الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مغامرات الحياة.. السردية

مغامرات الحياة.. السردية
23 فبراير 2011 19:43
يحيلنا عنوان رواية رجاء عالم المرشحة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) في دورتها الرابعة “طوق الحمام”، منذ البداية إلى مرجعية خارجية هي مرجعية التراث العربي القديم ممثلا بكتاب “طوق الحمامة في الألفة والآلاف” لابن حزم الأندلسي من خلال علاقة التناص التي يقيمها معه، في حين تكشف قراءة العمل عن شعرية العنوان التي يحيل عبرها على مرجعية داخلية هي مرجعية العمل الذي يستدعي تلك المرجعية التراثية، من خلال لعبة التخييل التاريخي الذي تستدعي فيه الكاتبة حقبة الحضارة الأندلسية التي تعدُّ من أزهى مراحل تاريخ الحضارة العربية الإسلامية نظرا لما كانت تنطوي عليه من قيم إنسانية وثقافية تميزت بالتعايش والتفاعل بين الديانات والثقافات الثلاث الإسلامية والمسيحية واليهودية، بصورة تدل على مدى الانفتاح الذي ميز تلك الحضارة وكان عاملا من عوامل نهضتها وغناها، الأمر الذي يكشف عن المقاصد الدلالية التي يحملها هذا الاستدعاء التاريخي من خلال علاقة إحدى شخصيات الرواية الرئيسة نورة بالفضاء التاريخي الشاخص بآثاره العظيمة التي ما تزال تتحدث عن عظمة تلك الحضارة التي تحاول أن تمتزج بها، وأن تستنطقها وتستعيد روحها، إضافة إلى دلالة العنوان الذي يستدعي مفهوم الحب كقيمة وجودية واجتماعية من خلال استدعائه لكتاب ابن حزم. تتميز الرواية من حيث بنيتها السردية والفنية بنزعة التجريب فهي تتألف من مجموعة كبيرة من المشاهد التي يحمل كل مشهد منها عنوانا خاصا يشكل مفتاحا دلاليا باعتباره تكثيفا واختزالا لمضمون المشهد، الأمر الذي يجعل الرواية تقوم في بنيتها على الانفصال والاتصال في آن معا. وتظهر هذه العلاقة بصورة فارقة في القسم الثاني من الرواية بحيث يمكن أن نعتبر الرواية هي روايتان في رواية واحدة على الرغم من محاول الكاتبة إيجاد نوع من الاتصال فيما بينهما من خلال استمرار حضور بعض شخصيات القسم الأول في القسم الثاني من الرواية. لقد حاولت الرواية استخدام العجائبي وأسلوب المذكرات واللغة الرمزية والمشهدية والحبكة البوليسية في هذا العمل الذي أثقلته بالمواضيع والقضايا التي حاولت أن تطرحها فيه، لاسيما في قسمه الثاني الذي تنتقل فيه من مدينة مكة الذي تدور فيه أحداث القسم الأول إلى مدريد التي تجري فيها أغلب أحداث القسم الثاني مستخدمة التعيين المكاني والزماني في بداية هذا القسم بغية الإيهام بواقعية تلك الأحداث التي تتحرك في فضاء زمني راهن وزمن تاريخي تخييلي تحاول من خلاله أن تستعيد الوجه الإنساني والحضاري المشرق للحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، بوصفها البديل المقترح عن الواقع المتردي الراهن. المكان الرمز والبطل تلعب جملة الاستهلال التي تشكل عتبة مكانية دورا هاما في التأسيس لبنية السرد والنهوض به، من خلال دور البطولة التي يلعبها شارع أبو الرووس سواء على مستوى سرد أحداث الرواية، أو دوره في تنظيم تلك الأحداث، إذ يحمل الاسم دلالة رمزية ستكشف عنها الشخصيات التي تسكن هذا المكان الذي يتميز بكونه حيا فقيرا قديما تجري فيه حادثة قتل فتاة تدعى عزة، يظهر فيما بعد أنها لم تمت، وأنها قد اتخذت شخصية فتاة أخرى بغية خلق عنصر تشويق يزيد من غرائبية هذا العالم ومفارقاته التي تجعل المحقق ناصر عاجزا عن حل ألغاز تلك الجريمة، وهذا العالم المتداخل والغريب لشارع أبو الرووس، والذي لا يختلف حال مدينة مكة التي تتداخل فيها المظاهر العمرانية القديمة مع مظاهر تجارة العقارات عبر الانترنت، والأبراج الحديثة لتجار العقارات وشركاتها التي تستولي بشراهة عجيبة على هذا المكان، وتقوم بتهديم معالم المدينة بهدف تحقيق مزيد من الربح. يتولى شارع أبو الرووس في بداية الرواية التعريف بمقدرته الخاصة على سرد حكايته والتعريف بنفسه وبألاعيبه التي يقوم بها وقدمه التاريخي للتعريف بحقيقة هذا المكان: “أنا أبو الرووس ملك التنفس، اللقب الذي استحققته من مهارتي في مواجهة المستحيل. فحيث إنه لم يعتنَ بتنويري قط فقد تعلمت أن أجلس في العتم مخَدَرا وأسحب نفسا عميقا من الأنف (معبأ بخمائر فضلات ونزِّ بالوعات ونشاز أصوات، كشأن الحواري المنسية) وأحبسه لدقائق قبل إطلاقه بتأن من الفم في هيئة إشاعات وخرافات ومحظورات أخنق بها سكاني، الذين يبدأون في النبش عن مسكنات في تاريخهم عن احتمال واقعهم الكالح، أو تفهم العصر الذّري الذي سيدوسهم) ص 7. تستخدم الكاتبة الاسماء الحقيقية للأماكن وقيم الحياة الاجتماعية الجديدة مثل جهاز الكمبيوتر والرسائل الإلكترونية بغية الإيهام بواقعيتها وراهنيتها، حيث يلعب التحول والتبدل السريع والواسع الذي يطرأ على المكان من الناحية العمرانية الحديثة دورا مهما في التدليل على واقع القيم السائد، ودوره في تغيير معالمها التاريخية القديمة، وإرساء قيم الربح والمنفعة. وفي حين تدور أحداث الرواية في عالم واقعي وآخر افتراضي هو عالم الانترنت، فإن وصف المكان وتحديداته يلعب على المستوى الدلالي والرمزي دورا هاما من حيث كشفه عن علاقة الشخصيات بالمكان من جهة، ومن جهة ثانية عن طبيعة العلاقات الاجتماعية التي تحكم ذلك العالم الذي يعد بحكم موقعه الديني مركز استقطاب لهويات وشخصيات من أجناس وجغرافيات مختلفة تتداخل مصائرها فيه. في بنية السرد يبرز عنصر التجريب في هذه الرواية من خلال التقنيات المختلفة التي تستخدمها الكاتبة في مغامرتها السردية، سواء من حيث استخدام لغة اليوميات والرسائل، أو الوثيقة التاريخية التي تتحدث عن تاريخ مكة القديم، أو استخدام التصوير المشهدي الذي يحمل في كل مقطع من الرواية عنوانا محوريا خاصا به، أو التضمين لمقاطع من رواية نساء عاشقات في رسائل عائشة إلى حبيبها الألماني ما يعذّ خرقا لسطوة القيم والتقاليد الصارمة في هكذا مكان، ما يكشف عن شعرية العنوان وإحالاته على داخل النص الروائي أيضا. وتلعب الكتابة وشكل حروف الطباعة دورا مهما في التمييز بين مستويات الكتابة وضمائر المتكلم، والانتقال بين أمكنة وأزمنة مختلفة تحاول الروائية أن تجعل القارئ ينتقل بين مستويات السرد وعوالمه المختلفة. وبقدر ما حاولت الكاتبة أن تنوِّع في طرائق السرد وسماته الفنية، إلا أن تلك المشهدية والانتقال بين عوالم واقعية وافتراضية وتاريخية لاسيما في القسم الثاني من الرواية قد جعل من الصعب المحافظة على نوع من العلاقة بين تلك المستويات، بل إن بعض خطوط السرد في القسم الثاني من الرواية قد فقدت السيطرة عليها فانتهت فجاءة، وكأنها كانت تنمو وتتحرك بصورة مستقلة بعيدا عن الخطوط الأخرى. يتولى الراوي العليم وهو راو متعدد مهمة السرد في الرواية، فهو قادر على الوجود في جميع الأمكنة ويعرف كل ما يدور أو تفكر فيه شخصيات الرواية، التي تحاول أن تقيم نوعا من التداخل والتفاعل بين حكايات العشق المختلفة قديما مثل حكاية عشق ملكة سبأ بلقيس وكتاب الحب لابن حزم وحالة التعايش والتفاعل التي ميّزت الحضارة العربية في الأندلس، وقصة عشق عائشة للشاب الألماني الذي التقت به أثناء الدراسة هناك، بهدف التأكيد على قيمة الحب العابر للحدود الدينية والجغرافية والثقافية بوصفه قيمة وجودية ـ إنسانية كبرى مجردة من أي اعتبار آخر سوى الاعتبار الروحي والعاطفي الإنساني الذي يرتكز عليه، ويعبر عنه، ويدعو إليه، وهو تحاول الرواية أن تقوله وتدعو إليه بصورة غير مباشرة في متنها السردي الذي يحتفي به ويستعيد صوره التاريخية للتذكير بديمومة حضوره سابقا وراهنا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©