السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشِّعْرُ أدْمَنَ النَّظَرَ إلى أبْعَدَ.. وإلى أَعْلى

الشِّعْرُ أدْمَنَ النَّظَرَ إلى أبْعَدَ.. وإلى أَعْلى
29 مارس 2017 21:45
إعداد وتقديم - عبير زيتون سأقول لكم: إن المختارات تنطوي دائماً على خدعة، ففي وسع من يختار أن يصنع بشاعره ما يشاء: أن يختار البؤرة المشعة في القصيدة تاركاً جانباً ما تُحدق إليه من ظلام، مهملاً سياقها العام... سياق القصيدة وموقعها من شعر الشاعر. وفي وسعه أيضاً التركيز على صورة، أو استعارة، أو خلاصة، أو حكمة شعرية... منحازاً إلى طريقته في فهم الشعر. وهكذا، يبقى السؤال مثيراً للشكوك: هل نستطيع التعرف إلى حقيقة الشاعر الشعرية من خلال المختارات؟ سيبقى الجواب نسبياً وقابلاً للتضليل. إن ما يعنيني في هذه المختارات، هو أن تكون أمينة وصادقة في تمثيل تجربتي الشعرية وتطورها، زمنياً وجمالياً، كما هي في بحثها عن الشعر في القصيدة، وفي بحثها عن القصيدة في الشعر. هكذا يكتب الشاعر الفلسطيني العربي الكبير محمود درويش (13مارس 1941/‏ 9 أغسطس 2008) وهو يُعد أرض القصيدة، لعلها تستريح من تعب، نحو لغة أعلى تسمو بإنسانيتنا، وتعلي من الفرح الغامض فينا، ينتصر فيها الجمال والحب... كأثر الفراشة الذي لا يُرى، ولا يزول... يستدرج المعنى، ويرحل حتى يتضح السبيل. هذه الشذريات مستمدة من ديوان «حيرة العائد/‏ مقالات مختارة». أنا المسمى «شاعراً فلسطينياً» أو «شاعر فلسطين» مطالب – منّي ومن شرطي التاريخي ــ بتثبيت المكان في اللغة، بحماية واقعي من الأسطورة، وبامتلاكهما معاً لأكون جزءاً من التاريخ وشاهداً على ما فعله التاريخ بي في آنٍ واحد. لذا يتطلب حقي في الغد تمرداً على الحاضر، ودفاعاً عن شرعية وجودي في الماضي الذي ُزج به إلى المناظرة، حيث القصيدة دليلاً على وجود أو عدم. أما سٌكان القصيدة، فلا يكترث بهم مؤرخو الشعر. *** كنت أنتمي إلى جيل وقف مذهولاً أمام فوضى القيامة. فقط انكسر المكان، بما فيه من سيرة وكائن، وأحدث ما يشبه القطيعة بين الذات وأبعادها، وما بين الحاضر والأمس. وحين كنا نتطلع إلى مصائرنا القادمة إلينا، واحداً واحداً، كان شكل الجماعة يتكثف كالشبح القادر على امتلاك المكان، وعلى مغادرته في آن واحد. *** لم يكن جيلي المحاصر ثقافياً، آنئذ، شديد الإصغاء لدوي الانفجار العميق في الحياة الثقافية العربية، وفي بنية القصيدة الباحثة عن ذاتها الجديدة ورؤاها الجديدة، في علاقتها وتعبيرها معاً، بالبنى العربية المحتقنة بالصراع الاجتماعي والطبقي والوطني. ولم يكن أيضاً شديد الإصغاء لصراع الخيارات الشعرية وتوتر البحث عن مرجعيات التجديد. حين بدأت الكتابة، كنت مسكوناً بهاجس التعبير عن خسارتي، عن حواسي، عند وجودي المحدد، وعن ذاتي في محيطها وجغرافيتها المحددين، دون أن أنتبه إلى تقاطع هذه الذات مع ذات جماعية. ولكن قصتي الشخصية، الاقتلاع الكبير من المكان، كانت قصة شعب كامل، لذلك وجد القراء في صوتي الخاص صوتهم الخاص العام. *** حين أتذكر الآن تلك المرحلة، أتذكر قدرة الشعر على الانتشار حين لا يطلب العزلة هدفاً ولا يطلب الانتشار أيضاً. فلا الانتشار ولا نقيضه يصلحان معياراً للحكم على جمالية الشعر. *** يهمني كثيراً أن أطور شعري بطريقة نوعية. ولكن هل يمكن فصل ذلك عن الحالة التراكمية؟ لا أدري. وهكذا أرى في مرحلة المنافي امتداداً للصوت الذاتي/ الجماعي على أرض عمل أخرى، أوسع في الجغرافيا وفي التنوع الثقافي واللغوي، يرافقها تطور في المعرفة، وإعادة نظر دائماً في مفهوم الشعر، واقتراب من الإدراك الشعري للتجربة الإنسانية. *** إن صبر المسافة، ومساحة التأمل من بعيد، توفر للشاعرية فرصة للتخفف من درجة حماسة اللغة، وفرصة النظر إلى ذاتها وأدواتها بطريقة أبرأ وأهدأ من ناحية، وتحملها من ناحية أخرى أعباء استحضار المكان بذاكرته وعناصره خالياً من الغبار ومن الروتين! *** إنني شديد الإصغاء إلى حركة الزمن، وإلى إيقاعات المشهد الشعري العالمي، لا أتوقف عن التدرب على كيفية الاقتراب من توفير حياة خاصة للقصيدة بشرطها التاريخي وباستقلالها عنه معاً. ولا أتوقف عن تدريب القصيدة على الاقتراب من سلالتها الأسطورية، لا بالاعتماد على رموزها فقط، بل بإنجاز بنيتها الأسطورية المعاصرة من عناصرها الذاتية. *** في سياق السفر الواحد من الذات إلى العالم، في هذا السياق المتعدد اللغات والمناطق ودرجات التطور التاريخي، تتوحد التجربة الشعرية الإنسانية، وتحقق «عولمتها» الخاصة بها، متحررة من هيمنة المركز وتبعية الطرف، بإسهام كل محلية شعرية في صوغ ما نسميه الشعر العالمي. *** لا غموضي ولا وضوحي هو ما أنقذ شعري من القطيعة مع قارئ يجددني وأجدده. فمن مفارقات تجربتي الشعرية أنها كلما طورت أدواتها التعبيرية وأسلوبيتها، حفزت قارئها إلى القبول بالمزيد من التجديد، فتقاربت ذائقة الشاعر والقارئ الجمالية. ربما لأن اقتراحاتي الشعرية تنبع من سياق تاريخ الشعر العربي وإيقاعاته ومن داخل جماليات اللغة العربية. *** لكل شاعر طريقته الخاصة أو تقاليده في الكتابة، وأنا من أولئك الذين يكتبون النص مرتين: في المرة الأولى تقودني سليقتي الشعرية ولا وعيي. وفي المرة الثانية يقودهما إدراكي لمتطلبات بناء القصيدة. وغالباً ما لا تشبه الكتابة الثانية صورة الكتابة الأولى، لا تشبهها أبداً. *** إن أحد تدريباتي على امتحان قصيدتي هو أن أنساها لفترة طويلة. وحين أعود لزيارتها للتحقق من طبيعتها الشعرية، أحكم عليها بمدى الشبه بينها وبيني. فإذا تعرفت إليها من الوهلة الأولى، أدركت أنها تقلدني أو أنني أقلد نفسي. أما إذا أحسست بأن شاعراً آخر هو الذي كتبها، متجاوزاً الشاعر الذي كنته، أدركت أنها قصيدة جديدة. *** قليلون هم الشعراء الذين يولدون شعرياً دفعة واحدة. أما أنا، فقد ولدت تدريجياً وعلى دفعات متباعدة. وما زلت أتعلم المشي العسير على الطريق الطويل إلى قصيدتي التي لم أكتبها بعد. *** لا أستطيع أن أضع الضمير في مواجهة لا مبرر لها مع الجمالية، ولا أستطيع أن أخون حواسي كلها، أو بعضها، لأنتمي إلى جسد حداثة مشوهة يغير اسمه وملامحه في كل لحظة. ولكني، وأنا مثقل بما لا يعنيني، أعرف كيف أموت وأولد في سياق قصيدة لا تبحث، وهي تكتب، عن هدف سوى شعريتها، التي لا تستطيع أن تتحرر من ضغط تاريخها إلا في تجدد تاريخيتها، من خلال الاندماج فيها، لا الاغتراب عنها. *** سيبقى سؤال الحداثة في المجتمع العربي المطحون بأسئلة وجوده الأساسية متأزماً وغريباً، إذا لم يوضع في سياق التحرر. وهكذا هناك ما هو أسوأ من الشعر بمعناه المباشر، إلا وهو الإفراط في تعالي الشعر عن قضاياه بمعناها العميق، أي الإصغاء إلى حركة التاريخ، والمشاركة في اقتراحات المستقبل. فتلك هي سياسة مضادة تغيب الشاعر عن فضائه الجيو-سياسي، وتعزله عن الكينونة المشتركة وعن المجتمع. *** هل نحن في آخر الشعر؟ كلا. فما لا نعرف أوَله لا نعرف نهايته. ولكن الشعر أيضاً في حاجة إلى أزمات لكي يعرف ماهيته، ويتطور إلى ما لانهاية. *** إذا كان الشعر صراعاً ضد الموت، بتأويلاته ومستوياته المتعددة، فإنه أيضاً صراع ضد ذاته، ضد موته الاختياري حين يصبح تقليدياً ونمطياً ومألوفاً، وحين يطمئن إلى أشكاله واستعاراته الجاهزة وخياله المرَوَّض. *** الشعر يوفر لنا هامش حرية وتعويضاً مجازياً عن عجزنا عن تغيير الواقع، ويشدنا إلى لغة أعلى من الشروط التي تقيدنا وتعرقل الانسجام مع وجودنا الإنساني، وقد تساعدنا على فهم الذات بتحريرها مما يعيق تحليقها الحرفي فضاء بلا ضفاف. *** علاقة الشعر بالوطن لا تتحدد بإغراق الشعر بالشعارات والخريطة والرايات. إنها علاقة عضوية لا تحتاج إلى برهان يومي، فهي سليقة ووعي وإرادة. ميراث واختيار. مُعطى ومبدع. والشعر الوطني الرديء يسيء إلى صورة الوطن. *** إن استيعاب الشعر لقوة الحياة البديهية فينا، هو فعل مقاومة، فلماذا نتهم الشعر بالردة إذا تطلع إلى ما فينا من جماليات حسية وحرية خيال وقاوم البشاعة بالجمال؟ إن الجمال حرية والحرية جمال. هكذا يكون الشعر المدافع عن الحياة شكلاً من أشكال المقاومة النوعية. *** كنا دائماً نؤمن بأن الغد أجمل. لكن التاريخ يفاجئنا دائماً بخيبة أمل جديدة، تغري الشاعر بمديح أمس. بيد أن الشعر لا يمتثل إلى هذه المحنة، لأنه أدمن النظر إلى أبعد... وإلى أعلى!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©