلاً ولن يعطي الكثير في هذه القصائد وليس بقدر ما لاحظنا في قصائده ذات النفس الديني والصوفي والكوني.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©