الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قراءة متجانسة في مفاهيم متعاكسة

24 ابريل 2008 02:45
من الممكن الاتفاق على أن التجانس العضوي في أي عمل أدبي من الصعب اكتماله، أي لا يمكننا أن نصل الى الكمال في الرؤية الابداعية حتما، إلا أن الكاتب يشرع في تلمس اولى خطوات رحلة الاكتمال التي لن تكتمل ابدا على يديه، وهذا ما يستدعي روح التغاير المستمر حتى في العمل الواحد على مستوى البناء والموضوع وهو بالتالي يحفز النقد على استظهار البنى العميقة التي تكشف البناء او الموضوع والتي لم يحاول القاص قولها، او تلك التي شرع في رسمها ولم يستطع ان يكمل لوحته فيها·· أقصد بالتجانس العضوي اللامكتمل ان النصوص الإبداعية دائماً ما تبحث عن كمالها المفقود والذي يجعلنا ـ الفقدان ـ ان نعيد محاولات الكتابة، فليس هم الكاتب ان يقتنص عالماً بقدر ما ان يشكل عالماً، عبر مظاهر سردية متنوعة، تقليدية، أو ابتكارية جديدة، فالسرود لا حصر لها حسب رولان بارت· وقبل أن نقرأ ثنائيات ''ضوء يذهب للنوم'' لابتسام المعلا المجموعة القصصية التي صدرت مؤخراً عن مشروع (قلم) الذي اطلقته هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، لا بد لنا أن نقرأ هذا الذي أسميته التجانس العضوي اللامكتمل وماذا نقصد به· معنى ''ضوء يذهب للنوم''·· يمكن أن نقرأه في الإهداء فينتفي المعنى الظاهر عبر بنيته السطحية التي تقول ''إلى الضوء الذي لم يطفئه الغياب: أبي، والى الشمس الباقية أبداً أمي'' بوصف الأخيرة بنية حضور بوجود الأم والأولى بنية غياب برحيل الأب·· غير أن البنية العميقة للضوء الذاهب للنوم نراه داخل نصوص المجموعة الـ11 نصاً قصصياً والتي سنقرأ الثنائيات المتولدة فيها· الضيق/ الاتساع يواجهنا في البدء نظام شكلي نقرأه عبر التقسيم الذي اقترحته ابتسام المعلا بين قسمين شطرا المجموعة وهما ''أماكن ضيقة''، و''مكان بالغ الاتساع'' وكأننا بذلك لا نبصر المكان بقدر ما نتلمس الشخوص فيه· في أماكن ضيقة نقرأ قصة ''خفيفة مثل بالون'' التي تروي حكاية امرأة مستوحدة تذهب لأول مرة الى المطار مع جارتها أم سعيد فتجد في عالم المطار رحابة بعد ان فقدت زوجها وارتحال ابنها بعد زواجه·· كل شيء يبدو مألوفاً في نص قصصي كهذا، إلا انها عبر ذهابها مرة ثانية وثالثة، قد أثارت تساؤلات شاب شرطي ظل يراقبها وهي في ذات الوقت قد استعادت فيه صورة ابنها محمد الذي لم يعد يتواصل معها·· لتدخل قصة الابن هنا تضميناً يغذي عالم القصة وهي تخرجنا من سياق الحاضر الى الماضي وتعود بنا ثانية الى لحظة توقف المرأة لتشاهد حركة الناس في قاعات المطار·· ''عقب عودتها الى البيت جلست تتفكر في تلكما الساعتين اللتين أمضتهما في المطار واللتين كانتا أجمل وأطول من المرة الأولى بحيث منحتاها الحرية في إطالة تأملها في وجوه البشر واكتشاف التشابه الكبير في بعض الأمور الصغيرة والحميمة بينها وبين الغرباء''· (ص15) ''في الاسبوع الرابع رأت الشرطي الشاب من جديد يقف بعيداً مع زميل له وينظران إليها فتوارت عن أعينهما خلف جموع الناس''· (ص16) سألها ''هل تبحثين عن أحد يا أمي؟ هل يمكنني مساعدتك في شيء''· (ص20)· وعندما خرجت من البوابة كان سؤال الشرطي قد أربك رجلها الثقيلة في محاولة للاسراع في الخروج، إلا أن جثتها الهزيلة ارتطمت بمقدمة سيارة مسرعة حيث واصلت روحها الصعود خفيفة مثل بالون· من ثنائية الضيق المكاني ''البيت'' حتى ''الاتساع المكاني'' المطار تنتقل القصة فتتحرك ثنائية فاعلة يحاول أبطال ابتسام المعلا تحقيقها ولكن في الغالب تراهم مهزومين باحثين عن خلاصهم من الوحدة ليصطدموا بعالم أكثر تغريباً يحاول ان يكرس في ذواتهم وحدتهم الموحشة تلك· الأم/ الإبن لكن الاكتمال غير المتحقق نجده في قصتها الثانية ''خيط طويل ونحيل'' التي تقدم لنا قصة الشرطي الشاب الذي رجع بعد موت المرأة عند بوابة المغادرة في المطار، ليجد زوجته قد غادرت البيت·· ويتجه لأمه التي تزورهم فجأة ليقول لها ''لقد ماتت المرأة العجوز وهي تقطع شارع المطار· (ص27) وقد تحول الى ''طفل يريد ان يدس نفسه في حضن أمه التي لم تستطع ان تفهم عمّ يتحدث ولا أي عجوز يقصد''· (ص28)· وتبدو القصة الثانية قد خرجت من رحم القصة الأولى ''خفيفة مثل بالون'' كيف؟ في الاولى نجد ''الأم والابن محمد الغائب'' في الثانية نجد ''الأم والابن الشرطي الحاضر'' جميعهم مكررون في النصين، غير ان الغياب في الأولى لا يساوي أو يشابه الحضور في الثانية، وهذا ما يجعل بالرغم من تكرر الشخوص ان تكون الموضوعة متنوعة اي الفعل اللاتشابهي، فالأم عنصر والشرطي عنصر ثان والابن عنصر ثالث والانقطاع عنصر رابع، وكل تلك العناصر تكررت في كلتا القصتين، إلا أن الذي لم يتكرر هو الغياب في الأولى والحضور في الثانية، مما يخلق انقطاعاً هناك ينتهي بالموت بما يقابل تواصلاً هنا ينتهي بالحياة· فمن جدلية الحضور/ الغياب ولدت جدلية الموت/ الحياة· ومن عناصر القصة الأولى بنت ابتسام المعلا قصتها الثانية وكان بإمكانها من عناصر القصة الأولى ايضاً ان تبني القصة الثالثة· والرابع من خلال بؤر مختلفة، متعددة· لكي تبني شكلاً روائياً وفي الآن نفسه فإن في القصة القصيرة وبذلك تقدم لنا نصاً مكتملاً بتجانس عضوي، إلا أن ابتسام المعلا قطعت الاكتمال المتوقع بمجيء قصة ثالثة من رحم القصة الاولى ليس لها علاقة بالقصتين السابقتين فضيعت فرصة خلق عمل روائي وقصصي قصير في الآن نفسه· الضوء/ الظلمة في قصة ''ضوء يذهب للنوم'' التي لا تمت للقصتين السابقتين بأية صلة كما قلنا، نرى الساردة بضمير المتكلم وقد ذهب بها أبوها الى طبيب العيون·· وهذا ما يستدعي مشكلة تعانيها وهي توقع فقد البصر الذي يولد صراعاً بين الاستذكارات في الماضي والحاضر المشوش، ولولا تشوه الأخير لما تولدت حكايات الماضي المضمنة عن أبيها وأمها ومريم اختها، ولهذا ينهض الماضي الغائب مقابل الحاضر المتوقع غيابه بالعمى ، ومن خلال هذا التشابه يتولد الاختلاف اذ تحاول ابتسام المعلا في أغلب قصصها ان تقود القارئ الى مساحات مألوفة في الحكاية، إلا أنها في ختام سردها تفاجئنا بحركة غير معهودة تقلب فيها الحكاية وكأنها بذلك تكسر أفق توقعنا· فعلى لسان الساردة التي ستفقد بصرها ''قالت مريم عندما أجبت على هاتفها أخيراً: لقد تعبت من الاتصال بك منذ الصباح أين كنت؟ ألم تري مكالماتي؟ سألتني مجدداً: ماذا بك؟ لماذا أنت صامتة؟ ألم تري مكالماتي الكثيرة؟ قلت لها إنه الضباب· وبدأت القصة''· (ص42)· هنا تشتغل ابتسام المعلا على نظام الأسئلة، اذ يحفل هذا المقطع على 4 أسئلة وهي في جميعها ''مكررة''، الا ان ما يثير القارئ والساردة هو هذا السؤال ''ألم تري مكالماتي؟'' وكأن الساردة قد غادرت منطقة الضوء الى مجاهل العتمة ''الظلمة بفقد بصرها''، يعزز ذلك اكتشافها ضباباً يقود الى نهاية النفق الأسود الآتي·· ولأن كل ما سبق من سرد عن الآخرين في الماضي وعن ذات الساردة في الحاضر قد تلاشى كالضوء يصبح الآتي المستقبلي غائباً حيث لا يعد الماضي/ الغائب نصاً حكائياً·· فهو مهمل من وجهة نظر ابتسام المعلا لتقول لنا على لسان الساردة وفي النهاية تماما ''وبدأت القصة''·· حيث القصة الماضية في الضوء لا قصة والقصة الآتية في الظلمة والتي ستحدث ونحن لا نعرف عنها شيئاً هي القصة· اذاً هنا تلعب ابتسام المعلا على بنية الحكاية تكنيكاً· التذكر/ النسيان تقول في قصة ''صور خارج الإطار'' في الاستهلال ''عندما أفشل في تذكر بعض الحوادث فإنني اختلقها'' (ص43) وهو نص إرصادي، أي يمكن تمثله في نهاية القصة، أي أن ابتسام المعلا قدمت من خلاله شفرة تفصح عن النهاية· القصة تذكرية في مجملها حيث يرد فعل ''أذكر'' لأكثر من عشرين مرة وهذا بالضرورة يحيل القصة الى تأكيد فعل التذكر ولكن هذا يتعارض مع العبارة في الاستهلال التي تقول ''عندما أفشل في تذكر الحوادث'' كيف يمكن ان يتوافق فعل التذكر مع نفيه؟· هي نتذكر أخاها خالد وجارتهم فضة العرجاء وزجاجة عطر أهدتها فضة لها في الماضي وصورتها التي التقطها لها في طفولتها المصور الإيراني صديق والدها· ولكن كل ذلك تنفيه خاتمة القصة التي تقول ''كنت أتمنى لو ان فضة ظلت جارتنا ولم ترحل عنا، وأنا في ذلك العمر الغض، كنت أتمنى لو أن أمي تحتفظ فعلاً بصورة من طفولتي مع أخي خالد معلقة في غرفتها وكنت دوماً أتمنى لو كان لي أخ''· (ص49)· هنا يظهر الارصاد، إذ لا وجود لحصة ولا لصورة معلقة ولا لخالد· وبذلك تتحقق تكملة عبارة الاستهلال ''فإنني أختلق الحوادث''· عبر جدلية التذكر الحاضر والنسيان الغائب في بداية النص ليتحول في النهاية الى التذكر الغائب والنسيان الحاضر· هناك في ''ضوء يذهب للنوم'' غياب بالعمى وهنا في ''صور خارج الإطار'' غياب بالذاكرة·· وربما يسمى العنوان هذا المعنى صور ليست مثبتة في إطار الحاضر وكأنها منفلتة خارج الإطار، مما يعني أن ابتسام المعلا قد تلاعبت في نهاية قصتها لتقول إن كل ما روي ليس موجوداً أصلاً· الذات/ المرآة في أغلب قصص ابتسام المعلا يقف الأشخاص بذواتهم أمام المرآة وقد تستبدل المرآة بالصور كما في ''صور خارج الإطار'' و''بيت'' و''ىُِل'' و''ماذا ستفعلين بي'' و''لون الماء''، ولنأخذ هذه الامثلة من القصص: ''استدار تاركاً المرآة'' قصة لون الماء، و''لم تكن تلك التي رأيتها في المرآة'' قصة ماذا ستفعلين بي، ''واخبرهم بأن جدتهم طلبت صورة جماعية'' قصة حداداً على اديسون، ''وخرجت أغلب الصور من إطارها'' قصة سيرة حياة البنت، ''أما الكوميدينو الأيسر فتتكئ عليه ثلاث صور'' قصة بيت· في هذا الفعل نجد التماهي بين الذات والصورة اثباتاً وبين الذات والمرآة نفياً اذ الذات تعيش في الصورة ولا تعيش في المرآة وكل ذلك يرتبط بسيطرة ''النظائر'' وإلغاء الذات حيث الذوات جميعها مفترضة أو قلنا محكومة بالاحباط دوماً، أما النظائر في الصور والمرآة فهي الحقيقية وليس العكس· هنا نقلب المعادلة حين تصبح الذات ملغاة والصورة هي الوجود الحقيقي والمرآة هي التي تكشف الذوات المهشمة دوماً· جدلية صراعية وليست تماثلية كما يوحي بها الواقع صورتك كقارئ قبل عشرين عاماً تناقض ذاتك الآن وصورتك في المرآة بكل تأثيرات الزمن عليها تناقص صورتك المتخيلة في ذهنك·· ذلك ما تريد ان تقوله ابتسام المعلا· الاكتساب/ الفقدان في قصة ''قلعة الرمل'' يبدو الصراع قائماً بين لعبة الاكتساب الفقدان، ففي اللحظة التي تلتقي فيها الساردة مع صديقتها عند بوابة السوق تبتدئ الاسترجاعات التي تتلخص في وجود علاقة ثلاثية بين امرأتين اقامتا علاقة مع رجل اختار في نهاية الأمر تلك المرأة التي تلتقي أمام السوق بالساردة حتى ينتهي الحوار بينهما بموعد مقترح تدعو فيه الزوجة صديقتها التي تسرد الاحداث لزيارتها كي تشاهد ابنها ''ماجد'' الطفل الذي ما إن تزورهم حتى يأتي اليهما مجروحاً وخيط الدم يسيل من ركبتيه، حيث ''قال بصوت فيه بحة·· بحة من؟ وقعت على حجر مسنن انها تؤلمني'' وبطريقة تلقائية تتصرف الساردة لتأخذ الطفل ''ماجد'' بين أحضانها لتضع له المطهر وتمسح جرحه ثم تحتضنه في بكاء مرير· إن الاستبدال في نهاية القصة والذي يعد بؤرة تكثيفية قائمة على لعبة التفجر الدلالي عندما تستعيد ابتسام المعلا لبطلتها ما يشعر به الطفل ''ماجد'' ان يصبح الجرح هنا مكتسباً وفاقداً، إذ يفقده ماجد على مستوى الواقع وتكتسبه الساردة على مستوى الخيال ''الوهم''·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©