الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كفن الزفاف

كفن الزفاف
24 فبراير 2011 19:57
(القاهرة) - لم اكمل من عمري الخامسة عشرة وأنا في الشهادة الإعدادية كنت احتفل بتفوقي وحصولي على مركز متقدم على مستوى المدرسة، سعادتي لا توصف فهذا يعد استمرارا لتفوقي الذي اعتدته منذ التحقت بالدراسة، وفرحتي لم تكن فقط بسبب تفوقي وإنما ايضا لأنني أجدني وحيدة في هذا الميدان، ولا يوجد أدنى اهتمام من أسرتي لدرجة أن أبي قد لا يعرف في أي صف أنا وكثيرا ما يواجه بتبرم أي مطلب لي حول احتياجات الدراسة البسيطة، كنت أتجنب ذلك حتى لا يصل الأمر إلى إصدار قرار بإخراجي من المدرسة، وكم هدد بذلك من قبل مع أنني لا أمثل له أي عبء. وسط هذه الفرحة كنت احلم بالانتقال إلى المرحلة الثانوية التي تمثل لي عالما آخر وخطوة متقدمة في الدراسة تقربني من الجامعة التي هي الحلم الأكبر في حياتي، حقيقة أنني لم احدد بالضبط الاتجاه الذي أريد أن اسلكه في التخصص، لكن هناك عدة رغبات في رأسي بين أن أكون مهندسة أو طبيبة أو إعلامية وكلها محببة إلى نفسي وأيا منها يرضيني وان تأخر اتخاذ القرار النهائي إلى حينه، وسط هذه الآمال وقعت الواقعة، فوجئت بمن يخبرني بأنني سأتزوج، دارت الدنيا بي وتزلزلت الأرض من تحتي، فانا مازلت طفلة، والطامة الكبرى أن العريس هو ابن عمي الذي يكبرني بضعف عمري حيث أن عمره قد تجاوز الثلاثين، ليس بيننا أي رابط أو أرضية مشتركة ولا تفاهم فهو أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة وليست له اهتمامات غير الحياة والمجردة لا يعرف شيئا اسمه الأمل أو الطموح. صرخت لكني وجدت آذانا صماء لا تسمع، كل ما قالوه لي إنني صغيرة ولا أعرف مصلحة نفسي وفي حاجة لمن يفكر نيابة عني ويتخذ لي القرار الصائب، وان الصغار من أمثالي دائما لا يعرفون تقدير الأمور ولا يستطيعون اتخاذ القرار الصحيح والمناسب، وفي نفس الوقت وقع هؤلاء الكبار في التناقض الشديد إذ لم يراعوا أيضا أنني صغيرة على الزواج وكما قلت إنني مازلت طفلة، فيقابلونني بأنني مخرفة، وأن هذا الاختيار هو المناسب وهذا هو الشخص الوحيد الذي سيحقق لي الأمان والاستقرار في حياتي القادمة. بكيت حتى جفت دموعي ونضبت، والتجهيزات تسير كما يريدون، ولا أبالغ اذا قلت إنهم عندما كانوا يعدون فستان الزفاف الأبيض الذي تحلم به كل فتاة، كنت اشعر بأنهم يعدون الكفن وليته كان كذلك، فالكفن أفضل وأرحم واكثر رأفة وحنانا، الطلقات النارية كانت تدوي ابتهاجا بهذا العرس كأنها تخترق قلبي وأنا أتمنى أن تخطئ واحدة منها وتقتلني لانها بذلك تخرجني من هذا الموقف الصعب الذي كنت فيه تماما مثل المتهم الذي يساق حتف انفه إلى غرفة الإعدام لتنفيذ الحكم عليه، بينما أنا أساق إلى القتل العمد مع سبق الإصرار. انتقلت من بيت أبي إلى قبر هو بيت زوج لا يعرف التفاهم، نعم مازلت على قيد الحياة غير أنني احسب نفسي في عداد الموتى، وهذا ليس من قبيل المبالغة وإنما البداية هي التي تحكم ذلك فقد صدر أول فرمان منه بالتوقف عن الدراسة وبذلك حطم كل أمل وطموح في المستقبل وضاعت معه الأمنيات، ولم يبق لي في الدنيا ما أعيش من أجله، وقبل هذا وبعده أنني مع زوج لا يستحق أن يحصل على هذا اللقب، لان الزواج به لم يكن أبدا لا مودة ولا رحمة ويفهم القوامة بالمقلوب، لانها عنده تعني الديكتاتورية والتفرد بالرأي وإصدار الأوامر، وما علي إلا أن ألبي وأجيب بلا نقاش كأنني مجرد خادمة ليس من حقي أي شيء إلا العمل وبلا أجر مثل عمال السخرة، وقد يمن علي بلقمة الخبز. أصبحت مثل العصفور الحبيس في القفص، والسجان هو الذي يحمل المفتاح ولا املك من أمر نفسي شيئا، ابحث عن الحرية فلا أجد لها سبيلا، لم يبق أمامي سوى خيارين كلاهما مر، الأول أن أهرب واترك الجمل بما حمل وأتخلص من هذا الأسر والإقامة الجبرية، وهذا نتيجته جلب العار لأهلي وأسرتي ولا يمكن الخلاص منه إلى الأبد وهذا ما لا أرضاه أبدا حتى لو كانت هذه هي الظروف التي أعيش فيها وكان ثمنها حياتي كلها، والخيار الثاني هو الانتحار بأي وسيلة كانت وفكرت في ذلك بالفعل وجديا، وليس جبنا أو خوفا انني لم افعل وأنما خشية من الله سبحانه وتعالى لحرمة هذا الفعل البشع والعقاب الذي ينتظر من يقدم عليه في الآخرة. حقا إن المصائب لا تأتي فرادى، وحدث ذلك معي، فلم تقف الأمور عند هذا الحد من المآسي، وزاد الطين بلة عندما ظهرت أعراض الحمل بطفلي الأول، لا أتخيل أن أكون أما وعمري ست عشرة سنة، أصبحت كلمة جحيم لا تعبر عن حالتي فهي أقل بكثير مما أنا فيه، وقد وضعت هذه الخطوة المسمار الاخير في نعش الخلاص وقضت على كل أمل في النجاة، وتضاعفت آلامي واعتلت صحتي وأنا افقد كل المعطيات ووضع نهاية للنفق المظلم، حتى جاء المولود إلى الدنيا وأنا في البداية كارهة له ولأبيه، لكن بعد عدة أيام بدأت اشعر بالأمومة نحوه واصبح احب ما في الوجود الى نفسي فهو الشيء الوحيد الذي أجد فيه العزاء والسلوى، وقررت أن أعيش له وان اقف وراءه وأتفرغ له حتى أرى فيه ما لم اره في نفسي وما عجزت عن تحقيقه. لم يمض عام حتى جاء ما لم أكن احتسب، فقد جاءني خبر ما كنت أريده ولا أتمناه ولا ارغب فيه، مات زوجي ميتة صعبة مؤثرة في النفس لقي مصرعه في حادث تصادم ثم سقطت السيارة بجثته في مجرى مائي وظل البحث عن جثته ثلاثة أيام، كنت بين نارين حارقتين، تخلصت من الكابوس الجاثم على صدري على مدى ما يقرب من عامين، ولكن في الوقت غير المناسب، والنار الثانية هي أن من فقدته مهما كان فهو زوجي وابن عمي ووالد ابني الذي اصبح يتيما قبل أن يدرك، انه آت إلى الدنيا بلا أب، وهذا ما يؤرقني ويضاعف همومي ليس من اجلي وإنما من أجل ولدي، فيا ليتني مت قبل ذلك ووريت الثرى ولم أشهد هذه الأحداث الجسام التي هي بالفعل اكبر مني ومن قدراتي وسامح الله من وضعوني فيها. أعلنت الحداد واتشحت بالملابس السوداء واتخذت قراري بان أغلق بابي وقلبي على ولدي وأكرس حياتي كلها من أجله، ويكفي ما لقيت بسبب التقاليد البالية البائدة الكئيبة، لكنني فوجئت بها تطل علي برأسها مرة أخرى من جديد بعد اشهر قليلة، إذ بأبي يطلب مني ترك بيت زوجي وأن اصطحب ابني وأعود الى البيت الذي تربيت ونشأت فيه، ولم يكن لذك إلا تفسير واحد وهو انه يعتزم أن يزوجني وتتكرر المأساة مرة ثانية. لم استطع الوقوف أمام الطوفان خاصة أن أبي لم يعلن عن نيته بينما كنت قادرة على قراءة ما بين السطور، في ذلك الوقت لم يكن – حسب العرف- من حقي أن اعترض على العودة إلى بيت أبي لانه من المستقر بين الناس أن الزوجة التي يتوفى عنها زوجها ولها طفل أو طفلان صغيران وهي مازالت شابة فإنها تعود إلى بيت أبيها، أما إذا تقدم بها العمر وكبر أبناؤها فانها تبقى في بيت زوجها الراحل حتى آخر العمر، ومن ثم لم يكن أمامي وأنا في مثل ظروفي إلا الانصياع حتى لا يقال عني ما لا أود أن اسمعه أو يؤذيني. وأدركت ما كنت أتوقعه وأتخوف منه، وبعد عام واحد من وفاة زوجي، علمت أن هناك من يعتزم الزواج مني، ولم اكن اجرؤ على الخوض في هذا الحديث لا بالنقاش ولا بالرفض ولا القبول، لأنني لم ابلغ بشكل مباشر بذلك، وان قراري هو ليس فقط رفض العريس وإنما رفض فكرة الزواج برمتها، ولم يكن في الحقيقة مع هذه الظروف العريس المتوقع افضل من سابقه بحال من الأحوال فهو مثله في أشياء كثيرة منها انه من أبناء عمومتي ولا يقرأ ولا يكتب، والأمر المختلف انه يعمل بالخارج ولن يقيم معي بصفة دائمة على الأقل في السنوات الأولى واصغر من سابقه في العمر. وقع المحظور وتم الإعلان رسميا عن العريس الثاني أو بالأحرى عن تكرار المأساة بصورة طبق الأصل، لكني اعتزم هذه المرة أن أقول لا حتى لو كلفتني الكلمة حياتي، لن أقبل ارتداء الكفن مرتين، وهذه المرة سأقولها ليس من أجل نفسي وأنما من اجل ولدي، وما زلت لا اعرف كيف ستكون العواقب؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©