السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زمن البدايات

زمن البدايات
3 يونيو 2009 23:55
تردد في سمعي منذ الأيام الأولى لوصولي إلى أبوظبي عام 1971 اسم جبل الظنة، خاصة أنه موقع لتخزين البترول الخام المنتج من المناطق البرية وتصديره عبر ميناء يحمل اسم الجبل نفسه، جبل الظنة. تشوقت لزيارة الموقع وتسجيل حلقة خاصة لبرنامج الذهب الأسود الذي بدأت أعده وأقدمه منذ بداية فبراير 1971 في الإذاعة والتلفزيون. لقد حانت الفرصة عندما قامت شركة نفط أبوظبي المحدودة بدعوة معالي الدكتور مانع سعيد العتيبة وزير البترول والصناعة لإمارة أبوظبي في عام 1971 لحضور الاحتفال بتصدير الطن رقم مائة مليون من بترول المناطق البرية. كان الطريق إلى جبل الظنة يبدأ من المفرق بعد جسر المقطع، وقد سمي المفرق لأنه من ذلك الدوار تمتد طريق إلى طريف وجبل الظنة والسعودية وقطر، وطريق إلى العين (المنطقة الشرقية) وطريق إلى دبي. ولم تكن الطريق المعبدة من المفرق إلى طريف وجبل الظنة قد اكتملت بل مازالت في بدايتها وكان لابد من مرافقة معاليه في إحدى سيارات الدفع الرباعي للتمكن من تجاوز الطرق الرملية التي لا تستطيع سيارات الصالون العادية تجاوزها. ولم يكن يمكن أن نحضر الاحتفال ونعود في اليوم نفسه بل كان لابد من المبيت في بيت الضيافة التابع للشركة في جبل الظنة. تهيأت نفسيا لرحلة لا تخلو من المغامرة ومليئة بالإثارة. ورغم الانطلاق المبكر في الصباح إلا أننا لم نتمكن من قطع الثلاثمائة كيلومتر التي تفصل ما بين أبوظبي وجبل الظنة إلا في حدود الثانية بعد الظهر. وعندما لاحت خزانات البترول الضخمة من بعيد سألت معاليه: أين الجبل؟ قال: ذاك هو، حيث الخزانات.. هذا جبل الظنة؟ ضحك معاليه قائلا: هذا المرتفع نسميه جبلا مجازا، واخترناه لوضع الخزانات فوقه للتمكن من تفريغ الخام منها إلى الناقلات الرأسية في الميناء بفعل الجاذبية الأرضية ورغم أن ارتفاعه بسيط إلا أنه يقوم بالمهمة على أكمل وجه. وتذكرت اللحن المميز لبرنامجي الذهب الأسود في الإذاعة حيث كان صوت المرحوم جابر جاسم يتغنى بالذهب الأسود وجبل الظنة. الذهب الأسود ثروتنا للخير لعز إمارتنا زايد سهران لنهضتنا يعلي أركان البنيان وسلاما يا جبل الظنة يأتينا الخير بلا منه فضلا من عند الرحمن كان الموقع هاما، بل من أهم المواقع التي يشرف على حراستها رجال خبراء أشداء تابعون لوحدة حماية منشآت النفط. خزانات تختزن الخير والثروة، يصب فيها النفط الخام المستخرج من الحقول البرية في باب وبوحصا وحبشان، من خلال خطوط أنابيب تمتد عبر الرمال من مجمعات آبار تلك الحقول إلى موقع الخزانات في جبل الظنة. كانت البيوت التي يقيم فيها العاملون والمهندسون في جبل الظنة مزودة بكل وسائل الراحة وخاصة أجهزة التبريد التي تجعل منها في أشهر الصيف ملاذا ممتعا للساكنين فيها بعد انتهاء ساعات عملهم. رافقنا معاليه ومدراء الشركة والمهندسين في مركب (دوبة) أقلتنا إلى أضخم ناقلة نفط شاهدتها بل أعترف أنها كانت الناقلة الوحيدة التي رأيتها في حياتي في ذلك التاريخ الذي كنت ألامس فيه سن الثلاثين. أذهلتني ضخامة الناقلة، ولم أكن أتصور أو أتخيل أن هناك سفنا بهذا الحجم يمكن أن تصل إلى ذلك الموقع. أدركت وأنا أتجول مع معاليه أن مدينة عائمة بكاملها قد بنيت فوق تلك الناقلة التي كانت صاحبة الحظ في حمل الطن رقم مائة مليون. مازلت أحتفظ بتسجيل نادر لكلمات معالي الدكتور مانع العتيبة فوق ظهر تلك الناقلة بصوته وما زالت تلك الكلمات صالحة لأن تقال في هذا الزمن رغم مرور أكثر من تسعة وثلاثين عاما عليها. «ثروة النفط التي حبانا بها الله سبحانه وتعالى وكما يقول القائد صاحب العظمة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان»رحمه الله» هي ثروة مسخرة لخدمة الشعب وبناء النهضة للأجيال القادمة». في تلك الرحلة الجميلة رافقنا عدد من المسؤولين من وزارة البترول والصناعة أذكر منهم الشيبة سعيد الهاملي وعبد الله إسماعيل وصالح عكاشة وحارب المهيري ومحمد الراشد ومحمد السطري وغيرهم. كان للبحر أمام جبل الظنة منظر يغري من يراه على السباحة أو صيد السمك، ورغم أن المنطقة كانت مليئة بالخزانات والأنابيب المليئة بالنفط إلا أن الشواطئ كانت نظيفة والمياه صافية إلى الدرجة التي تستطيع أن ترى فيها بوضوح قاع البحر لمسافة بعيدة. وكانت الرحلة من الإمتاع إلى درجة جعلتني أرى منطقة جبل الظنة وميناءها بمثابة نسخة جميلة للجنة. وقد شجعتني هذه الرحلة فيما بعد على تكرارها وعدة مرات بل قمت بترتيب رحلات لطلاب وطالبات أبوظبي للتعرف على واقع الصناعة النفطية في البلاد من خلال هذا الموقع، جبل الظنة. وقمت بتسجيل هذه الرحلات بالصوت والصورة وإذاعة ما سجلت من خلال إذاعة وتلفزيون أبوظبي، طبعا بعد اكتمال تعبيد الطريق بين المفرق وجبل الظنة، مما مكننا من القيام بالرحلة والعودة في اليوم نفسه. وكان المهندسون المشرفون على الخزانات والميناء يتفضلون بتقديم الشروح عن سعة كل خزان وعن خطوط الإنتاج التي تصل إليها، ويقومون بإجابة أسئلة الطلبة المتشوقين للتزود بالثقافة البترولية ومعرفة واقع ثروة أبوظبي النفطية. في ذلك الزمان الجميل، كان موقع جبل الظنة متفردا لايحيطه إلا رمال لا حدود لامتدادها وصحراء لا نهاية لها. اليوم امتلأت المنطقة بالقرى والمدن، وشمخت الأبنية وامتد اللون الأخضر ليغمر الرمال الصفراء ويلون الحياة التي ازدهرت ونمت بفضل ذلك الخير العميم المنبثق من أعماق أرضنا الطيبة خير الذهب الأسود، النفط. عندما قمت بتلك الرحلة في عام 1971 لم أشاهد طوال الطريق من المفرق إلى جبل الظنة أي علامة من علامات وجود الإنسان على الرمال حتى بانت خزانات جبل الظنة ومنشآت الإنتاج وسكن العاملين. حتى الذين كانوا يسافرون برا من أبوظبي إلى السعودية أو قطر كانوا مضطرين إلى حمل جالونات إضافية من الوقود لعدم وجود محطات التعبئة التي انتشرت الآن بشكل ملفت للانتباه ومريح للجميع، بل إن هذه المحطات الآن أصبحت بمثابة محطات استراحة يمكن فيها للمسافرين الاستراحة والتمتع بوجبات الغذاء الجيدة والساخنة والمشروبات المتنوعة. كثير من الروايات رويت لنا في ذلك الزمن عن الذين تاهوا في الصحراء بعد أن تعطلت سياراتهم وتعرضوا للموت عطشا أو كانوا محظوظين بوصول نجدات الإنقاذ إليهم في اللحظة الأخيرة. ولعل هذا ما جعل شركة نفط أبوظبي المحدودة تستعين بسائقين من أهل المنطقة الذين لا يمكن أن يضيعوا أو يتوهوا في الصحراء لأنهم موهوبون في معرفة الاتجاهات والأماكن. وقد تمكنت من معايشة خبرة هؤلاء من خلال الرحلات التي كنت أغوص فيها في الرمال وفي جميع الاتجاهات لأتمكن من الوصول إلى آبار البترول في الحقول البرية وتصويرها. كان السائق يسير فوق الرمال، لا أثر يدل على وجود طريق ولا إشارة تشير إلى موقع، ولكنهم كانوا يسبحون بسيارات اللاندروفر فوق كثبان الرمال ويصلون إلى المواقع المحددة دون أي خطأ أو حتى تطويل للطريق. وقد ظهرت خبرة هؤلاء فيما بعد في رحلات القنص التي رافقت فيها معالي الدكتور العتيبة في باكستان والمغرب، حيث كان لديهم في عيونهم وعقولهم ما يشبه الرادار أو البوصلة فيصلون إلى أي موقع ينطلقون منه حتى ولو كانت العودة إلى الموقع في ظلام الليل. في هذا الزمن جميع المواقع البترولية أصبحت نقاطا مضيئة على شبكة من الطرق المعبدة تجعل الوصول إليها أمرا سهلا وميسورا. ولكن رغم ذلك، ظل للرحلة الأولى التي قمت بها إلى جبل الظنة في عام 1971 ذكرى لا تنسى وطعم لا مثيل لمذاقه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©