الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إبداعية الذات.. وسلطة الآخر

إبداعية الذات.. وسلطة الآخر
5 مايو 2016 03:29
محمد نور الدين أفاية منذ بدايات الاحتكاك المباشر بالغرب، أنتجت الحركة التشكيلية والسينمائية العربية، على سبيل المثال، تراكما هائلا يصعب على الفكر العربي تجاهله. لا شك في أن لكل قطر عربي تجربته الخاصة ومساره المميز، لكن إذا نظرنا إلى الإنتاج العام، سواء في الفترات السابقة، أو فيما ينجز الآن، فإنه يبدو من الممكن الحديث عن حركة تشكيلية أو سينمائية عربية لها روادها واتجاهاتها، معارضها ومهرجاناتها ونقادها، أسواقها وقنوات تبادلها. بداية، يستدعي الحديث عن هذه الحركة، وبهذه الطريقة، شيئاً ما من النسبية لأنه إذا كان لهذه الحركة روادها واتجاهاتها، فإن الحديث عن السوق يبدو إشكالياً، سواء على المستوى القطري أو العربي، على اعتبار أن تداول اللوحة أو توزيع الفيلم يتم بصعوبة كبيرة داخل القطر الواحد، وأحرى أن يتجاوز حدود الجمارك والقوانين العربية التي ما تزال تعتبر اللوحة والكتاب والفيلم بضائع مثل باقي السلع الأخرى، يتعين تأدية ضرائب على دخولها وخروجها داخل الأقطار العربية. مراحل مرت الحركة التشكيلية العربية بمراحل متعددة؛ كانت المرحلة الأولى عبارة عن تبعية تامة للغرب، بوصفه مرجعا وتقنية وأدوات...الخ. أما في المرحلة الثانية، فقد تميزت، حسب كثير من الباحثين، بتباعد نسبي من التجارب الغربية، أي أن الرسام العربي، في هذه المرحلة، انتقل من وضعية التابع المتعلم إلى حالة إبداعية توفيقية، يحافظ على التقنيات الغربية وعلى بعض المرجعيات الأساسية في الرسم، ويدمج بعض رموز التراث العربي- الإسلامي وبعض علامات الفن الشعبي التقليدي. في هذه المرحلة استهلك شعار «الأصالة والمعاصرة» بشكل لافت للنظر، وجرت نقاشات كثيرة لمحاولة إضفاء طابع المشروعية على هذه المرحلة التوفيقية في العمل التشكيلي. وفي مرحلة لاحقة اهتدى الفنان العربي إلى نحت أساليب خاصة، تتفادى تكرار مرجعيات الغرب وتتجنب السقوط في أشكال هجينة، لا هي بالأصيلة ولا بالمعاصرة، بل خاضت مجموعة من الفنانين العرب تجارب إبداعية بالغة التميز والجمال، وعبرت عن قدرة كبيرة على الإنصات إلى تحولات المجتمعات العربية، الاجتماعية والسياسية والثقافية. وبالرغم مما يمكن أن يظهر من تجريد على بعض الأعمال، فإنها تكثف كثيراً من علامات الثقافة العربية والذاكرة الشعبية، وتبرز قضايا وهموم الإنسان العربي في علاقاته بذاته وبمحيطه وبالآخر. العلاقة مع التراث مما يثير الانتباه في اللوحة التشكيلية العربية المعاصرة هو استلهامها لعدد كبير من العلامات الثقافية في التراث العربي-الإسلامي، سواء ما يتعلق فيه بالخط والكتابة أو ما يرجع إلى الثقافة الشعبية. وإلى جانب الخط والحرف والكتابة فإن الرسم العربي المعاصر يتميز باستيحائه للعلامات والرموز الثقافية المختلفة التي أنتجتها الثقافات ما قبل الإسلامية، وهكذا نعثر على رموز بابلية وسومرية ويمنية وفرعونية وبربرية، وعلى إشارات تحيل على التصورات التقليدية للإنسان العربي، بل إن الرسام العربي يتخلى، أحيانا، عن الأسلوب المسندي ليضع تشكيلات جديدة بأدوات ووسائل شعبية حافظت عليها المخيلة العربية طوال العصور. ويمكن القول إن التحقيب والتقسيم المشار إليه – في مرحلة التعلم المباشر والتبعية، ومرحلة التوفيق والتبرير، ومرحلة الاستقلال والإبداع – لا يخلو من شيء من التعسف، ذلك أننا يمكن أن نعثر على فنانين مبدعين منذ بدايات الاحتكاك العربي بالغرب، كما أنه يجوز أن نجد الآن فنانين غارقين في تجريديتهم وانبهارهم المستمر بالغرب كمرجع وتقنية وأساليب. بل إن هناك من الباحثين والنقاد من يؤكد على استحالة التمييز والاستقلال عن الغرب طالما أن فن الرسم الحديث يعتمد على اللوحة كسند أساسي، ومادامت أساليب تقديم وعرض هذا الفن تتم داخل المقاييس التي أنتجها، ومن تم لا ينظر إلى التجارب التشكيلية العربية إلا من زاوية إحالتها على إطار مرجعي غربي، وكأن الفنان العربي لا يمكنه أن يبدع إلا داخل الأطر التي أنتجتها الغرب. العلاقة مع الغرب فعلاقة الغرب والعرب، بالرغم من كل التحولات التي طرأت على طبيعتها، ما تزال مع ذلك، تطرح أسئلة كثيرة على الفنان العربي. ذلك أنه إذا كان هذا الفنان يجتهد في نحث أسلوبه التشكيلي الخاص للتعبير عن القيم الكبرى التي ينشدها المجتمع العربي في أفق نهضته، على الرغم من كل أشكال الانكسارات والمآسي التي يعرف، فإنه بالإضافة إلى ذلك، تواجهه على مستوى الممارسة، تلك العلاقة الإشكالية بين الشرق والغرب، لأنه يجد نفسه في مأزق فكري وفني يتعلق بالكيفية التي تمكنه من توظيف التراث الرمزي والفني العربي، وبأساليب الاستفادة من التجارب الحديثة للإبداع التشكيلي. هذا فضلا عن مشكلة التواصل مع جمهور يتحرك داخل مناخ ثقافي يتميز بنوع من «الأمية البصرية» التي لا تسمح بالتفاعل مع الأعمال التشكيلية التي يقدمها الرسام العربي. العلاقة مع الجمهور تطرح الفنون التشكيلية العربية، في ارتباطها بالجمهور وبالنقد في هذه المرحلة، مشكلة الوعي الفني في الثقافة العربية المعاصرة. ذلك أن التحديث، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، لا يقتصر على المجالات المادية والإدارية والسياسية، بل يهم كذلك، قضايا الذوق والحساسية الجمالية عند الناس. من هنا ضرورة إدخال علم الجمال والتربية الفنية في المؤسسات التعليمية العربية، في مستواها الابتدائي والثانوي والجامعي. وكل حديث عن الثقافة العربية المعاصرة، أو عن أي مشروع نهضوي عربي لا يهتم بالقيم الجمالية والفكرية للفنون الحديثة، يبقى حديثاً ناقصاً. ذلك أن المجهود التنويري مجهود عام يشمل العقل والسلوك والذوق، وهي أدوات لثلاثة مجالات متكاملة: الفكر، والأخلاق والقيم الجمالية. واعتبارا لما تقدم يمكن القول بأن أسئلة الصورة في الثقافة العربية، في واقع الأمر، لم تعد تخضع، بالضرورة، للتأويلات الاستشراقية أو التقليدية، ولذلك لم يعد يبرر طرح سؤال النظر والصورة كما تم كبته في التراث العربي الإسلامي الكلاسيكي. فتشابك الواقع أصبح أكبر من هذه التأويلات التي ألهت الفكر العربي-الإسلامي طيلة أكثر من قرن. فحتى أكثر البلدان العربية تقليدية ومحافظة بل ومقاومة لبعض مجالات الإبداع السمعي-البصري، مثل السينما، لا تخرج عن دائرة التأثير التصويري العالمي. ولم تعد فتاوى المنع والمراقبة قادرة على التحكم في الأنماط الإدراكية الجديدة التي تولدها ثقافة الصورة، أو صورة الثقافة. فهذه الأخيرة، نفسها، لم تعد تكتفي بأطرها التقليدية في التداول، لأن الاقتصاد المعاصر للصورة خوّل لها فرصاً للتبادل والتوسع، بل وعمل على تطويعها داخل منطقه ونمط تواصله الخاص. فالنكوص إلى الوراء على صعيد ثقافة الصورة لم يعد ممكنا. وأكثر الأنظمة العربية مراقبة لشؤون الصورة هي أول من تستثمر إمكاناتها في سيرورة ممارسة وتكريس السلطة. رهانات لذلك فإن رهانات الصورة في الثقافة العربية المعاصرة لا تخرج على مستويين: مستوى تكنولوجي بما يفترض من تخطيط واستثمار وعقلنة؛ ومستوى ثقافي بما يستدعي من إبداعية وخيال وحرية وتجدد. وقبل هذا وذاك، فإن أكبر رهان يفرض على الثقافة العربية الإسلامية في الحاضر والمستقبل، هو رهان الذاتية العربية في تجذرها وتجددها، سواء في الصورة أو الكلمة أو في النص والسياسة. والقول بالذاتية هو تأكيد على إبراز تعبيرات الوعي بالذات وبالآخر في سياق تواصلي حر ومتسامح يستلهم –أي هذا الوعي – مقوماته من المخزون الحضاري والرمزي العربي- الإسلامي الهائل، ليعيد بناء شخصيته الثقافية التي بها ينتزع موقعا ما في التبادل الثقافي العالمي، وبدونها تنفلت منه شروط التميز وإبداعية الأصالة. إحالات رمزية تستلهم اللوحة التشكيلية العربية المعاصرة عدداً كبيراً من العلامات الثقافية في التراث العربي- الإسلامي، إن لجهة الخط العربي أو الكتابة. وعلى الرغم من أن الرسام العربي جرب كل تقنيات وأساليب الغرب فإنه اهتدى، في سياق ممارسته، إلى توظيف مفاهيم الخط والكتابة والحرف العربي لدرجة أن هذه العناصر أصبحت من المقومات الرمزية والثقافية التي تميز اللوحة العربية بالقياس إلى التجارب العالمية، بل إننا من النادر أن نعثر على رسام عربي لم يدمج الخط أو الحرف العربي في فضاء لوحته، أولاً لأنه يحيل على ذاكرة ثقافية متميزة؛ وثانيا لأنه عنصر تشكيلي وتجريدي يمكن تطويعه داخل اللوحة بكل الطرق الممكنة، وبسبب قدرته الكبيرة على التشكل، وإمكاناته الجمالية اللامحدودة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©