الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

روبيرتو خواروث.. الليل أول قبر

روبيرتو خواروث.. الليل أول قبر
5 مايو 2016 03:40
ترجمة - أحمد حميدة ينتصب روبيرتو خواروث ( 1925/1995) كمعلّم متشامخ في المشهد الرّحيب للشّعر الأميركيّ-الجنوبيّ. بصرامة محتملة، وأخلاق منضبطة، وكلمات باهرة، تشكّلت نصوصه ما بين صمت وتنبّؤ؛ ويبدو خواروث من خلال تلك النّصوص كتمثال رخاميّ للقائد الممعن في تفحّص العالم. بحكمه الصّاعقة، والنّابضة في قلب قصائده، أقام ميتافيزياء للوجود البشري، متموقـعة دائماً عند حافّة الفراغ وخطّ عبوره لهذه الحياة، متسائلاً دون توقّف عن لغز حضورنا في العالم. الشّعر العموديّ (بُوازِيا فارتكال) هو العنوان الوحيد الذي ارتضاه لأشعاره؛ وهو لا يريد بذلك تفسير أيّ شيء، وإنّما الإشارة إلى اتّجاه، إلى صعود ما بين الفراغ والحياة، ما بين الظلّ والضّياء، وخاصّة الامتناع عن أي شرود أو تأويل عبثيّ، عن أيّ فتور أو إحساس بالشّفقة. فما كان يريده هو: «كتابة تحتمل اللاّنهائيّ صدوعٌ تتمدّد نجوماً كما غبار الطّلع قراءة الآلهة بدم بارد قراءة غير متحذلقة للصّحراء قراءة تقاوم التقلّبات الكليّة قراءة يمكن أن تقرأ حتّى من داخل الموت». قد يكون هذا المبدع للعدم قد سعى لترك منارات مقاوِمةٍ للنّسيان والامِّحاء. عنوان منظِّم أوحد يرافق تعرّجات نصوصه إلى غاية ديوانه الأخير: الشّعر العمودي. نزعة التّجاوز من الأعلى إلى الأسفل، وهو يتحدّث عن الإنسان المتناقض والعابر الزّائل، ثمّ التّجاوز من الأسفل إلى الأعلى لاستفزاز العدم، كلّ ذلك تناوله خواروث بالشّرح في محاوراته النّظريّة الجافّة: الشعر والإبداع. لم يكن يريد أن يقول غير الكلمات الجوهريّة، مازجاً بينها وبين الصّمت وهو مأخوذ بالمتناقضات الأساسيّة. وتحكم تلك العموديّة قوّة جاذبيّة الفراغ وهاجس الإحساس بالسّقوط، ممّا جعل روجيه مونيي يتحدّث عن «أوديسه الغياب». متجنّباً كلّ نزعة عاطفيّة، كلّ صورة يعتبرها البعض شعريّة، فإنّ خواروث يقطع ويشذّب تماثيل من الشّعر؛ والقصيد بالنّسبة إليه هو الطّريق الأمثل الذي يسمح بالغوص في عمق التمزّقات. أحياناً ما تبدو قصائده مهيبة ووقورة، ولكنّها أحياناً ما تخترقها رياح الصّقيع، فتبدو مرعبة للقارئ الذي ينتبذ بعيداً عنها؛ غير أنّ تلك القصائد تسلك طريقها بتشامخ، غير مبالية بالتّفاهة البشريّة. تلك الصّرامة، وتلك التأمّلات شبه الفلسفيّة عن الموت والكينونة، عن تفتّت العلامات، عن الإحساس الملحاح بأنّنا عمّا قريب لن نكون هنا.. كلّ ذلك يجعل من شعره كتلة من البازلت الأسود، جوهريّة ولا غنى عنها، متى تلمّسناها، أصابنا الدّوار. يبقى «هذا الشّاعر الكبير.. شاعر اللّحظات المطلقة» (أكتافيو باث ) حيّاً ومحفوفاً بالأسرار، وببديهيّاته الشّعريّة المتّقدة، التي لا تقتصر على تسمية الأشياء، وإنّما تؤسّس لحضورها وحضور الكائنات. «مع ماذا ستتواصل كلماتي في اليوم الذي سيلي موتي؟» لقد مات روبيرتو خواروث ليختبر العدم الذي ما انفكّ يرعبه، ولكنّ كلماته لا تزال تحافظ على وقعها في نفوس من يقبلون على قراءته. سيرة ذاتيّة عموديّة كان خواروث يرفض الإسهاب عند الحديث عن سيرة حياته: «عليّ أن أعترف بأنّني لا أرغب كثيراً في التحدّث عن نفسي، وأنا لا أعير كبير اهتمام للآخر؛ فالحياة بالنّسبة لي هي مزيج من الصّدفة والقدر؛ ولو كان الأمر غير ذلك، فلا قيمة ولا أهميّة لهذا الأمر بالنّسبة للآخرين. ما هو مقول في قصائدي هو تجميل لقصائدي. إنّي لأحتفظ بالحياة للأحياء، ولا أنظر بنفس القدر إلى الذّكريات، وبقدر أقلّ للقصص التي تروى. يقيناً بأنّ الأشياء أعقد من هذا بكثير، غير أنّي لا أتمالك نفسي من أن تكون لديّ بعض الحساسيّة عندما يتعلّق الأمر بسيرتي الذّاتيّة». حريّ بنا احترام هذا التّواضع المحتشم، وأن نعيد بكلّ بساطة نقل ما كان يقوله في هذا الصّدد: لقد ولدت في 5 أكتوبر سنة 1925 بكورونيل دورّيغو، المدينة الرّيفيّة الواقعة بإقليم بوينوس إيرس في الأرجنتين. أمضيت طفولة سعيدة نسبيّاً، تردّدت فيها ما بين الفرح والتّــــرح، ما بين الوحدة والألغاز؛ ولئن كنت متحدّراً من سلالتين ذات أصول باسكيّة، فإنّي أبقى حقيقة ابن الأرجنتين. كان أبي رئيس محطّة للقطارات، فعشت حتّى سنّ العاشرة في أجواء القطارات التي تؤمّن الرّحلات الطّويلة، والتي غذّت فيّ رغبة السّفر والمغامرة. وفضلاً عن ذلك، هناك عاملان كان لهما قدر كبير من الأهميّة في طفولتي: الطّبيعة (الأرض البسيطة والعارية، الحقول الشّاسعة، الصّمت المصمّ للآذان، الأشجار وعصافيرها الكثيرة، الحيوانات، المطر، الرّيح، السّماء، البحر...)، ثمّ الدّين ( الكنيسة الكاثوليكيّة، الصّلوات، الكتب المقدّسة، الرّهبان والرّاهبات، المدرسة الدّينيّة.. إلخ ). كنت طفلاً منعزلاً ومعرّضاً للمرض، في عائلة متعدّدة الأفراد. عندما بلغت العاشرة، نُقل أبي إلى مدينة بضواحي بوينوس إيرس، أدروغي، نفس المكان الذي عاش فيه بورخيس لسنوات طويلة، حيث تحدّث عن شوارعها المحفوفة بالأشجار، عن الحدائق المفعمة بالأسرار، عن الدّور العتيقة.. في أدروغي أتممت دراستي الابتدائيّة، ثمّ الثانويّة، وعشت مراهقة تخلّلتها المشاعر الصّوفيّة وقراءات أدبيّة معمّقة، وخلالها اكتشفت الكتابة الشّعريّة كشيء جديد، لا كعادة لقراءة مكرّرة؛ وعشت حينها ليالي مطوّلة من الوحدة، أقبلت خلالها على قراءة الشّعر وعلى التأمّل، ليبقى أثر تلك اللّحظات دوماً سارياً فيّ. ثمّ كانت لقاءات حاسمة وبداية الشكّ الذي لا يزال يسكننّي؛ لقد توفّي والدي في أحضاني جرّاء سرطان في الرّئة، وكانت تشتمّ منه رائحة الموت. تركت الكنيسة ولألائها، بعد أن خلّفت فيّ شيئاً ما قريباً من التصوّف، الذي تتجلّى آثاره في أجزاء كثيرة من شعري، شعري.. الذي هو اليوم عقيدتي الوحيدة. هناك، في أدروغي، واجهت أيضاً ضغوطات ماديّة صارمة، وتحصّلت على أوّل عمل لي وأنا في سنّ الثّامنة عشرة، كأمين مكتبة في المدرسة الوطنيّة، ثمّ كان زواجي الأوّل وإنجاب ابنتي وأنا في سنّ الخامسة والعشرين؛ بعدها كان الانفصال عن زوجتي، وسفري الأوّل عبر الجنوب (بنتاغوني وأقاليم شاسعة وقفراء)، أعقبها ترحّل بحريّ بعد أن تمّ رفدي من العمل لأسباب سياسيّة؛ وتواصل هذا التّرحال بسفرات عبر أميركا اللاّتينيّة، نيويورك.. فيما بعد، عدتّ إلى سابق عملي كأمين مكتبة، لأحتفظ بهذه الوظيفة مدّة عشرين سنة، أمضيتها في المطالعة وقراءة الشّعر وكتابته، وتعرّفت أثناءها على لورا التي ستكون شريكة حياتي، ثمّ تحصّلت على منحة للدّراسة بجامعة السّربون، فكانت فرصة كي أعبر هذه القارّة من أطرافها إلى أطرافها. وكانت تلك الرّحلة بالغة الأهميّة بالنّسبة لي لأنّها قادتني إلى المنابع. ولدى عودتي من هذا التربّص، عيّنت أستاذاً بالجامعة ثمّ مديراً لمكتب دراسات. لقد كنت أنبذ دوماً السّياسة على اختلاف تلوّناتها واعتبرتها العدوّ الأكبر للشّعر، وكنت لا أتوانى عن التّصريح بذلك أينما حللت وتحت أيّ نظام سياسيّ كان؛ وسرعان ما دفعت ثمن ذلك، إذ تمّ نقلي ثلاث مـــرّات بصورة تعسّفيّة، قبل أن يتمّ نفيي لمدّة ثلاث سنوات عن بلدي. في سنة 1977 وبمدينة تمرلاي انتابتني نوبة قلبيّة، انضافت إلى توعّكات صحيّة أخرى. كأيّ كان، عرفت أشياء كثيرة في حياتي، وأدركت الثّروة الفريدة التي تنطوي عليها الحياة. وما غدا يستوقفني حقيقة، إنّما هو الشّعر. ولئن كنت في السّنوات الأخيـرة منتهباً بالشكّ، فإنّ إيماني يظلّ عميقاً بما لا يمكن أن أستشعره في شعري». لا يمكن أن نضيف شيئاً كثيراً لهذه السّيرة الذّاتيّة، غير ما يلي: روبيرتو خواروث أتمّ دراسة الآداب والفلسفة في جامعة بوينوس إيرس ليتخصّص في علوم الأخبار وعلم إدارة المكتبات، قبل أن يستكمل دراسته الفلسفيّة والأدبيّة بجامعة السّـــوربون. من 1958 إلى 1965 أشرف على إدارة مجلّة شعر (بويزيا) ببيونس إيرس، مجلّة من ثماني صفحات، كان يوزّعها على قرابة مائة قارئ من معارفه من محبّي الشّعر. ترجم في تلك الآونة لشعراء كثيرين وخاصّة لأنطونان أرتو وبول إيلوار... شعر عمودي (بويزيا فرتكال) هو أوّل دواوينه، وقد نشر ببيونس إيرس سنة 1958؛ ستعقبه بعد ذلك أربعة دواوين حتّى سنة 1974. وكان عليه أن ينتظر الثّمانينيات كي يجد ناشراً في بلاده، فيما صدرت دواوينه الأخرى خارج الأرجنتين. مدفوعاً إلى النّفي في ظلّ الدّكتاتوريّة العسكريّة ونظام بيرون، عاش خواروث كلاجئ سياسيّ في الولايات المتّحدة، ثمّ في كولومبيا. وعند عودته إلى الأرجنتين، كان عليه مواجهة التعصّب الذي تزايد في صفوف مثقّفي اليسار. منفيّ من جديد، سيشدّ عصا التّرحال، ليصبح بعد ذلك خبيراً لدى منظّمة اليونسكو في بلدان أميركا الوسطى. أمّا رفيقته لورا سيراتو التي كانت أستاذة في الأدب الأنكلوسكسوني بجامعة بوينوس إيرس وشاعرة، فقد رافقته في جميع أسفـــــاره. وفي الأثناء لم تتغيّـــر البتّة علاقته بصديق عمره أنطونيو بورشيا. كان ينشد دوماً الكلمات العميقة والمختزلة، ويؤثر الكحول القويّة. بادره المرض منذ 1993، وكان يدرك بأنّ العمر لن يسعفه كي يتمّ أعماله، وكان ذلك يؤلمه أكثر من الموت الذي بات يترصّده. وقد توفّي هذا المنفيّ طيلة حياته ببيونس إيرس يوم 31 مارس 1995. «حتّى وإن كنّا بالكاد نعيش فإنّ صدى موسيقى الحياة يفتح مع ذلك آذاننا لسماع صخب العيش». شعر عموديّ يبدو شعر خواروث وكأنّه يترنّح على حافّة الهوّة، ينحت ذاته داخل كهوف الصّمت، متلمّساً بيده الجدران الغامضة للأبديّة. وكمشّاء النّوم الذي يقف على خيط مرتجف ودقيق، ينذر بسقوط وشيك، يرمي خواروث بشباك أفكاره، وينتصب واقفاً، بل ممعناً في الوقوف. كان ينشد كتابة عموديّة، مكتنزة وطلقة، متكوّنة غالباً من حكم، متخفّفة من الصّور ومتفلّتة من الاستعارات؛ شعر غرانيتيّ مصقول، متشامخ أحياناً، وقلق في كلّ الحالات؛ إنّه إزميل حادّ، صرخة صمت، ولكن أيضاً شفافيّة ويد أخويّة ممدودة: «أن نفكّر في إنسان ما فكأنّما قمنا بإنقاذه». شعر عار، محتشد بالمفاهيم؛ الكلمات الملحّة وحدها تقال، لأنّها الوحيدة التي يمكن أن تُبرّر. «قصيد واحد قد ينقذنا يوماً فهل يمكن لقصائد عديدة أن تنقذ الحياة بأكملها ؟ أم ينبغي الاقتصار على قصيد واحد» إنّه يدرك هشاشته وغموضه المحتوم، لأنّ الكلمات والنّصوص متغيّرة ومبهمة رغم شفافيّتها الظّاهرة. لذلك أقام خواروث شعره عند «حركة مدّ وجزر الموت»، فمن هناك كان بإمكانه أن يرى حركة مدّ وجزر الفراغ، وهو الذي يحمل باستمرار عبء العدم؛ جمال شعره الذي يكاد يكون فاتراً، يتوق إلى أن يكون لاذعاً، موحشاً، وغامراً أحياناً.. ودائماً ناقوس خطر الزّمن المحسوب يعدّد إشارات التّنبيه «لن تكون هناك غد». ورونيه شار الذي كان معجباً به – إذ تصل بينهما نفس الكلمات وذات الجمال المتشامخ – كان بإمكانه أن يهديه هذه الحكمة: «نولد مع البشر، ونموت من دون مواساة بين الآلهة». يحمل خواروث بداخله وشم الفزع العميق من فقدان العلامات والحدود: «البليّة الكبرى هي السقوط من العدم في العدم»، أن نفقد مركزيّة الأشياء وتنتابنا الرّيبة أمام ما تحمله من التباس، ولكي نعيش رغماً عن كلّ شيء، ينبغي أن نحفظ هشاشة النّور، أن نحافظ على الطّقوس الصّغيرة اليوميّة، كأن نطفئ ونشعل النّور مثلاً. ويعود بنا ذلك إلى شريط «نستلجيا» لتاركوفسكي وطقس الشّمعة في المسبح الفارغ، ولكن دون أمل كبير في التّجاوز هنا. كلّ أسمائنا سيكون مآلها الامِّحاء، كلّ شيء متقلّب، وقدرنا هو أن نتردّد بين سقوط وتسام: «إنّ السّقوط الثّابت والوشيك وحده يســاعدنا على أن نستوطن بصفة وقتيّة السّقوط». والسّقوط هو حركة نحو المحبّة والوضوح، نحو المنطوق، ولكن أيضاً نحو الظّلام والعدم، نحو ما يكون بالكاد مقولاً والقريب من المحـــــال؛ يرسم الشّعر ذلك «بصوره وفهمه اللاّمتوقّع»؛ إنّه يخلق الواقع، يبدع «نظاماً جديداً» هو ليس من هذا العالم ولا من عوالم أخرى. «إنّي لأعيش القصيد كتفجّر كينونيّ تحت وقع اللّغة»؛ لأنّ خواروث هو بلا شكّ شاعر متصوّف، ولكن بنزعة للتّجاوز ممعنة في اللاّئكيّة.. «ليكن الظّلام».. ذلك ما كان يعلنه. في شعر خواروث يكمن الموت منتصباً.. «أن نطفئ النّور كلّ ليلة فإنّ ذلك يجعلنا نتلمّس سطوح كلّ قبورنا». في كلّ شيء يربض الغياب وينبثق الفراغ، في الوقت الذي نظنّ فيه بأنّنا في قلب الحياة؛ فشعر خواروث ينبني وجهاً لوجه مع الفراغ؛ إنّه حجارة شاهدة ووعي يدور حول نفسه، يتكرّر، ولكنّه ينطق باللاّمقول؛ إنّه تجربة صوفيّة في طور التحقّق والنّشأة.. «طريق يقظة»: «ينبغي أن نجعل النصّ الذي نقرأه، يقرأنا ينبغي بمعنى ما أن نجعل الوردة التي ننظر إليها تكون قادرة على أن تجعلنا نكون» إنّه يضعنا تحت الأضواء الخام والغامرة للقدر البشري. وأمـــام الهويّة المنفلتة، وغلبة الظّلام، يعتقد خواروث في قدرة القصيد على التّجاوز: «إنّ العزلة اللاّمتناهية للفكر لتفزع الفراغات السّماويّة». إنّه لحزين وبارد هذا التّشخيص الذي ذهب إليه عن سقوطنا الوشيك. نحن نأتي، لنختفي ونتوارى، هذا ما يعلمنا به خواروث؛ ولكنّه يدعونا كي «نستوطن لحظة السّقوط»، أن لا نكون في حال الامِّحاء أو اليأس؛ وشعره ليس بالشّاحب والهزيل، فهو على العكس من ذلك منعش بكلمات هي لرجل فطن وشفّاف. لقد عرّف أكتافيو بـــاث شعره قائلاً: «كلّ قصيد لروبرتو خواروث هو بلْوَرة مدهشة لما هو مقول، إنّه اللّغة مستقطرة في ذرّة من نور». أمام ما هو ثابت، يستخدم خواروث كلمات ثابتة، وئيدة، مقفلة، لا يمكن مداراتها، ولكنّها هشّة هي الأخرى، تقول سيلفيا بارون سوبرفيال: «شعره هو الوجه الغامض، المحفوظ لانفتاحة عموديّة على اللّيل». أما هو فيقول في كتابه «الشعر والإبداع»: «الشّعر هو الحدّ الأقصى للحياة الممتلئة، والذي يمكننا بلوغه، ولا أعرف أيّة تجربة حيويّة أخرى يمكن أن يكون لها مثل هذا العمق». كان يريد «رسم الأفكار كغصن منتصب بأعرافه في السّماء. فإذا كان الشّعر والفكر كما الشّجرة المقابلة للسّماء، لعلّ شيئاً ما شفّافاً كعصفور، سيأتي ليحطّ على فروعها». الإنسان دُمية الليل لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ روبيرتو خواروث يصرّ في مجموع قصائده على عدم وضع العناوين؛ ويومئ هذا الإصرار إلى رؤيته للشّعر، إذ يولد الكلام الشعري لديه داخل اللاّ اسم واللاّوجه· ويتمسك بذلك بإصرار في كل أعماله الشعرية· كما أن الشعر لديه هو مساءلة للعالم، ونحن أيضاً ضمنه· وإذا كان السؤال هو العمل التقليدي للفكر، فإن شعر خواروث يسائل أقل، لكنه يبقى شعراً عميقاً في تساؤله، إنه يحاول إخراجنا من طمأنينتنا الوهمية· إنه يثيرنا، يقلقنا، ويشوش يقينيـاتنا· إنه تساؤل خالص وبدون زيادات. هناك رسائل مصيرها الضياع كلمات سابقة أو لاحقة إلى المرسل إليه صور تأتي من جانب الرؤية الآخر إشارات تصوب إما أعلى هدفها أو أسفله إشارات بلا شفرة رسائل مغلفة برسائل أخرى إيماءات تتكوم إزاء الحاجز عطر يتضاءل دون أن يجد أصله موسيقى تلتفّ حول نفسها كالحلزون المهجور إلى الأبد لكن كل ضياع هو ذريعة للّقاء فالرسائل الضائعة تبتكر على الدوام هذا الذي عليه أن يجدها *** أن نطفئ النّور كلّ ليلة، لكأنّه طقس للتعلّم. أن ننفتح على جسد الظّلمة، أن نعود إلى دورة تدريب متكرّرة: أن نتذكّر أنّ كلّ نور جيب وقتيّ عابر. ففي الظّلمة مثلا، الأسماء الّتي نحتاجها في حال الإنارة، تغدو غائبة. ينبغي تعويضها واحدة بواحدة، فيما بعد ينبغي محو الأسماء كلّها. بل قد نذهب إلى تغيير اللّغة ذاتها، و أن ننطق بلغة الظّلام. أن نطفئ النّور كلّ ليلة، يجعل هويّتنا شائنة، أن نطحن ذرّة خردل في الملاط القاسي للظّلام. كيف لنا إطفاء كلّ شيء ؟ كيف لنا إطفاء كلّ إنسان ؟ كيف لنا أن نُطفأ ؟ أن نطفئ النّور كلّ ليلة يجعلنا نتحسّس سطوح كلّ القبور، و يدنا لا تملك غير أن تتشبّـث بيد أخرى. أو إن كانت وحيدة أن تعود إلى حال التوسّل ملتمسين صدقة أخرى من النّور. *** أحيانا يتهاوى اللّيل كجلمــود صخــر ويتركنا بلا فضاء. حينها تغدو يدي عاجزة عن ملامستك لنحفظ أنفسنا من الموت. بل سأعجز حتّى عن ملامسة نفسي كيما نحفظ أنفسنا من الغياب. عرق منبجس من الحجارة ذاتها يفصلني أيضا عن أفكاري. هكذا يغدو اللّيل أوّل قبر. *** في اليوم الذي نفعل أمرا ما دون علم منّا، و لأوّل مرّة، كأن ننظر إلى نجمة، أن نعبر بابا، أن نحبّ أحدا، أن ننصت إلى صوت، فكأنّ شيئا ما ينبّهنــا بأنّنا لن نكرّر هذا الأمر أبدا، فمن المحتمل أن تتوقّف حياتنا كدمية متحرّكة بلا طفل و لا رقّاص. و مع ذلك، ففي كلّ يوم نفعل شيئا ما لأوّل مرّة - أن ننظر إلى وجه، أن نتسمّى باسمنــا، أن نتلف حذاء، أن نعيش ارتعاشة، و كأنّ المرّة الأولى أو المرّة الألف يمكن أن تحفظنا من الأولى. تلزمنا سبّورة نسجّل فيها الدّاخل و الخارج، حيث، يوما بيوم، يعلن بوضوح بطباشير و حروف صوتيّة ما يتحتّم على كلّ أحد إنهاءه، و إلى متى يمكننا فعل هذا الشّيء أو ذاك، إلى متى ينبغي لنا أن نعيش، وإلى متى سنعيش كي نموت. *** أن نكون. و لا شيء آخر. إلى أن تنحفر من تحتنا بئــر. أن لا نكون. و لا شيء آخـر. إلى أن تنحفر بئر من فوقنا. ثمّ ما بين البئرين سوف تتوقّف الرّيح لبرهة. *** كان يرسم شبابيك في كلّ مكان. على الجدران الشّاهقة، على الجدران الواطئة جدّا، على الجدران المنفرجة الزّوايا، في الزّوايا، في الهواء و حتّى على السّقوف، كان يرسم شبابيك و كأنّه يرسم عصافير، على الأرض، على جبهة اللّيل، على النّظرات التي تبدو صمّـاء، بــجِوار الموت، على القبور، على الأشجار. كان يرسم شبابيك حتّى على الأبواب. ولكنه لم يرسم أبدا بابا. كان لا يريد لا الدّخول و لا الخروج. كان يدرك أنّ ذلك غير ممكن. كان يريد فحسب أن يـرى: أن يـرى، فكان يرسم الشّبابيك. في كلّ مكان. *** في الوقت الذي نفعل فيه شيئا ما، أو شيء ما آخر هناك أحد ما يغادر الحياة. في الوقت الذي تلمّع فيه حذاءك، في الوقت الذي تستسلم فيه للحقد، في الوقت الذي تكتب فيه رسالة مطوّلة لمحبوبتك الوحيدة أو غير الوحيدة. وحتّى لو لم يكن باستطاعتك فعل شيء، فإنّ هناك أحد ما يغادر الحياة، محاولا عبثا تجميع كلّ الزّوايا، محاولا عبثا عدم تثبيت نظرته في الجدار. وحتّى إن كنت على قيد الاحتضار، هناك أحد آخر يغادر الحياة، رغما عن رغبتك الحقيقيّة في أن تموت لبرهة و بامتياز. *** أعتقد أنّه في هذه اللّحظة ربّما لا أحد يفكّر فيّ في هذا الكون، وبانّني الوحيد الذي يفكّر فيّ. ولو حدث أنّني أموت لا أحد، بما فيهم أنا سيفكّر فيّ. وهنا تنفتح الهاوية، والأمر و كأنّي أخلد إلى النّوم. أسند ذاتي بذاتي، ثمّ أتخلّى عن ذاك السّند، أنزع إلى إضفاء الغياب على كلّ الأشياء. لهذا، ربّــمــا أنّنا حين نفكّر في إنسان فكأنّنا أقدمنا على إنقاذه.. *** قد نعتقد أحيانا بأنّنا في قلب الحفل ومع ذلك فلا أحد يوجد في قلب الحفل في قلب الحفل لا وجود إلاّ للفراغ ولكن في قلب الفراغ.. حفل آخر. *** لقد أفشينا أيضا سرّ المـــاء لذلك، لا يسقط المطر لذلك، لا تجري مياه النّهر لذلك، لا تركد مياه البركة ولذلك، لا يكون للبحر حضورا مرّة أخرى أهملنا الرّسالة، الحروف الصّوتيّة للغة المــاء صفاءه الملموس و المدهش. لم نخبر حتّى شرب الشّفافيّة. وأن نشرب شيئا يعني أن نتهجّــاه. وتهجّي الشّفافيّة هو أن نمعن في تهجّي اللاّمرئيّ. *** لقد زارتني غيمة. تركت لي قبل الانصراف خيالها في الرّيح. لقد زارتني غيمة. تركت لي قبل الانصراف عبـء جسد آخـر. لقد زارتني نفخة من صور. تركت لي قبل الانصراف الارتياب في الحلم. لقد زارني غياب. ترك لي قبل الانصراف صورتي في الزّمن. وأنا أتجوّل في الحياة، سأترك لها حين أمضي نعمة بَـوَاقِـيها. *** لا وجود للصّمت أن نفكّر، فإنّ ذلك ليس هو الصّمت، الأشياء ليست صمتا، الموت ليس صمتا. أن نكون.. ليس ذاك بصمت. في محيط هذه الوقائع، ليس هناك غير مزق من شوق ؛ الشّوق إلى الصّمت الذي قد يكون وجد يوما ما، أو لعلّه لم يوجد البتّة، وأنّ علينا ابتكاره.. *** الإنسان دمية الليل يطعن الفراغات ويوماً ما يردّ فراغ على طعنته بشراسته. وهكذا لن تتبقّى غير حنجـرة العـدم. أحياناً ما يمسّد الموت شعرنا ولكنّه لا يدخل. هل تكون فكرة عظيمة هي التي توقفه ؟ شيء ما أعظم من الفكرة ذاتها ؟ *** الموت طريقة أخرى في النّظر. قمر الموتى أكثر طعونا في السنّ ولا يثير مدّا وجزراً. طريقتك أنت في النّظر هي أيضا مختلفة. قمر الحياة كان أكثر يفاعة وكان هو ذاته مدّاً و جزراً. ما بين القدرين، قبل الموت أو بعد الحياة، نحن نظرة راسية بالقرب من بحر لا بداية له.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©