الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نحو علم اجتماع للقراءة

26 ابريل 2008 02:06
عندما تنبثق مسألة مكانة القارئ في النص، فقد تدور في أذهاننا طائفتان من المشكلات· فالقارئ يفكَّر فيه ـ طبقاً لأحد المقتربات ـ بوصفه غاية يتصوُّرها الكاتب الذي قد يُقرأ عمله ـ طبقاً لذلك ـ بالإحالة على الفكرة التي لدينا عن ذلك القارئ· وثمة عدد معين من الدراسات أغنت تاريخ النقد الأدبي بهذا المسلك مبيّنةً أن توقّعات جمهور معين يتوجّه إليه الكاتب كانت محددة لأغلب طبقات النص السردية· ضمن هذا المنظور يميل المرء لمقابلة أصل حقيقي (المخاطَب) بأصل مُتخيَّل (الكاتب) الذي يُنظر إليه بعدئذ بوصفه مجرد مموِّن للمعاني، وحالات الشعور بالرضا والارتياح التي يقوم آخرون بخلق طبيعتها المميزة· وهذا هو، على سبيل المثال، مقترب فريدريك أنتال في حقل الفنون التشكيلية· إذ يبيّن أنتال أن الاختلافات بين أساليب الرّسامين ـ عندما كان الفنانون في وقت ما خاضعين خضوعاً مباشراً لرُعاتهم ـ قد تُرَدُّ إلى الاختلافات بين وجهات نظر المجموعات المتنوعة للعالم التي تكوّن الطبقة المسيطرة، التي يدين لها الفنانون بأُعطياتهم· إنّ مقترب لوسيان غولدمان، في كتابه (الإله الخفي)، مختلفٌ بعض الشيء· فلوسيان غولدمان ـ الذي يُقرُّ بمفهوم استقلال ''المُبدع'' فيما يتعلق بمعايير الرُّعاة ـ يحاول أن يبرهن أنه ليس ثمة ثنائية بين الكاتب وجمهوره، بل على العكس شريطة أن يُعرّف ''الجمهور'' تعريفاً محدداً بشكل دقيق، ثمة تجانس نسبي، وتشابه في التفكير، وبشكل أساسي ثمة وحدة دينامية في نظام القيم· ويدعو لوسيان غولدمان هذه الوحدة بـ ''رؤية العالم''، التي يُعرِّفها بأنها ''مركّب كلي من الأفكار، والتطلعات، والمشاعر، التي تربط أعضاء مجموعة اجتماعية معاً (المجموعة التي تفترض، في أغلب الحالات، وجود طبقةٍ اجتماعية) وتُقابلهم بأعضاء مجموعات اجتماعية أخرى''· وبذلك، فإن الكاتب والقارئ مُتَضمَّنان في خلفية موقف عقلي مشترك في حقبة زمانية محددة· يتكشف هذا المقترب عن ميزة فتح السبيل أمام ''المبدع'' الفرد لا على حقل من التناقضات يفني نفسه من أجل إنتاج ما سوف يُرضي ''الآخر''، بل على حقل جمعيٍّ من الممارسات يكون بمثابة أساس للتواصل الجمالي، والذي يجعل من اكتمال المغامرة ''الإبداعية'' أمراً ممكناً، تلك المغامرة التي تعلو على قابليات الفرد الواحد التصورية· وغولدمان عندما يتناول باسكال، والمجموعات الجانسينية المتنوِّعة، كأمثلة خلال العقود الأولى من حكم لويس الرابع عشر، فإنه لا يعطينا برهاناً لامعاً على منهجه فقط، بل يزودنا، أيضاً، بوسيلة تحليلية رائعة جداً· وعلى أي حال، فلكي يكون هذا المقترب مشروعاً، فإنه يفترض إجماعاً اجتماعياً بالحد الأدنى· إن الكاتب، وقارئه، قد يُنظر إليهما بوصفهما ''مبدعين'' ـ بقدر ما تكون بُنى الإبداع الشاملة موضع عناية ـ مادام أن تجانساً اجتماعياً أدنى يأخذ في الحسبان تواصلاً متبادلاً حقيقياً للأفكار، ويأخذ في الحسبان، أيضاً، تضمين الكاتب في جماعية قرائه· لذلك، يتعين علينا أن نستخدم فرضية غولدمان، فقط، متى ما كانت ـ وفي حالات معينة حيثما كانت ـ المسافة الاجتماعية، والذهنية، والأيديولوجية، بين ممثلي الظاهرة الأدبية مسافة صغيرة· إن تطور التخصص، وظهور الكاتب المحترف، خلال القرن الماضي، عضواً في فرع رئيس من طبقة نامية تصنع حياتها، وتُسوّغ وجودها خلال الثقافة (في مقابل الامتيازات الحقيقية التي تتمتع بها على الرغم من أنها تعتمد عليها) قد عدَّلا الوضعية كليةً· لذلك، علينا ألاّ نمضي في استخدام نموذج نظري قد أفصح عن فائدة اكتشافية في دراسة الموضوعات الماضية من دون تعديل· ومهما تكن الميزات الفعلية لفرضيات غولدمان ـ الفرضيات التي تكون مشروعيتها مسألةً تخمينية ضرورةً ـ فنحن نتعامل اليوم مع واقعٍ مختلفٍ تماماً عن الفهم الضمني، والحوار الحميم بين أفراد الجماعية نفسها الذين ربما كانوا موجودين في القرن السابع عشر· وفيما يتعلق بمشكلة القراءة، فإن وضعيةً جديدةً، تماماً، قد تكوَّنت مع تشكُّل جمهور قراءة جديد، جمهور تلاشت علاقته العضوية بالمُنتِج على نحو تام تقريباً· فشفرات إنتاج الأعمال الأدبية تصبح غريبة عن شفرات القراء العفوية· إن هذه الفجوة بين شفرات الإنتاج، وشفرات التلقي قد أُعطيت، حديثاً، صياغةً نظريةً لكي تعيّن مهمةً عتيقة الطراز تتمثل في إيصال الإجراءات، ومن ثم المعنى· ومادام التواصل المباشر برمته يدل ضمناً على انسجام في شفرات الإنتاج، وشفرات التلقي، فإن نقاداً معاصرين معينين بيّنوا أن تواصلاً كهذا إنما هو مجرَّد إعادة إنتاج للأيديولوجية المهيمنة· ولقد جادلوا بأن هذا الانسجام يجب أن يتهشَّم بوساطة قوة الكتابة من خلال خلق عملية لا متناهية من اللعب بالمعنى؛ وهي عملية سيتلاشى فيها كل موقف أيديولوجي· والنص ''الحديث''، بعد تهشيمه للمعنى، سيكون بالتالي منفتحاً على عملية قراءة فاعلة، عملية لن تكون مجرد كشف عن المعنى، أو مجرد إماطة اللثام عنه· وبذلك، تفضي النصوص ''الحديثة'' بالقارئ إلى موقف جديد بسبب من تشكيلات معانيها غير الثابتة· ومن أجل أن يبدأ جان ريكاردو عمله على نظريته في الحداثة، فإنه يعيد صياغة المجادلة القائمة بين القدماء والمحدثين حسب المصطلحات الآتية: ''إن القراءة غير متماثلة في حالتين: ففي حالة النص القديم - أي حيث يسود المعنى - تكون القراءة إعادة إنتاج لمعنى كان ماثلاً في النص؛ أما في حالة النص الحديث، فإن القراءة هي إنتاج للمعنى الناشئ عن عدد معين من العمليات التحويلية''· في الحقيقة، إن الاختلاف الذي يحدده ريكاردو هنا هو قلبٌ لما يمكن أن يكون توسيعاً لأطروحة غولدمان· فريكاردو، إذ يُسلِّم بوجود قراءة ''تعيد إنتاج''، يفترض حقيقة انسجام الشفرات كما لو أنه لم يكن من الضروري ـ ما إن يكون المعنى موضع رهان ـ وجود عدد لامتناه فعلياً من الطرائق المختلفة، حتى لو كانت متناقضة، للإمساك بذلك المعنى نفسه؛ كما لو أن المعنى يمكن - حتى لو كان ذلك المعنى الذي يمكن أن يُنقل ببساطة ومباشرة على نحو ظاهري - أن يُقرأ كما كُتب؛ وكما لو أن الكاتب، فضلاً عن ذلك، قد عرف دائماً ما كان يكتبه بدقة· إن هذه السلسلة من المسلّمات تدلّ ضمناً ـ وربما من دون أن تقصد شيئاً لمجرد مقابلة الحداثة بماضٍ سحيق ـ على الأوهام التي يُخلّدها منظرو التواصل· علاوة على ذلك، يجب أن نلاحظ أن نظرية الحداثة هذه - حتى عندما تقصي القراءة العادية أو الشعبية - تهبُ الناقدَ والنقدَ التعليمي مكانةَ وسيط ذي امتياز معين· وهكذا، يجد بعض النقاد مسوِّغهم الذاتي في مكانتهم بوصفهم وسطاء بين كتابة تهيم في متاهات ابتكارها الخاص، وبين قارئ يُطلب إليه أن يُلاعب النص، ولكن هذا القارئ - ومن دون أن يكون مستعداً لعمل ذلك بصورة ملائمة - إنما يعتمد على أشياء أخرى إضافة إلى المعرفة والبراعة اللتين تميّزان هذا الجيل من النقاد· فالعزم على تحويل القارئ إلى ''مُنتِج'' حقيقي، يناقض، فضلاً عن ذلك، شفرات القراءة التي يفرضها النظام التربوي على هذا القارئ نفسه بقوة؛ ذلك النظام الذي لا يملك أدنى استعداد لتشجيع اللعب بالمعنى، بل لا يشجع ما هو أقل من ذلك كاللعب بالعناصر السردية· وبناءً على هذا الذي نجده في نظرية ريكاردو، فإن رفض أي عناية بالمعنى في الممارسة النصية - ''فالمعنى هو ما يكون له قوة مثلى على إلغاء النص'' - يفضي ضرورة، وإن يكن بغير رغبة، إلى إقصاء القراءة اللاتعليمية· إن هذا النوع من النصوص سوف يُنظِّم - على نحو أساسي، بين جمهوره المحدود نفسه - تبادلاً دائماً للبراعة التي بضمنها سوف يلعب إرث ثقافي معين دائماً دوراً مهيمناً· فالقارئ الذي يتوجه إليه هذا الأدب هو، إذن، عضو أكاديمي مُزوّد بمعرفة واسعة· ترجمة: حسن ناظم
المصدر: واشنطن
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©