الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإعلام والثقافة تباين الأجِنْدات

الإعلام والثقافة تباين الأجِنْدات
29 مارس 2017 21:26
الإعلام والثقافة عنصرا تنوير بامتياز. هذا يقوم بتنوير الرأي العام، إخباراً وتزويداً وتمكيناً من المعلومة، وتلك تقوم بتنويره أيضاً، من خلال الرفع من منسوب وعيه في الزمان والمكان. وهما عنصرا تنوير بامتياز أيضاً، من زاوية تأثيرهما في السلوك العام ومن منظور قدرتهما على مطاولة الأخلاق ومنظومات القيم. وهما، فضلاً عن كل هذا وذاك، عنصرا معادلة لا يستقيم لأحدهما من عضد إذا لم يستند إلى عضد الآخر. إذ الإعلام الآني والعابر لا يؤسس لثقافة، وثقافة متعالية، متخصصة في التنظير العام والتجرد المبالغ فيه، لا تستطيع الوصول للجماهير الواسعة، إذا هي لم تقتن أدوات الإعلام التي تضمن لها الرواج وتكون وسيطها لبلوغ المتلقين. بيد أن الأمر لا يتجاوز كثيراً هذه الجزئية، إذ لكل من الإعلام ومن الثقافة، كل فيما يخصه، زمنه ووظيفته وأدواته في التفاعل والفعل. إن زمن الإعلام هو زمن السرعة والآنية، زمن اللحظة، بمنطوق سوسيولوجيا الإعلام. إنتاج المادة الخبرية يتماهى هنا تقريبا أو يكاد مع استهلاكها. في حين أن زمن الثقافة هو زمن المدى المتوسط والبعيد، مدى استقرار المادة الخبرية واختمارها، مدى سريانها في النفوس والخواطر قبلما تنتقل لتستقر في العقول. وزمن الإعلام هو زمن الإثارة والتشويق، لأنهما جوهر الدورة الاقتصادية والتجارية للمنبر المكتوب، للمحطة المسموعة وللقناة التلفزيونية المرئية. الإعلام مطالب هنا ليس فقط بعكس ما يروج من مواد خبرية تضمر الإشاعة والإثارة، بل مطالب بتأجيج نعرتها، لأن بيد هذه الأخيرة مداخيله وأرباحه. في حين أن رهان الثقافة رهان آخر، مختلف. فهي لا تضع صوب أعينها النفخ في الأحداث، بل تعمل على وضعها في سياقها، على تبيئتها وتشكيل مضامينها لتصبح جزءاً من المعنى. ألا يقال بأن السياق يحيل ويفضي للمعنى؟ ثم إن زمن الإعلام هو زمن الاستهلاك العابر للمادة الخبرية وللمعلومة بكل أشكالها وأنواعها وأحجامها...المادة هنا سلعة بامتياز، تستهلك وتدمر، كما تستهلك وتدمر كل السلع والخدمات الجارية. هذا في الوقت الذي تعمد الثقافة إلى إعمال مبدأ التراكم الذي هو، بالبداية وبالمحصلة النهائية، تخزين للمعارف والتجارب والقيم والتمثلات... هذا يشتغل على الحدث في الوقت الذي يشتغل الآخر على المعرفة. هذه المعطيات الثلاثة التي قدمنا لها ببداية هذه المقالة، إنما سقناها للتدليل على التالي: = للإعلام والثقافة سياقاتهما المختلفة والخاصة، = ولهما وظائفهما وأدوارهما المتميزة وإلى حد ما المتمايزة، = ولهما فضلا عن ذلك، «أجنداتهما» كل فيما يعنيه ويخصه. بيد أن ذلك لا ينفي أن بين الإعلام والثقافة تداخلات كبرى، لا بل قل تقاطعات، تجعل من حقل هذا ينهل من حقل ذاك بهذه الصورة أو تلك. فمادة الإعلام هي نفس المادة تقريبا التي تنطلق منها الثقافة، وإن من زوايا مختلفة. ورسالة الإعلام لا تختلف كثيراً، من زاوية الفعل في السلوك العام، عن رسالة الثقافة... ودور الإعلام يتقاطع كثيراً مع دور الثقافة، من زاوية مواجهة التحديات التي تطرح، أو التي من الوارد أن تطرح، أو التي من المفروض أن يعمد إلى استشرافها، من لدن الإعلاميين كما من لدن المثقفين سواء بسواء. التحدي التكنولوجي يبدو لنا، بالبناء على ما سبق، أن الدور التنويري للإعلام وللثقافة، كان دائماً ثابتاً لا على مستوى الفرد فحسب، بل أيضاً على مستوى الجماعات... بيد أن الحقلين معا أضحيا منذ تسعينات القرن الماضي تحديداً، موضع ثلاثة تحديات كبرى كان عليهما (ولا يزال) أن يرفعانها قبلما يتساءلا في رفع ما سواها من تحديات: التحدي الأول تحدي تكنولوجي خالص. وهو تحدٍ يحيل على الطفرة التكنولوجية التي طاولت ميدان الإعلام والمعلومات والاتصال، لا على مستوى الأدوات والبنى التحتية فحسب، بل أيضاً على مستوى إنتاج وتخزين وتوزيع وترويج واستهلاك المعطيات والبيانات والمعلومات. الإعلام هنا كان هو المحطة الأولى لهذه الطفرة. إنه كان (ولا يزال) القطاع الذي تمظهرت فيه الثورة التكنولوجية بقوة: تكاثر الفضائيات التلفزيونية لحد التخمة، انتقال معظم المنابر التقليدية لاقتفاء ناصية الشبكات الرقمية (الإنترنيت بكل أجياله)، ولوج العديد من المنابر إياها لعالم الشبكات الاجتماعية، وظهور الإعلام الجديد كمنافس حقيقي لأشكال الإعلام التقليدي التي عهدناها إلى حين عهد قريب. لا يمكن للمرء هنا أن يستخلص بأن «الوظيفة التنويرية» التي كانت لدى الإعلام من قبل قد تقلصت أو تضررت أو أصابها العطب... بالعكس، لقد بات فضاء الرواج والترويج للمادة الخبرية أكثر سعة وشساعة. وإذا كان هذا هو حال ومآل الإعلام، بعدما وضع على محك ثورة الشبكات الرقمية، فإن الثقافة بدورها لم تسلم من هذا المحك، على الرغم من أن التأثير كان نسبياً إلى حد ما. ربما يكون بريق الثقافة تراجع نسبياً، جراء وصول وسائل بديلة، من شأنها التقليص من الاهتمام بالمادة الثقافية. وقد يكون ذات البريق قد طاله بعض التقلص نتيجة ضغوطات المجتمعات الاستهلاكية. لكن المؤكد أنه كان لهذه الثورة أثر كبير على مستوى تداول المادة الثقافية المقدمة بهذا الشكل أو ذاك: ازدياد عدد الفضائيات الثقافية هنا وهناك، تداول المواد الثقافية على مستوى الإنترنت، وبروز مواقع رقمية تفاعلية لهذه المجلة الثقافية أو تلك، لهذه المؤسسة الثقافية أو تلك. وعلى هذا الأساس، فإن التحدي التكنولوجي، وإن كان قد أدى إلى اهتزاز الأدوار، وأسهم في زعزعة التوازنات، فإنه قد فسح في المجال واسعا أمام الإعلام والثقافة للرواج والانتشار على نطاق واسع، متجاوزا بذلك الحدود والقوانين والتشريعات. العولمة وأخواتها التحدي الثاني هو تحدٍ يحيل على ظاهرة العولمة التي طالت الإعلام كما طالت الثقافة سواء بسواء. لم يكن أثر وتأثير العولمة على المسألتين شبيها بالمطلق لأثر وتأثير الثورة التكنولوجية، لكنها (أعني العولمة) ركبت ناصية هذه الثورة لتنتقل بالإعلام من بعد القطري الضيق ليعانق البعد العالمي الواسع، ولتنتقل الثقافة من إطارها القومي الشبه مغلق، إلى عوالم كونية تكاد تنتفي الحدود من بين ظهرانيها بالجملة والتفصيل. بيد أن التحدي الجوهري الذي رفعته ظاهرة العولمة في وجه الإعلام والثقافة إنما يتمثل في البعد الاقتصادي والتجاري الذي أضفته عليهما، فبات الإعلام «سلعة إعلامية» وباتت الثقافة، بكل تشكيلاتها، «سلعة ثقافية» هي الأخرى. بيد أنه، بصرف النظر عن هذه الخاصية، فإن دور ووظيفة هذا كما تلك، بقي قارا وصامدا، لم يتغيرا إلا على مستوى الشكل، فيما بقيت الرسالة المروج لها هي ذاتها. التحدي المعرفي التحدي الثالث، هو تحدي معرفي بامتياز. ومفاده التساؤل التالي: هل استطاعت الثورة التكنولوجية وظاهرة العولمة حمل بعد تنويري لكل من الإعلام والثقافة؟ أم تراهما بقيا على مستوى القشور ولم يستطيعا النفاذ لجوهر الأمور؟ لا يستطيع المرء التحقق من نسبة ما ينصهر ضمن المعرفة، في ظل هذا الكم الهائل من المعطيات والبيانات العابرة للشبكات ومن ثمة للحدود...لكن الثابت من دراسات أن ما يترسب بالثقافة وبالمعرفة من هذه المعطيات والبيانات لا يتجاوز الـ 10 في المئة، أي أن 10 في المئة فقط هي التي يخزنها المرء، ويستطيع إدماجها في منظومته الثقافية والمعرفية، والقيمية في نهاية المطاف. الغزو الإعلامي والثقافي لنا هنا أن نتساءل: هل بمستطاع الإعلام والثقافة، باعتبارهما أداتي تنوير، أن يواجها التحديات المطروحة الكبرى؟ لو تسنى لنا الإجابة على هذا التساؤل، لوقفنا عند تحديين اثنين، لا بد أن يسائلا وبقوة، قدرة هؤلاء على مواجهة القادم من رهانات: = التحدي الأول ويحيل على ما بات يسمى منذ مدة بـ «الغزو الإعلامي والثقافي». وهي إشكالية مركبة لا يسمح المكان هنا للتفصيل فيها. بيد أن الثابت بهذا الخصوص، أن ثمة حقاً لا توازناً جوهرياً وعميقاً على مستوى الإنتاج الإعلامي والثقافي، يجعل من البعض منتجين، فيما البقية الباقية مجرد مستهلكين. الخطر لا يكمن في البعد الاقتصادي أو التجاري للظاهرة، بقدر ما يكمن في مدى مطاولته لمنظومات القيم والرموز والتمثلات لدى أفراد وجماعات البلدان المستقبلة. إن تيارات المعلومات والبيانات والمعطيات، المقتنية للفضائيات، كما تلك التي تتخذ من الشبكات الرقمية ناصيتها، ليست براء من المنظومة التي أنتجتها وتنتجها. إنها تعبير عن نمط حياة وعن سلوك وعن تمثل للذات وللآخر. ولذلك، فإنها لا تتعامل معها إلا في كونها كذلك. ثم إن المعارف والتجارب التي تعبر عنها هذه الثقافة أو تلك، إنما هي مصممة لها وبالارتكاز على منظومة معينة هي التي تؤسس لها المرجعية والخيط الناظم. صحيح أن ما يروج من معلومات ومعارف ومضامين ثقافية لا تخرج، بنظر منتجيها، عن كونها سلعا تنتج لتباع وتستخلص منها هوامش الربح. ولذلك، يقول هؤلاء، فإن وجهتها النهائية هي السوق وليس النفوس ولا العقول. وهو قول غير دقيق، لأنه حتى لو سلم المرء جدلاً بأنها سلع، فهي ليست كبقية السلع... إنها «سلع» من خاصية فريدة، كونها تخاطب مجال الأفكار وتلج منظومات القيم حيثما كانت ووجدت...إنها «سلع إدراكية»، يقول البعض. ولذلك، فأطروحات من قبيل «المجتمع الإعلامي الكوني»، و«مجتمع الإعلام الكوكبي» و«القرية الكونية الواحدة» إنما تنهل في جوهرها، من هذه المنطلقات... إذ غرضها بالمحصلة هو استنبات شروط «سوق كوني»، تلجه المعلومات والبيانات والمعارف والتجارب، كما تلجه باقي السلع الاستهلاكية العابرة. وهو ما لا يمكن أن تسلم منه الروافد الإعلامية والثقافية للبلدان المستقبلة. البعد التنويري للإعلام والثقافة هنا يكون آخر المفكر فيه. التحدي اللغوي أما التحدي الثاني فهو تحدي لغوي خالص. وهي مسألة يطول فيها الحديث أيضاً. لكن حسبنا القول بأن اللغة هي المعبر عن الفكر وعن الثقافة وعن المعرفة. عندما تكون لغة ما مهيمنة، في الإعلام أو في الثقافة أو فيهما معا، فمعنى ذلك أنها قد ولجت مجال السلوك ومجال منظومات القيم، فتصبح بالتالي عنصر تهديد ليس فقط بالنسبة لبقية اللغات، بل أيضاً لبقية أشكال التعبير والتفكير وتداول الرموز. المحصلة، بهذه الجزئية، هو أن الإعلام والثقافة المقتنيان للغة غير اللغة المتحدَّث بها، لا يمكن أن يساهما في عملية التنوير الذاتي، بل يبقيا رهينة عملية «تنوير خارجية» قد تكون سليمة الأبعاد، لكنها غير مضمونة من زاوية النتائج والتبعات. إن التحديات الراهنة والقادمة تستوجب توافر حد أدنى من الشروط، بإمكانها المساعدة إذا لم يكن لصد مدى التحديات، فعلى الأقل للتخفيف من وطأتها: أولاً؛ يجب على رجال الإعلام كما على رجال الثقافة أن يعترفوا بدورهم التنويري، ويبنوا رسالتهم على هذا الأساس. لو سلمنا بهذا الشرط، فسنسلم بأن هؤلاء سيعملون على توفير الرسالة قبل التساؤل في سبل ترويجها. وثانياً؛ يجب أن يتم تكريس الوعي بضرورة إنتاج مضامين إعلامية وثقافية بمعايير عالمية، وثالثا؛ يجب إيلاء أولوية قصوى للغة. اللغة هنا ليست وعاء، إنها تعبير وتمظهر قوي لمنظومة قيم، لهوية ولحضارة... القليل.. المعرفي لا يستطيع المرء التحقق من نسبة ما ينصهر ضمن المعرفة، في ظل هذا الكم الهائل من المعطيات والبيانات العابرة للشبكات ومن ثمة للحدود...لكن الثابت من دراسات أن ما يترسب بالثقافة والمعرفة من هذه المعطيات والبيانات لا يتجاوز الـ 10 في المئة، أي أن 10 في المئة فقط هي التي يخزنها المرء، ويستطيع إدماجها في منظومته الثقافية والمعرفية، والقيمية في نهاية المطاف. تنوير مستورد عندما تكون لغة ما مهيمنة، في الإعلام أو في الثقافة أو فيهما معاً، فمعنى ذلك أنها قد ولجت مجال السلوك ومجال منظومات القيم، فتصبح بالتالي عنصر تهديد ليس فقط بالنسبة لبقية اللغات، بل أيضاً لبقية أشكال التعبير والتفكير وتداول الرموز. المحصلة، بهذه الجزئية، هو أن الإعلام والثقافة المقتنيان للغة غير اللغة المتحدث بها، لا يمكن أن يساهما في عملية التنوير الذاتي، بل يبقيا رهينة عملية «تنوير خارجية» قد تكون سليمة الأبعاد، لكنها غير مضمونة من زاوية النتائج والتبعات. 3 تحديات كبرى الإعلام والثقافية أضحيا منذ تسعينات القرن الماضي تحديداً، موضع ثلاثة تحديات كبرى كان عليهما (ولا يزال) أن يرفعانها قبل ما يتساءلا في رفع ما سواها من تحديات: التحدي الأول تحدي تكنولوجي خالص. يحيل على الطفرة التكنولوجية التي طالت ميدان الإعلام والمعلومات والاتصال، والثاني يحيل على ظاهرة العولمة التي طالت الإعلام كما طالت الثقافة سواء بسواء، والمتمثل في البعد الاقتصادي والتجاري الذي أضفته عليهما، فبات الإعلام «سلعة إعلامية» وباتت الثقافة، بكل تشكيلاتها، «سلعة ثقافية» هي الأخرى. أما التحدي الثالث، فهو تحدي معرفي بامتياز. ومفاده التساؤل التالي: هل استطاعت الثورة التكنولوجية وظاهرة العولمة حمل بعد تنويري لكل من الإعلام والثقافة؟ أم تراهما بقيا على مستوى القشور ولم يستطيعا النفاذ لجوهر الأمور؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©