الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المال يطرد الحب

المال يطرد الحب
24 فبراير 2012
نورا محمد (القاهرة) - لا نخجل من عمل أبي فهو ماسح أحذية يحب الشتاء لأن الرزق يكون فيه كبيراً بسبب الأمطار والأوحال، وفي الصيف لا بأس بالأحوال، لكن المهم أنه يفيض بالحب والحنان ويشعرنا دائماً بأننا في غاية الغنى والثراء ولا ينقصنا أي شيء وان كنا لا نجد شيئاً ولا نحصل إلا على الضروريات وأمي خبيرة بتدبير شؤون البيت وحرت كثيراً في كيفية تصرفها وهي توفر لنا الطعام وتخترع لنا ما يشبع بطوننا بأقل القليل الذي بين يديها ومن دون أن تكون من هؤلاء النسوة اللاتي لا تتوقف مطالبهن من أزواجهن إنما كانت على العكس من ذلك لا يخيل إلينا أننا نملك الدنيا كلها ولا ينقصنا أي شيء وإذا حاول أبي أن يعبر عن عجزه وقلة حيلته راحت ترده عن ذلك بأننا بحمد الله أفضل من غيرنا والأمور تسير. بيتنا إن جاز التعبير أن نطلق عليه اسم البيت هو عبارة عن غرفة من الصاج والخشب القديم فوق سطح بناية يملكها أحد أقاربنا من بعيد وسمح لنا بهذا «البناء» الذي كان يأوينا وإن لم يكن يمنع الأمطار التي تنهمر علينا خلال أشهر الشتاء أما في الصيف فهو قطعة من جهنم والحر لا يطاق والرطوبة تخنقنا سبعة أفراد ننام متلاصقين بجانب الأثاث الذي لا يزيد على خزانة للملابس تعود إلى العصر الحجري القديم وموقد بدائي تخنقنا أدخنته وبعض الأواني التي أكلها الصدأ. كنت الوسطى بين إخوتي الخمسة يكبرني ولدان وتصغرني بنتان أخي الأكبر لم يعرف طريق المدرسة ومنذ طفولته وهو يصحب أباه في عمله يجلس بجواره يناوله بعض أدواته وعندما أصبح صبياً يمكن أن يعتمد عليه مارس نفس مهنة أبيه على مضض إلا أنه لا يعرف غيرها فاحترفها مضطراً وأصبح يأتي بالقليل مما يتكسبه ويحاول أن يحتفظ به لنفسه إلا أن أمي تمارس ضغوطها عليه وفي النهاية لا تحصل منه إلا على أقل القليل وبشق الأنفس وأبي يحاول أن يدافع عنه بأن تتركه يتصرف فيما اكتسب كما يريد. أما أنا وبقية إخوتي فقد التحقنا بالمدرسة المجانية وكثيرون حولنا في مثل ظروفنا أو معظمهم ليسوا أحسن حالاً منا، لذلك لم نشعر يوماً بالنقص أو الفوارق الاجتماعية خاصة في الملبس أو المصروف وان كان هناك بيننا من هم في مستوى أفضل إلا أننا لا ننظر اليهم ولا نبالي بذلك فقد اعتدنا كما تربينا ألا ننظر إلى ما في أيدي غيرنا كان للحب الذي يرفرف فوق أسرتنا أثره البالغ في هذه المشاعر فأمي مثل الدجاجة التي تضم أفراخها تحت جناحيها وتواجه كل الأخطار والصعاب من أجلهم وأبي هذا الرجل الحالم لا يفقد الأمل لحظة في أننا سنكون في أحوال أفضل وهو يلقي بالأمنيات تحت أرجلنا ويفتح أمامنا أبواب الأمل في غد أفضل فنتعلق به خاصة وهو يقص على مسامعنا حكايات ومواقف صعبة كثيرة واجهته في حياته وأصبح بعدها في وضع أفضل من السابق فيدفعنا دفعا إلى حب الحياة فلم نعرف اليأس ولا نخاف من المستقبل. لا أنسى هذا اليوم الذي جاء فيه أبي فرحاً متهللاً يزف البشرى لأمي ولنا بأنه حصل على فرصة عمل في الخارج وإن كان سيعمل في غسل الأطباق والأواني في فندق كبير لكنها أحسن من حرفته الحالية في مسح الأحذية وكل ما يحزنه انه سيكون بعيداً عنا فقد يقضي أكثر من عام ليحصل على إجازة إلا أننا جميعا كدنا نطير فرحاً بتلك الخطوة التي لم تكن في الحسبان وهذا الفرج الذي جاء من السماء بلا تدبير منا وجعلنا نثق بما يقوله أبي بأن الغد سيكون أفضل ولم يمض على هذا اليوم أكثر من شهر حتى كان أبي يحزم ملابسه القليلة في «كيس» من البلاستيك ويغادرنا ونحن نودعه بالدموع والبكاء الحار كان أكثر الأيام حزنا في حياتي ظللت بعده لعدة أسابيع لا أهنأ بطعام ولا شراب إلى أن جاءت منه أول رسالة يحملها ساعي البريد بعد أكثر من ستة أسابيع فلم يكن لدينا هاتف من أي نوع حينها ووسائل الاتصالات لم تكن قد انتشرت وتقدمت بهذه الصورة أتذكر أمي وهي تمسك بورقة الرسالة وتقبلها وتبكي حتى بللتها بدموعها واختلطت حروفها وهكذا كانت حالها وحالنا مع كل رسالة تصل منه. أما عندما يأتي في إجازته السنوية فإنه يحمل إلينا الهدايا والملابس الفاخرة والأدوات والحقائب المدرسية التي جعلتنا ننتقل إلى مستوى أعلى وهكذا في كل عام ظهرت علينا آثار النعمة، لكن الأهم من هذا كله أننا خلال خمس سنوات انتقلنا إلى المسكن الجديد شقة بسقف وجدران وغرف مثل كل الناس إلا أن هذا التحسن لم يعجب من حولنا ومن يعرفوننا وكانوا دائماً يعيروننا بفقرنا وبأننا محدثو نعمة ولم يكن ذلك لخلاف بيننا، ولكن لمجرد أنهم يحقدون علينا ويستكثرون أن نعيش مثلهم وعبثا حاولنا أن نتجنبهم وهم يتفننون في اختلاق المشاكل والخلافات معنا. أمي لم تسرف أبداً في أموال أبي التي كان يرسلها لها أو التي يعطيها لها عند عودته إلا أن الجديد في الأمر أنه أصبح يضن عليها وتغير كثيراً وهو يحاسبها حساب الملكين عن كل فلس مع علمه أنها تحرم نفسها وقد تقتر علينا حتى تحافظ على جهده وعرقه أصبحت إجازته نكداً ومشاكل وبكاء من جانب أمي ويصل الأمر إلى أنه يغيب عن المنزل أو إلى حد أنه يقطع إجازته ويعود إلى عمله وأمي مغلوبة على أمرها لا تعرف كيف ترضيه ونحن نرى أنها لم تقصر أو تخطئ في شيء وهي تتحمل كل مسؤولياتنا وحدها فقامت بدور الأب والأم في آن واحد. ما زاد الطين بلة أن أخي الأكبر استقل بحياته بشكل مريب يختفي لأشهر ويعود دون أن نعرف عنه أي معلومات ولا يجيب عن أي سؤال ويتهرب من الجواب وأمي لا تثقل عليه حتى يستقر ولا يفر مرة أخرى إلا أنه كعادته يفاجئنا بفعلته ونحن بالكاد نسير في دراستنا وننتقل من عام إلى عام التحقنا جميعا بالتعليم المتوسط واستطيع أن أقول إننا فشلنا في تحقيق الأمل بأن ندرس في الجامعات والتعليم العالي. توقف أبي عن إرسال أي مبالغ لأمي ولنا، نضب معين حنانه وجف فيض الحب الذي كان يغرقنا من قبل وانقلبت أحوالنا رأساً على عقب ونحن لا نعرف سبب التحول الكبير الذي أصاب أبانا وجعله يتصرف بتلك الطريقة لم يعد يهمه بكاؤنا ونحن نستجديه أن يعود وأننا نريده ولا نريد أمواله لكنه لا يكلف نفسه معاناة الرد واضطر أخي الأصغر لأن يعمل في مطعم ليساعد أمي التي لا حيلة لها في مصروفات البيت التي كانت ثقيلة وأنا نفسي اضطررت للخروج إلى العمل لأقوم بدوري في تحمل مسؤولية الأسرة وأخي الأكبر عندما يعود يلقي لامي ببعض ما يملك لكنه الآن يريد أن يتزوج وطلب مساعدة أبيه الذي يسوف ويعد ولا يفي. الغريب أن أبي الآن يملك الكثير من المال إلا أنه لا يخرج منه إلا بالقطارة بما لا يشبع من جوع ولا يروي من ظمأ فقط يجعلنا ننظر إليه وننتظر ونترقب ونحسن الظن به بأنه ربما يكون يفعل ذلك من أجل تأمين مستقبلنا وزواجنا فقد أصبح معظمنا على أبوابه ونحتاج إلى مبالغ ضخمة وان كان ذلك لم يكن وسيلته في التفكير من قبل لكن إذا عرف السبب بطل العجب فقد اكتشفنا المصيبة وصدق إحساس أمي فقد تزوج أبي بأخرى بعدما جرت الأموال بين يديه كانت تلك مكافأتها على الصبر والسنين العجاف التي وقفت فيها بجواره وآزرته وحملت ما تنوء بحمله الجبال ولا أقول ذلك من باب العاطفة أو حبي لأمي وإنما لأنني عايشت كل معاناتها خلال أعوام الشدة والرخاء لذا لم نكن أنا وإخوتي مخطئين عندما أعلنا مقاطعة أبي الذي عاد بسلامة الله إلى أرض الوطن واستقر وافتتح محلاً يدر عليه عائداً كبيراً وحاول أن يسترضينا، لكن الأمر ليس بأيدينا وإنما بيد أمي التي كان لها موقف محدد إما أن يطلقها وإما أن يطلق ضرتها التي أخذت وجنت كفاح العمر بكل سهولة ونحن لا نرى أنها تبالغ في مطلبها إلا أن أبي بدأ يتولى الإنفاق علينا من جديد وان كنا لا نريد المال قبل الحب والحنان الذي افتقدناه وأخي الأكبر ما زال بعيداً عن كل هذه الأحداث كأنها لا تخصه وقد تزوج من فتاة وأقام لدى أسرتها دون أن يكون لنا أي دور ولم نعلم إلا بعدها بعدة أشهر. بسبب هذه الأجواء فشلت خطبتي عدة مرات لأن الشباب يرون أننا أسرة مفككة وبلا كبير ولم يكن لي ذنب أبداً في أن أتحمل تبعات تصرفات أبي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه وما حدث ذلك إلا بعد أن جرت الأموال بين يديه وتغيرت صورته في عيوننا ولا أكذب إذا قلت أنني أتمنى أن تعود إلينا أيام الفقر كما كانت إذا عادت معها السعادة والترابط والحب التي افتقدناها ويمكنني أن أجزم أن الفقر نعمة لأمثالنا لم نشعر بها إلا بعد أن عرفنا نقمة الغنى والمال، أريد أبي وأمي وإخوتي والاستقرار حتى لو كنا في بيت «الصفيح» لأنه كان أقوى من بيوت الحديد والإسمنت والبنايات العالية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©