الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مصر: الثورة أمام تحديات الفقر

23 فبراير 2011 21:29
تيموثي إم. فيلبس القاهرة عدتُ لبلد مختلف جداً عن البلد الذي زرته لأول مرة ويشبهه كثيراً في الوقت نفسه. فعندما جئت إلى مصر قبل 35 عاماً كمراسل أجنبي، كانت قطعان الجمال والغنم ماتزال تقاد عبر الشوارع وكانت ثمة جسور قليلة فوق النيل بحيث إن حركة المرور كانت أسوأ مما هي عليه اليوم. ولكن بناء مزيد من الطرق الحديثة، التي تتسع لعدد أكبر من السيارات، جلب معه بالمقابل التلوث الذي يزكم الأنوف والذي كثيراً ما يحجب مشهد الألف مئذنة التي تشتهر بها المدينة. في تلك الأيام، لم تكن الهواتف لا تربط الناس بالعالم الخارجي فحسب، وإنما كانت في كثير من الأحيان لا تعمل في الداخل أيضاً، مما كان يخلق لدى المرء إحساساً قويا بالعزلة. أما اليوم، فإن أفقر الفقراء فقط هم الذين لا يملكون هواتف نقالة. وفي تلك الأيام، كانت مياه الصنابير تشكل خطراً على أمعاء الأجانب والمصريين على حد سواء، وكانت مياه الصرف الصحي تلقى في الشوارع في أحيان كثيرة؛ وكان التيار الكهربائي (عندما يكون متوفراً) يزداد قوة عبر الشبكة بشكل مفاجئ، مما يتسبب في إتلاف الأجهزة الكهربائية غير المحمية. ومما لا شك فيه أن المشاريع الضخمة الممولة من قبل الولايات المتحدة قد ساهمت في التخفيف من حدة هذه المشاكل، ولكنها لا تستطيع تغيير حقيقة أن عدد سكان مصر اليوم، هو ضعف ما كانوا عليه عندما زرت هذا البلد لأول مرة قبل 35 عاماً. دلتا النيل المركزية، حيث يتفرع النهر لينشر مياهه المانحة للحياة وتربته الخصبة فوق سهل شاسع، تغيرت على نحو صادم. ذلك أن الدلتا التي كانت في يوم من الأيام منطقة ريفية خضراء هادئة، تجرُ فيها الجواميس نواعير الماء لسقي حقول البصل والطماطم والكرنب تحولت اليوم إلى منطقة تتناثر فيها مدن صغيرة وكبيرة تفصل بعضها عن بعض حقول هنا وهناك. وهكذا، أخذت قدرة مصر على إطعام نفسها بنفسها تتراجع تدريجياً بسبب زحف الإسمنت الذي يزيد من تحدي إطعام مزيد من الأفواه الجائعة. القاهرة أيضاً نمت وتوسعت مثل الفطر، ووصلت حتى أهرامات الجيزة حيث كنت أمتطي الحصان كل يوم تقريباً؛ إذ أُنشئت مدن جديدة ومسورة بأكملها بأسماء من قبيل "بيفرلي هيلز" في مناطق كانت بالأمس القريب مجرد فيافي جرداء تمتد على مرمى البصر حتى ليبيا. غير أن بعض الأشياء بالمقابل أثبتت على نحو بائس وعنيد أنها لم تتغير. فقبالة النيل مباشرة وعلى مرمى حجر من ميدان التحرير يوجد حي بولاق، وهو حي فقير مكتظ بالسكان مثل كلكتا الهندية. حي معزول عن العالم، بل حتى عن القاهرة، بمظاهر الفقر المدقع المنتشرة بين جنباته. وقد داومتُ على زيارة حي بولاق منذ أول زيارة لي لمصر، ولكن خلسة فقط، وذلك لأن السكان لا يتخيلون لماذا قد يرغب أجنبي في القدوم إلى هنا، وكذلك لأن كبرياءهم لا يريد من بقية العالم أن ترى مظاهر الفقر تلك. أزقة ضيقة وممرات أضيق تتعرج عبر حي ينبض بالحركة؛ وباعة "الفلافل" و"الكشري" يصيحون بأعلى صوتهم ويدعون المارة للشراء بينما الأطفال يلعبون "البلياردو" على طاولات صفت على طول الأزقة. السكان مازالوا يعيشون في مساكن فقيرة من ثلاثة طوابق مبنية بالطوب اللبِن الذي يتحول إلى طين مرة أخرى حينما تتساقط الأمطار خلال الشتاء. بعض العائلات بأكملها، مثل عائلة أحمد وزوجته هدى تعيش في غرفة واحدة وتشترك في حمام واحد مع تسع عائلات أخرى ربما. محمد، 50 عاماً، الذي يعيش في فناء بعيداً عن ممر يغص بالحركة، وحيث الحوار كان سيلفت الكثير من الانتباه، يلح على أنه يتذكرني من زيارة سابقة للمكان. قال لي إن الحياة ازدادت سوءاً في بولاق منذ آخر زيارة قمت بها للحي. وبينما هو يتحدث، كانت أكثر ملابس العائلة خصوصية معلقة على شرفة البيت لتجف قرب صحن لالتقاط القنوات الفضائية يتيح للعائلة مشاهدة المسلسلات الاجتماعية والقنوات الدينية. وكان الحمام الذي يربى من أجل الأكل يطير فوق الأسطح؛ والقطط المتضورة جوعا تموء مستجدية قطعة طعام. ويقول محمد: "في الماضي، كنا نعيش مثل عائلة واحدة هنا... إذا لم يجد أحد الطعام، نتقاسم معه طعامنا. أما اليوم، فقد غيَّر ارتفاع الأسعار كل ذلك". فقد ارتفع سعر الطماطم من نحو 35 سنتاً للكيلو قبل سنوات إلى نحو دولار اليوم. كما ارتفع سعر ستة أرطال من الثوم من 16 سنتاً إلى 3 دولارات اليوم. أما سعر اللحم، الذي يعد سلعة نادرة أصلًا، فقد تضاعف ثمنه. وتقول هدى محمد إنهما يدفعان الـ10 جنيهات نفسها (أو 1.70 دولار في الشهر) التي كانوا يدفعونها عندما تزوجا قبل 25 عاما، وذلك بفضل قانون لمراقبة الإيجارات. وقالت: "لقد أنجبتُ أربعة أطفال في تلك الغرفة"، مشيرة إلى الطابق العلوي، ولكن تلك الغرف بات سعرها اليوم 500 جنيه في الشهر بالنسبة للمستأجرين الجدد، وابناها العاطلان عن العمل لا يستطيعان الزواج. الأطفال المرتابون من الأجانب سرعان ما قطعوا حوارنا في بولاق بسبب الحجارة التي أخذوا يرمونها، ولكن الفكرة العامة باتت واضحة: إذا كان التوق إلى الحرية السياسية هو الدافع والمحرك بالنسبة للثورة المصرية، فإن الفقر هو الذي غذاها وجعلها أكبر من أن يوقفها أحد. والواقع أنه في الـ35 عاماً التي عرفتُ فيها القاهرة، كان ثمة دائماً فقر؛ ولكن حتى عهد قريب، كان ثمة على الأقل ما يكفي من الطعام ليوزَّع ويتقاسمه الجميع. غير أن الثورة لن تستطيع على الأرجح وقف هذا الاتجاه قريباً، وهو ما قد يفضي إلى خيبة أمل، أو ربما مزيد من الاحتجاجات والهيجان الشعبي مستقبلاً. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©