الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نزار قباني يقترح نظرية نقدية للقصيدة العربية

نزار قباني يقترح نظرية نقدية للقصيدة العربية
3 يونيو 2009 23:53
حبه فوق مستوى الكلام اعتاد الكثير من الشعراء أن يقدموا ـ بعد تجربة طويلة مع الشعر ـ في بعض دواوينهم مقدمات نظرية، رؤيوية، يصفون بها مجمل هذه التجربة، وفي الأعم الأغلب أن تكون تلك المقدمات ذات مسحة فنية، تستخدم فيها ألفاظ وكلمات وجمل تمتلك تصورات عن تشكل كيان القصيدة، وغايتها، وتحقق فعلها الفني، ولا تعد هذه المقدمات رؤية نقدية صارمة، بل هي مسحة شفيفة يمتزج فيها الوعي بقوانين الشعر، والحلم بكيان لقصيدة متكاملة، أو ربما هي محاولة لطرح مفهوم التجديد الذي أنجزه في هذا الديوان تحديداً. من هنا جاءت المقدمات في بعض الدواوين لتكون نافذة، يمكن قراءة فهم الشاعر لفنه ومنجزه من خلالها، وهذا ما استدعى تناوله من قبلنا عندما تصفحنا التجربة الرائعة والمؤثرة في القصيدة العربية لنزار قباني، وتحديداً في ديوان «كتاب الحب» الذي صدر عام 1970 والذي يحتوي على 52 قصيدة قصيرة جداً. معايير الشعر قبل كل شيء لابد أن أقرر أولاً أنني سأقرأ هذه المقدمة التي تصدرت «كتاب الحب» وفقاً لمعايير الشعر التي افترضها نزار قباني، والتي تعتبر على ضوء ما استخدم عن مصطلح حداثي ونظري ومنهجي متطورة، بعكس ما نفهمه عن أن نزار قباني شاعر بلا ثقافة نقدية، بل يتضح لنا عند قراءة مقدمة «كتاب الحب» أن نزار قباني ناقد ومجترح مصطلحات ورؤى خلاقة، استمدها من ثقافة واسعة وبراعة شعرية أروع. تساءلت في البداية وبعد قراءة تلك المقدمة النظرية التي كتبها قباني لمن احتكم لتبيان حداثتها؟ واهتديت بالضرورة إلى مقارنة هذا النص وما جاء فيه من طروحات لأدونيس في كتابه «الشعرية العربية»، وتودوروف في كتابه «الشعرية» ورومان ياكوبسن في قضايا الشعرية وجان كوهن في بنية اللغة الشعرية، وأخيراً في مفهوم سوزان برنارد في كتابها «قصيدة النثر.. من بودلير إلى أيامنا».. وتحديداتها لأهم قوانين - إذا صح التعبير - قصيدة النثر التي افترضتها بعد مسح كامل لهذا المنجز في أوروبا. يقول نزار قباني: «كتاب الحب محاولة لكتابة القصيدة بشكل جديد وإلباسها ثوباً عصرياً ومريحاً وعملياً». ولو دققنا في قول قباني لوجدنا أنه يقترب إلى حد كبير من مفهوم أدونيس للقصيدة العربية، حين لم يصفها بالحديثة، حيث يقول أدونيس: «نستخدم جميعنا في كلامنا على الشعر، اليوم عبارة الشعر العربي الحديث، والحداثة الشعرية العربية بيقين الواضع يده على الحقيقة وباطمئنان، فمن أين يجيء هذا اليقين وهذا الاطمئنان؟». وكأن ادونيس هنا يرفض تماماً أن يوصف الشعر العربي بـ»الحديث» «على اعتبار أن كلمتي حديث وحداثة استعارة من الآخر الأجنبي شأن كلمات وأشياء أخرى كثيرة، إن قيل إنهما عبارتان الصقناهما على نتاجنا الشعري اليوم بعد أن حملناهما الدلالات نفسها التي تحملهما عن ذلك الآخر الأجنبي، وأخذنا ننتقد ونقوم نتاجنا في ضوئهما». وذلك ما فعله نزار قباني عندما قال: «كتاب الحب محاولة لكتابة القصيدة العربية بشكل جديد» حيث وصف ديوانه بالمحاولة أولاً، ولم يقل كتابة القصيدة العربية الحديثة بل افترض لها شكلاً جديداً، إذ أن مفهوم الحداثة كما يتصوره قباني خارج كينونة بنية القصيدة العربية وبهذا تراه هنا بالرغم من عدم إفصاحه عن كثير من آرائه، يطابق مفهوم ادونيس إزاء مصطلح الحداثة. مساحة الانفعال من جانب آخر يقول نزار قباني: «كنت دائماً أحلم بشعر عربي تكون فيه مساحة الكلمة بمساحة الانفعال». أي أن قباني يبحث عن المعادلة الشعرية التي يصفها بالقول: «يكون فيها الملابس والملبوس قطعة واحدة» بما يعيد توصيفه ليقول: «الشعر هو خلاصة الخلاصة» ويقصد بذلك التكثيف الذي هو سمة من سمات القصيدة لديه في ديوانه «كتاب الحب»، والذي حاول أن يبنيه بناء شرقياً خالصاً مستخدماً مفهوم الإيجاز فيقول: أكره أن أحب مثل الناس أكره أن أكتب مثل الناس أود لو كان فمي كنيسة وأحرفي أجراس وما نلحظه في هذه القصيدة هو الثنائيات الضدية والتماثلات الصوتية التي تحدث فيها تودوروف ضمن تحديد خصائص الشعرية، وفي هذا التصور يمكن أن نعود إلى رأي صلاح فضل بالشعرية من خلال النماذج التي قدمها لكل من أحمد شوقي ونزار قباني وغيرهما، حين ركز على المحتوى، مستشفاً منه ما ينصر الشعرية في النصوص، وقد صرح بذلك في أثناء معالجته نموذج الأنثى في شعر نزار قباني حيث قال: «المرأة التي ينفذ نزار إلى ضميرها المكنون ويحرك بها الوجود والتاريخ هي القصيدة الشعرية وهي الإبداع الفني وهي ملتقى البحور والأزمان»، «تحولات الشعرية العربية»، كما يقول الدكتور أحمد علي محمد في دراسته «مفهوم النظم العربي والشعرية». وظيفة الشعر نزار قباني صانع مفاهيم، ومن الغرابة حقاً أن نجد هذه المفاهيم مبثوثة في كثير من الدراسات لمدارس ومناهج نقدية حديثة، فبعد أن يتحدث عن اشتراطات القصيدة لديه من اختصار وتكثيف ومعادلة شعرية، يقرأ وظيفة الشعر التي قال عنها إنها تمنح المتلقي طاقة شعر دون التدخل في تفاصيل الرحلة، أو أن تضع في إصبع القارئ خاتم سليمان وتدع القارئ يستحضر المارد، هذا بالإضافة إلى افتراضه أن اللغة الشعرية لعبة إشارات ضوئية، وأن اللاعب الماهر والكبير فيها هو الذي يحتفظ بالقدرة على الصمت ويعرف متى يلقي ورقة الدهشة». هذه الدهشة هي ما اصطلح عليه بالانزياح عن المألوف حيث تصبح اللغة الشعرية إضاءة سريعة - كما يقول قباني - عمرها ثانية واحدة أو جزء من أجزاء الثانية. وحينما يستخدم قباني اللفظة واللفظة في مقدمته تلك ليناقش مفهومي اللقطة الشعرية واللفظة الشعرية ـ لاحظ ما بينهما من جناس ومن تماثل على مستوى الصوت والصورة ـ أجد أنه اقترب كثيراً من مفهوم الانزياح عند كوهن باعتبار أن الأسلوب انزياح كما يفهمه، أي أن الأسلوب هو ما ليس شائعاً ولا مألوفاً ولا مصوغاً في قوالب مستهلكة، بما يعني أن الرسالة لا تعد شعرية إلا إذا انزاحت عن سنن اللغة، أي أن النثر قاعدة والشعر انزياح عنها لرصد مجالات الشعرية فيه، وهذا ما يتحقق عبر اللقطة الشعرية التي هي انزياح عن النثر عبر تمثلها في اللفظة الشعرية غير النثرية. نزار قباني يصف الحب/ القصيدة في كتابه «كتاب الحب» هذا بأنه: يماثل ملامح عصرنا من سرعة وإيجاز وتوتر وكثافة، وهذا يتطابق تماماً مع مفهوم سوزان برنارد حول أسس قصيدة النثر والتي هي «الإيجاز والكثافة والمجانية أي اللازمنية والمفارقة « ويتمثل ذلك في نص لقباني: عيناك مثل الليلة الماطرة مراكبي غارقة فيها كتاباتي منسية فيها أن المرايا ما لها ذاكرة ويبدو هذا النص الشعري متكون من نصين شعريين في إطار من القصر، حيث أن ما استغرق نزار قباني هنا هو الإيجاز والتكثيف والتماثل في القافية والمفارقة. أما النصان الشعريان داخل هذا النص فهما «عيناك مثل الليلة الماطرة/ مراكبي غارقة فيها». وهو النص الأول، في حين كان النص الثاني هو: «كتاباتي منسية فيها../ إن المرايا ما لها ذاكرة». وقد يسأل القارئ كيف قسمنا هذا المقطع برمته إلى قسمين، أعتقد أن الجوانب التركيبية والدلالية والصوتية جميعها تقود إلى هذا التقسيم، إذ الليلة الماطرة تستدعي غرق المراكب، والكتابات المنسية تستدعي الذاكرة المفقودة في المرايا، أي أن هناك جانباً «دلالياً» يستدعي ارتباط كل معنى مع ما يماثله حيث ارتبط المطر بالغرق في النص الأول والنسيان بالذاكرة في النص الثاني. أما على المستوى التركيبي فإن خطاب نزار للعينين الماطرتين انتهى بجار ومجرور «فيها» والكتابات المنسية انتهت بالذاكرة المفقودة للمرايا وبهذا يصبح تركيب النصين (1) و(2) في القصيدة بمجملها. .......الماطرة .......فيها .......فيها .......ذاكرة أي ما ابتدأ به القسم الأول «التاء في الماطرة» انتهى به القسم الثاني في «التاء في الذاكرة» وتجاور التماثل «فيها وفيها» في تماس النص (1) و(2). أما على المستوى الصوتي فإن التماثل قد تحقق بفعل الجار والمجرور «فيها» وتماثل الاشتقاق.. «ماطر وذاكر» على زنة «فاعل» وهما ركيزتا النصين اللذين اجتمعا في نص واحد. أسس الشعرية وعودة إلى إشارات النقد العربي فإننا نذكر بمفاهيم قدامة بن جعفر حين أكد على علاقات التوافق والانتظام بين العناصر المكونة للشعر كائتلاف القافية مع اللفظ وائتلاف الوزن مع اللفظ واللفظ مع المعنى، أي إمكانية خلق علاقة داخلية بين عناصر النظم التي هي معيار تشييد الشعرية، كون اللغة التي انتظمت تقوم على أساس أنها شكل تركيبي يولد عنه نظام متعالق «راجع.. مفهوم النظم العربي والشعرية». ومثلما حدد جان كوهن أسس الشعرية باللغة ضمن إطار الشكل باعتبار اللغة شكلا لا مادة فإن نزار قباني في قراءة شعره أو لنقل في مقدمة «كتاب الحب» قد أكد: «أن قصيدة تتألف من بيتين.. كانت تأخذ مني شهرين من العمل» بما يعني أنه يعني باللغة في قوله «قصيدة من بيتين» بحساب صناعة هاتين البيتين لغوياً «شكلاً» لا موضوعاً. لذا نقول إن اللعبة الشعرية التي يتحدث عنها نزار قباني والتي وصفها بلعبة إشارات ضوئية لا تتم إلا عبر اللغة الموجزة الموحية التي تشير وتومئ ولا تصرح للنص. وأظن من خلال ذلك عندما تحدث نزار قباني بما أطلق عليه «وجع الإيجاز.. وجع إدخال الحياة كلها في خرم إبرة» كأنه أراد الحديث عن المعادلة الشعرية أي مجانسة اللغة للموضوع بما يعني التوافق بينهما، ولأن نزار قباني يجنح نظرياً كما في مقدمة «كتاب الحب» وشعرياً كما في نصوصه الـ52 نصاً إلى الإيجاز باعتباره يمتلك أسلوباً برقياً في مخاطبة الآخر «الحبيبة» فإنه بهذا الإيجاز يصل إلى حد الصمت وكأنه بذلك يمتثل للمقولة «الصمت أبلغ» فيقول: لأن حبي لك فوق مستوى الكلام قررت أن أسكت.. والسلام. وهذه القصيدة الأخيرة من ديوانه «كتاب الحب» والتي تعبر عن مستوى عال من الإبلاغ الشعري الذي يريده نزار قباني. وفي هذا الإطار حاولت أن أؤكد أن نزار قباني في مقدمته وفهمه للشعر وما يريد أن يشيده أو ما حاول أن يكتبه في ديوانه «كتاب الحب» قد قارب في بعض من مفاهيمه ومصطلحاته آراء واجتراحات المدارس والنظريات الحديثة. ولتأكيد وعي نزار قباني بما يتحدث عنه من طبيعة نظام شعري يحاول الوصول إليه وكأنه بذلك يحاول جاهداً كتابة «نشيد الإنشاد» تراه يتحدث وهو يعي تماماً الفصل بين الشكل الشعري والمضمون، بما يدلل على عمق نظرته لبنية القصيدة، حيث يعتبر جمالية الشكل معيار حداثتها، مادام المحتوى وجهة نظر الشاعر للعالم. إن الشعرية لدى نزار قباني هي الارتقاء بمستوى اللغة في القصيدة، ومدى انسجامها التركيبي والدلالي والصوتي. كتاب الحب محاولة لكتابة القصيدة بشكل جديد وإلباسها ثوباً عصرياً ومريحاً وعملياً اشتراطات القصيدة لدى نزار الاختصار والتكثيف أما وظيفة الشعر فهي منح المتلقي طاقة شعر دون التدخل في التفاصيل وتضع في إصبع القارئ خاتم سليمان وتدعه يستحضر المارد يـدكِ يدكِ التي حطت على كتفي كحمامة نزلت لكي تشرب عندي تساوي آلف أمنية يا ليتها تبقى ولا تذهب الشمس نائمة على كتفي قبلتها آلف ولم اتعب *** تلك الجميلة كيف أرفضها من يرفض السكنى على كوكب قولي لها تمضي برحلتها فلها جميع ما ترغب تلك الجميلة كيف أقنعها آني بها معجب *** يدك الصغيرة طفلة هربت ماذا أقول لطفلة تلعب أنا ساهر و معي يد امرأة بيضاء هل أشهى وهل أطيب أين أذهب؟ لم أعد داريا.. إلى أين أذهب كلَ يومٍ.. أحس أنك أقرب كل يوم.. يصير وجهك ُجزءاً من حياتي.. ويصبح العمر أخصب وتصير الأشكال أجمل شكلا وتصير الأشياء أحلى وأطيب قد تسربتِ في مسامات جلدي مثلما قطرة الندى.. تتسرب اعتيادي على غيابك صعبٌ واعتيادي على حضورك أصعب كم أنا.. كم أنا أحبك حتى أن نفسي من نفسها.. تتعجب يسكن الشعر في حدائق عينيك فلولا عيناك.. لا شعر يكتب منذ أحببتك الشموس استدارت والسموات.. صرن أنقى وأرحب منذ أحببتك.. البحار جميعا أصبحت من مياه عينيك تشرب حبك البربري.. أكبر مني فلماذا.. على ذراعيك أصلب؟ خطأي.. أنني تصورت نفسي ملكا، يا صديقتي، ليس يغلب وتصرفت مثل طفل صغير يشتهي أن يطول أبعد كوكب سامحيني.. إذا تماديت في الحلم وألبستك الحرير المقصب أتمنى.. لو كنت بؤبؤ عيني أتراني طلبت ما ليس يطلب؟ أخبريني من أنت؟ إن شعوري كشعور الذي يطارد أرنب أنت أحلى خرافة في حياتي والذي يتبع الخرافات يتعب
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©