السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سيارة محافظ البنك المركزي

سيارة محافظ البنك المركزي
23 فبراير 2011 19:41
أطلق المؤلف على كتابه صفة: “أدب التّاريخ”، وجاء الكتاب شهادة من أيّام حاسمة حفلت بها العقود الثلاثة من حكم الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، فالكاتب وهو اليوم في التاسعة والثمانين من عمره رجل له تاريخ، وهو خريج جامعة “السّربون” وشارك في الكفاح السياسي وأنتخب بعد الاستقلال (1956) لعضوية المجلس التأسيسي ودعي لمسؤوليات وزارية في الزراعة والإعلام وغيرها. وعن عنوان كتابه يقول المؤلّف: “هي شهادة شاهد صيغت عمدا في صيغة حوارات متعددة الأطراف، اصطنعت لهذه الحوارات موائد جامعة، إذ الالتقاء على الطعام أدعى إلى الانبساط، وأنسب بالمناجاة والانشراح، وأقرب للبوح بمكنونات الصدور”. وحاول المؤلّف اجتنابا لما أسماه “وقار السرد الأدبي” تخفيف الحوار بالهزل والمزاح، وإن كانت مادة الكتاب مستمدة من أحداث التاريخ، فإن المؤلف اعتمد التحري في سلامتها من الافتعال والزيف وهو يقول: “إني رأيت انتاجنا المعاصر في الغالب من آثاره الأدبية، ميالا إلى الجد العبوس، زاهدا في لغة المرح وخفة الدعابة”. واذا كان الأدب “مأساة أو لا يكون” حسب المقولة المشهورة عن الروائي التونسي محمود المسعدي، فليس من متممات الصدق في استشعار المأساة هجر مواقف الظرف والتعالي عن مزاح الظرفاء، بل لعل أدب الظرف وتوطين الهزل أبعد منالا ـ حسب رأي المؤلف ـ في الصيغة وأعسر تخفيفا في المضمون وأكثر استعصاءً عن التحقيق. ولعله لا يغنم القارئ غير متعة الضحك اذا بدا له في المتن وجه من اوجه الاختلاف والمساءلة. وفي هذا السياق اخترنا لقراء “الاتحاد الثقافي” القصة التالية للمؤلف والتي يعود تاريخها الى السنوات الاولى من استقلال تونس: في يوم حر وصهد، ذي غيم ورطوبة، ترك علي العباسي مكتبه بالطابق الثالث من مبنى البنك المركزي، وقد قاربت الساعة الثالثة، وخلت المكاتب من الموظفين إلاّ نفرا من المديرين، يتوقّعون أن يدعوهم السيد المحافظ للتشاور في بعض شؤون البنك، فظلوا ينتظرون انصرافه. نزل علي إلى المربض السفلي بدهاليز المبنى، وقصد إلى ركن سيارة المرسيدس السوداء، يهم بالركوب. وتقدم منه السّائق يريد أن يفتح الباب ويجلس إلى المقود. فصرفه علي يقول: بل خذ لأولادك ساعة في البحر تروّح عنهم من هذا الشهيلي (الحر الشديد). ثمّ خلع البدلة ونفس عن رقبة القميص، وجلس بالمقعد وشغّل المحرك، يتعجّل بغطسة في بحر “الزّهراء” (احدى ضواحي تونس)، تنسيه حصاد هذا اليوم من قضايا البنك: تأرجح الرّصيد من سلّة العملات الأجنبيّة، وعجز ميزان الدّفوعات، وتفاقم حجم النقص في التسديد من ديون البنك، وإصرار وزير المال على التّفاؤل في التّغلّب على الأزمة... اليوم خمر وغدا أمر، ولكلّ ساعة قدرها... شغل المذياع، وحاد الإبرة عن موجز الأنباء، وليس فيه غير ما سمعه بالمكتب من نشرة الثّانية. وإختار محطة تبثّ الأغاني، وراح يصاحب المغنيّة “صليحة”، في مقطوعتها الشجية: “يا خيل سالم باش روحتولي”... وتنقر أنامله خشبة المقود وهو يتمايل بالنشوة، نشوة البدوي، يهتز منه القلب لصوت هذه المغنية. ولم ينتبه المنتشي إلى رجله اليمنى تعفس مداس السرعة. فقفزت إبرة اللّوحة إلى ما يقارب مائة وأربعين كيلومترا بطريق وسط العمران. يعلم السيد المحافظ ان السرعة القانونية الثمانين. وغطّت نبرات صليحة على صفارة الحرس (شرطي المرور) تدعوه إلى التوقف، ثمّ إلتفت ببصره إلى المرايا فوق المقود، فبصر بالعون (الشرطي) يلوح إلى السيارة بذراعيه، فأشفق على هذا الموظّف وآثر الإمتثال، ثم حرك السيّارة إلى الخلف راجعة، حتّى وقفت على مستوى المفرق بين “رادس” و”بن عروس”، قريبا من موقف العون. ونظر فإذا الحرس في زيّه الأخضر، يتقدّم نحو السيّارة ببطء مقصود. ترى من الحر وتعب الوقوف، أم أنّه تكلّف قصد به الحرس التّذكير بانّه صاحب الأمر في الطّريق، وممثل السّلطة في تنظيم المرور ورعاية القانون. وقف العون جانب النافذة ورفع يمينه بتحيّة مقتضبة من الإصبعين: الإبهام والوسطى، ونظر إلى هذا المخلوق المحظوظ: الجالس على أريكة مريحة من جلد ناعم أصفر وثير. وسط مرسيدس مبرّدة، لا يركب مثلها إلا وزير أو واحد من أهل الثّراء الجدد. هذا الأسمر الفاحم، المشعر الصّدر، الكث شعر الرّأس، فلا يكون إلا سائقا لصاحب السيّارة. الله أعلم إلى أين هو متّجه به في هذه القائلة المحرقة. لا يكون أمره في الخدمة بمثل هذه السّاعة المتأخّرة، لا ريب أن اختلسها من المستودع في غفلة من المسؤول، وأنّه قاصد بها الشّاطئ للاستحمام، أم لقضاء بعض الشّؤون الخاصّة. مسكينة الدّولة إذا صارت ممتلكات الإدارة مهملة، متروكة إلى عبث مثل هذا الأسود المشعر. أما هو المناضل السّابق، عرض حياته في جبل “عرباط” لمقاومة الفرنسيس. كل ما وجدت أن تكافئه به الدّولة، بعد الاستقلال: عون حرس، رابض بشارع مسفلت، في قائلة محرقة، يحرس الطّريق ويضمن سلامة المرور لمثل هذا المجنون. طال إنتظار علي العبّاسي، جالسا وراء المقود، وصوت صليحة لا يزال يصدع، والحرس واقف بجانب الباب يمسح العرق عن جبينه وينظر إليه في صرامة الحاكم يخاطب أحد الخارجين عن القانون، بادره علي يقول: الله يعينك، النهار سخون. قال الحرس: وهل تشعر سيادتك بالسخانة وسط هذه السيّارة المكيّفة، الله أعلم أخذتها بموافقة سيّدك وعلمه أم في غفلة منه. أدرك علي ما وقع فيه الحرس من لبس، وما تجدّد معه من اشتباه في المهنة والمنزلة الاجتماعيّة. كلّ ذلك بسبب دكنة البشرة (هو اقرب الى الزنجي) وسواد الشّعر الكثّ. هذه الملامح المستنكرة من مواطنه، كانت مريحة في باريس لمغازلة البنات في الحي اللاّتيني. أصبحت وصمة، كالتّهمة، عند أهله بتونس، تنزله عندهم منزلة عبيد “غبنطن” من بلاد” قبلي” و”دوز” جنوب “شط الجرياد”. حكاية قديمة، قصّة الملامح ودلالتها على المنزلة “سيماهم في وجوههم”... ثمّ أقبل على الحرس يسأله: اش هي المخالفة، فرد مزمجرا: مخالفة واحدة؟ بل مخالفات عديدة: أوّلها الإفراط في السّرعة. الثّانية عدم احترام إشارات التقاطع، ثالثها عدم الامتثال بالتّوقّف المطلوب منك بصفّارتي هذه الصدّاحة. قال علي: والله يا أخي كنت متعجّل للوصول لبحر. قال: متعجل بسيّارة عرفك (سيدك في العمل). قبل هذا هات أوراق السيّارة. مدّ علي يده إلى الصّندوق الأمامي وأخرج البطاقة الرّماديّة. وبطاقة التّأمين وشهادة المراقبة الفنيّة. فناولها للحرس. فما أن قرأ هذا العون عنوان البنك المركزي على البطاقة الرّماديّة حتّى صاح في وجه علي: ـ ما تحياش، (لا تستحي) سيارة السيّد محافظ البنك المركزي، رجل مسؤول أعلى من رئيس الحكومة. فلوس الدّولة كلها في أمانته. وتتجوّل بها.. سيادتك، أحلف صادقا أنّ محافظ البنك المركزي على غير علم بفعلتك. مرسيدس رقم 250 لا أقل منها ليتعجل سيدي إلى البحر. من هذا يحصل خراب الدّولة... قال علي وقد طال به الوقوف وفرغت صليحة من مقطوعة “خيل سالم”: ـ طيّب، ماهو الحل لهذه المشكلة. ـ الحل أنّي أكتب محضرا في المخالفات وأرفع تقريرا إلى السيّد محافظ البنك. تكلف علي (محافظ البنك المركزي) الخوف وتوجّه إلى العون: ناشدتك بجاه ربي، وبالّذي يعز عندك، لا تشتكي بي إليه. أخاف أن يفصلني عن الخدمة وأنا بابا صغيرات. قال الحارس في نشوة الانتصار: وانا الواقف في هذا الصّهد... أتحسبني لست بابا صغيرات، خمسة حاشي عويناتك، هيّا هات بطاقة التّعريف، ادرك علي انّ اللّعبة ستنفضح، وخشي أن يجد الحرس كالانكساف إذا كشفت له بطاقة التعريف عن هويته، فتكفل الجزع وقال: بطاقة التّعريف ضاعت علي منذ شهر. صاح الحرس: وهذه مخالفة خامسة. السيّد يسوق ويتجوّل بلا بطاقة هويّة، هل عندك شهادة الإبلاغ عن ضياع من مركز الشّرطة. قال علي: لا والله قال: حسابك عسير، يا إبن العم. ثمّ أخرج من كم البدلة زماما (كنشا) صغيرا وقلم حبر وأخذ يكتب المحضر، وتوجّه إلى علي يسأله: اسمك ولقبك، وحرفتك وعنوانك. أدرك علي انّ اللّعبة منتهية عند هذا الحد، فأجاب: ـ علي العباسي، بن محمّد بن صالح، المسكن بالزّهراء، الحرفة: محافظ البنك المركزي. كاد القلم والدّفتر أن يسقطا من يدي الحرس عند سماعه الجواب ثمّ استوى واقفا يرفع يمينه بتحيّة عسكريّة وهو يقول متلعثما. ـ سيادتك انت، سي علي، أعني محافظ البنك المركزي، أنت بنفسك قال علي وناوله بطاقة التّعريف: أنا هو، وأعتذر لك عن المزاح. قال الحرس: والله حسبتك السوّاق، وأعذرني عن بعض الكلمات الجارحة فانا أدافع عن مصالح دولتنا. قال علي: وهل ألومك على مثل هذا الموقف المشرف، لو كان كلّ أعوان الدولة على مثل حرصك، إذا لا خوف عليها من الخراب. أنت إنسان طيّب، وسألفت إلى ترقيتك أنظار زميلي وزير الدّاخليّة، قل لي على اسمك ومن أين أنت. وهذه واحدة بواحدة، كنت تطلب اسمي وعنواني، وجاء دوري لأردّ لك هدف التّعادل. قال العون: اسمي المنصف الرّحباني من جهة الحاجب. قال علي: إذا انت ولد عمي، انا كذلك من الحاجب، لولا أنك في الخدمة لدعوتك إلى الرّكوب نذهب إلى البيت نتغدى معا بما كتب. الآن أصبحنا عائلة واحدة والأخ يعين أخاه. خذ هذه بطاقتي الشّخصيّة بها رقم الهاتف بالبيت، لا تبح به لأحد، إذا صادفتك قضيّة مع أحد البنوك، امر لي بالرّقم الدّاخلي ولا تتحرّج. هيّا أستودعك الله يا إبن العم مع السّلامة. نظر الحرس إلى المرسيدس وقد عادت تلتهم الإسفلت وهو لا يزال بمكانه واقفا، والبطاقة الشّخصيّة بيمينه، فأسرع يدسها بين أوراقه وهو يقول: والله ولد أصل، الله يرحم الأميمة (الام) التي تخبط في بطنها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©