الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التراث.. بين النقد والتبجيل

التراث.. بين النقد والتبجيل
5 مايو 2016 03:41
محمد سبيلا التراث أو مجموع الموروثات الفكرية والعقدية والثقافية والسلوكية والحضارية التي ترثها جماعة ما والتي تلعب دوراً رئيساً في عكس وتغذية مشاعر الجماعة بالهوية والمكانة والدور. التراث في مفهومه الشامل هو مرآة وحاضنة ثقافية ومورد مشاعر هوية، بل مشاعر تفاخر. كان التراث وما يزال رافداً ورافعاً أساسياً لوجود الجماعة حيث تحول تدريجياً من إطار عاكس للهوية إلى إطار ثقافي وفكري يعبر عن النرجسية الجماعية، أي عن اعتزاز الجماعة بذاتها وبتميزاتها الفعلية والمتخيلة، وكلما كان الاحتكاك أو الصراع قوياً مع جماعات أخرى قريبة أو بعيدة أصبح التراث مخزناً لهذه النرجسية الجماعية وشاداً للجماعة ضمن مسارها وتجاربها التاريخية. عرف العرب باعتزازهم بتاريخهم وبثقافتهم وبتراثهم وبصورة العالم التي يوفرها لهم هذا التراث لدرجة أن الثقافة العربية -بالمعنى الواسع- أصبحت هي المخزن الرئيسي للنرجسية الجماعة دفاعاً وهجوماً. وغلبت هذه الصورة في الثقافة العربية الحديثة، بل أصبحت مخزوناً نفسياً ومعنوياً لمواجهة الآخرين أو الحضارات الأخرى، وعلى رأسها الحضارة الغربية التي أظهرت تفوقها التقني والعلمي والتنظيمي والسياسي، واحتلت البلاد العربية مثبتة هذا التفوق. لذلك كان الخطاب الثقافي النرجسي حاداً في مواجهة هذا التقابل مع الغرب وتطورت الوظيفة النرجسية للتراث دفاعاً قوياً ضد الاحتلال أو التبخيس الثقافي. هكذا كان الخطاب الشائع على نطاق واسع هو الخطاب التمجيدي، حيث كان هذا التراث يتحدث عن نفسه بلغة التبجيل والتفوق - في مواجهة تفوق الأجنبي. لكن ابتداءً من القرن الثامن عشر دخلت الثقافة العربية ومعها الكيان العربي كله في مخاض حاد في مواجهة تفوق الغرب واحتلاله وبدأت الصورة النرجسية تنخدش مما عبر عنه بأزمة الوجود، أو الثقافة العربية في العصر الحديث. ونتيجة احتكاك المجتمعات العربية بالغرب وبالثقافة الغربية ظهرت نخب ثقافية عربية تشبعت بالثقافة الحديثة ومالت إلى القول بأن تخلفنا ليس فقط تخلفاً اقتصادياً أو سياسياً أو تقنياً، بل هو أساساً تخلف ثقافي وفكري. في كتابه المتميز «نقد التراث» تتبع الدكتور بلقزيز مفاصل هذا التحول الثقافي العربي الكبير من القراءة التمجيدية للتراث ومن خلالها دعم النظرة التبجيلية للذات إلى قراءة جديدة للتراث، قراءة نقدية تسهم في تفكيك آلية التمجيد الذاتي وما يرتبط بها من متعلقات مبلسمة ومطمئنة وتسويغية وتعويضية. على هذه الأرضية التاريخية تشكل الصراع حول التراث، من حيث إن الصراع حول التراث وحول الماضي هو في العمق صراع حول الحاضر وحول المستقبل، بل إن الاستيلاء على الماضي هو أقصر طريق للاستيلاء على الحاضر. أصبح الصراع حول التراث صراعاً حول الماضي وحول صورة ومكانة الذات (العربية أو الإسلامية)، وتحول التراث من مستودع حلول إلى حاضنة مشكلات. هكذا تبلور في الثقافة العربية الحديثة خطاب نقدي للتراث بمستويات وبرؤى متعددة بعضها إيديولوجي وبعضها معرفي، وبدا وكأن الخطاب النقدي هو المعادل أو المقابل الموضوعي للخطاب التبجيلي الانكفائي السائد. بل إن الخطاب النقدي ذاته دخل في سيرورة تطور وتحول كبير. في مرحلة أولى انصب هذا النقد على الموروث الثقافي العربي الإسلامي وعلى القراءات التقليدية الحديثة ذاتها لكن جزءاً كبيراً من هذا النقد كان نقداً للمعرفة التراثية ذاتها ولمضامينها ولآلياتها الفكرية، ثم تطور النقد الحداثي للتراث في مرحلة ثانية نحو نقد العقل (العربي أو الإسلامي) ذاته بمعنى الانتقال من نقد الثقافة إلى نقد آلية التفكير التي أنتجت هذه الثقافة، أي للبنيات الفكرية أو الذهنية أو المعرفية السائدة فيها وهي لحظة نقد العقل العربي-الإسلامي. يستعرض د. بلقزيز المناهج التي استعملت في العصر الحديث لفحص ودراسة التراث العربي الإسلامي النظري منه والعملي ابتداءً من مناهج التأريخ والعرض إلى المنهج الفيلولوجي القائم على الفحص اللغوي انتقالاً إلى المنهج المادي التاريخي، والذي تمثله دراسات طيب تيزيني وحسين مروة ومهدي عامل، وإلى حد ما خليل عبد الكريم مروراً بالمنهج الظاهراتي عند حسن حنفي، ومنهج التحليل الإبستمولوجي عند الجابري والمنهج التأويلي عند نصر حامد أبوزيد، والمنهج التاريخي النقدي عند ع. الشرفي وناصيف نصار، والمنهج التحليلي النقدي المتعدد الأدوات عند محمد أركون. يركز النقد الإبستمولوجي (أو المعرفي) الذي قام به الجابري على أشكال تفكير الثقافة العربية العالمة، مركزاً على أن جوهر الفكر العربي الإسلامي هو التبعية والمحافظة عبر آلية القياس والاستدلال بآراء السابقين، مبيناً أن أنماط الفكر الثلاثة المكونة لهذا الفكر (البيان-البرهان-التصوف) كلها خاضعة -وإن بدرجات متفاوتة- لقانون السند والإحالة، أي على عقل مقيد بقيود صارمة حتى لا يخرج عن حدود العقيدة. نظير هذا التشخيص نجده لدى محمد أركون الذي اعتبر العقل الإسلامي عقلاً مغلوقاً، أي محكوماً بسياجات كثيرة، وأنه رغم بعض مظاهر التوتر الداخلي بين الروحي والزمني، بين الدين والدولة فإن هذا التاريخ قد آل في النهاية إلى المماهاة بين العنصرين بإرادة من الدولة ومسايرة من الفقهاء (بلقزيز 368)، وهكذا لم يشهد التاريخ الإسلامي أية قطيعة تاريخية تتيح له النهوض من أكبال الماضي، ومن حضن التراث. القراءة النقدية للتراث هي، على النقيض من القراءة التبجيلية المجاملة للذات، تقوم على المساءلة النقدية للتراث، وعلى نزع طابع البداهة عنه، وتكشف عن مسبقاته وآليات تفكيره والآليات المضمرة فيه، وعن متخيله ولامرئيه ولامفكره ومهمشه.... وكذا عن معوقات تطوره وعن سلطاته المختلفة على الأذهان والأعيان، وعن التعويقات التي يمارسها على سيرورة الانطلاق أو الاندراج ثقافياً وفكرياً في المغامرة الكونية الحديثة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©