السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في خدمة العجائز

في خدمة العجائز
26 ابريل 2008 22:24
كنت أتصور أن حظي سيسعفني هذه المرة أيضاً كما تعودت دائماً في حياتي، ولكن يبدو أن بطارية الحظ لا تعمل لدي إلا في بلدي، ماذا أفعل؟ كنت أحلم بأن أعمل في قصر كبير من قصور الأغنياء، يكون مليئاً بالخدم والعمال من مختلف الجنسيات، وبما أنني أجيد فن المساج والتدليك فسيكون نصيبي من الإكراميات والهدايا كبيراً، بعد أن أعرض خدماتي على سيدتي فتقربني منها دوناً عن البقية· فوجئت أن نصيبي في هذا البلد هو العمل في بيت قديم لخدمة عجوزين تجاوزا التسعين من العمر· أصبت بصدمة كبيرة، اعترضت وطلبت تغيير المكان ولكن مسؤول مكتب العمالة نصحني بعدم التسرع، فالعمل مع العجوزين هو فرصة جيدة تحلم بها كل الخادمات، لأن الخدمة ستكون أقل بكثير من البيوت المليئة بالأطفال، استمعت لنصيحته وقلت في نفسي: ستمر السنتان بأي حال ثم سأجرب حظي في مكان آخر· الصعوبة الأولى التي واجهتها في هذا البيت هو اللغة، فقد كان علي تعلم اللغة العربية لأنها الوسيلة الوحيدة للتفاهم مع العجوزين، فتجاوزت هذه العقبة بذكائي النادر، ثم بدأت بالتعرف على نظام العمل ومواعيده، فتسهلت الأمور بالتدريج، ولكني كنت أشعر بالحسرة طوال الوقت لأنني مضطرة لمقابلتهما طوال اليوم، شيء مضجر أن ألبي أصوات النداء كل دقيقتين، لديهما جرس تضغط المرأة العجوز عليه لدعوتي، فأركض إليها، فلا أجد عندها حاجة أو طلبا سوى أنها تريد أن تطمئن على وجودي في البيت· كنت أحب أن أقضي وقتي خلف البيت لمراقبة البط والدجاج والعصافير والقطط في تلك الأرض التي تركت بلا عناية، والتي تزينها بعض النخلات، وشجرة توت وشجرتا لوز، ولكن العجوز لا تعطيني فرصة فتطلبني وتسألني عن مكان وجودي وتطلب مني أن أجلس معهما في الصالة· كنت أقدم لهما الطعام فيتناولا وجبتهما ببطء شديد مع أصوات (طرقعة) الأسنان المتحركة الذي يثير أعصابي، فتنتابني رغبة قوية في مغادرة المكان، فأتحجج بأي شيء وأخرج قليلاً لاستنشاق الهواء· الغريب أن هذين العجوزين كانا يستمتعان بحياتهما ولا يشتكيان، وقد كنت معتقدة بأن الإنسان عندما يكبر سيجد صعوبة كبيرة في مواصلة الحياة، خصوصاً بعد أن يفقد معظم حواسه، فهذا العجوز مثلاً لا يستطيع أن يتحرك إلا بصعوبة بالغة، تحمله ساقاه إلى الحمام لقضاء حاجته، خصوصاً وأنه قد فقد بصره منذ سنين طويلة، أما المرأة فهي فاقدة للسمع تقريباً، وساقاها لا تساعداها على الحركة إلا بصعوبة، فلا أدري كيف يتم التفاهم بينهما، وقد كنت أستغرب عندما تبدو السعادة على وجهيهما بمجرد اتصال من أحد أبنائهما أو إذا دخل عليهما أحد من الجيران أو الأقارب، فهما يتحدثان طوال الوقت عن ذلك الأمر وكأنه حدث سعيد· الرجل العجوز كان يحب الاستماع إلى الأخبار، ولا أدري هل يستوعب ما يقولونه أم أنها مجرد تعود، أما المرأة فهي تحب مشاهدة الأفلام الوثائقية عن الحيوانات، كانت تضحك بسعادة عندما تتصارع صغار الحيوانات فيما بينها· بجانب كل منهما كيس مليء بالأدوية، ولا أعرف كيف كانا يضبطان مواعيد تناول تلك الأدوية، فهما لا يتقيدان بساعة معينة، وإنما يعتمدان على الشعور بالحاجة لدواء معين· أكثر ما كان يزعجني ويثير تقززي هو عندما كان العجوز يدخل أصبعه في أنفه ويبدأ بتحريكه لفترة طويلة ثم يبدأ بالعطاس تعقبه كحة طويلة يتجمع على أثرها البلغم في حلقه فيخرج من جيبه ورقة كلينكس فيبصق بداخلها ثم يطويها بعناية ويعيدها إلى جيبه، أمر يبعث على الجنون، كنت أتمنى أن أصبح يوماً فلا أرى هذين العجوزين مرة أخرى أبداً، وقد كنت معتقدة بأن هذا الشعور حقيقي وهو غاية ما أتمناه ولكن ما حدث هو غير ذلك، فبعد أن مرضت العجوز مرضاً شديداً ثم ماتت، جاء أولادهما فدفنا الأم وأخذا الرجل ليعيش عند أحدهم ثم خيراني بين البقاء للعمل في بيت آخر أو العودة لبلدي، عندها طلبت العمل فكان نصيبي هو العمل في بيت عائلة مليئة بالأولاد، كباراً وصغاراً، في عمل مستمر لا ينتهي ليل نهار، هنا تذكرت فترة عملي مع العجوزين فوجدتها مريحة، ووجدتني أشتاق كثيراً لرؤيتهما من جديد، وأحياناً فإنني أبكي عندما أتذكر موت المرأة، وأفكر أيضاً بالرجل وما هي أحواله وكيف يمضي أيامه بعد رحيل زوجته؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©