الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غُرْبَة المُبدعين في زحام المدعين!

4 مايو 2016 00:03
حتى الآن، وحتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً لا أجد تعريفاً محدداً لمصطلحات وكلمات يلوكها العرب منذ عشرات السنين.. لا أعرف معنى المثقف والمثقفين والنخبة والمناضلين والمفكرين.. كل ما أعرفه أن هذه الكلمات لا وجود لها إلا في القاموس العربي الحديث وفي الأمة العربية، لكنها غائبة تماماً في العالم كله، فلم نسمع أبداً عن النخبة الأميركية أو المثقفين الفرنسيين أو المناضلين أو المفكرين البريطانيين، ولا نسمع أبداً عن الناشطين إلا في أمة العرب.. وكل ما ارتحت إليه وأراه صواباً أنها مصطلحات استعلائية تمييزية، وأنها مجرد عنصرية أو قبلية فكرية، وأنها أسماء سماها العرب وآباؤهم لم ينزل الله بها من سلطان، وأن المثقفين والنخبة والمفكرين والناشطين والمناضلين هم الاسم الحديث للمعتزلة أو السوفسطائيين أو الخوارج أو الحشاشين. هم امتداد لكل الحركات الاستعلائية التي عصفت بالأمة منذ الفتنة الكبرى. كما لا أعرف معنى الاستنارة والتنوير وهما أيضاً مصطلحان لا وجود لهما إلا في الأمة العربية. وأعرف تمام المعرفة أن النخب العربية كانت وما زالت وستظل تجسيداً أميناً للمكلمة أو الظاهرة الصوتية العربية التي لم تقدم فعلاً أبداً، وإنما اكتفت بالأقوال المغرقة في الاستعلاء والغموض، وكل ما ليس له معنى يقال إن معناه في بطن الشاعر، أي أنه لا يخرج أبداً إلى عقل القارئ أو السامع.. والمثقفون العرب يغضبون جداً إذا فهم الناس ما يكتبون ويقولون ويسعدهم جداً ألا يفهم الناس كلامهم، لأن عدم فهم الناس دليل على نخبويتهم وعلو كعبهم. والفعل العربي عموماً غائب تماماً لحساب القول العربي الحاضر بقوة على كل المستويات السياسية والثقافية والإعلامية، ونحن نتسابق فقط في اختراع المسميات والمصطلحات والشعارات لكن الفعل ميت، ويحلو للمثقفين العرب استخدام مصطلح الكتابة المختلفة للتعبير عن الكلام غير المفهوم، وأظن أن معنى مختلفة أو متمردة هو أنها كتابة خارج السباق القيمي أو حتى اللغوي، أو هي الكتابة المنفصلة عن الواقع وعن الأحداث وعن العقول والأفهام. وهناك من قال لي إنه يكتب للأجيال القادمة أو بعد القادمة، وهو يعني أنه يسبق زمانه بفكره وحروفه، وهذا قول استعلائي وتبرير ساذج لأزمة المثقفين العرب الذين انقسموا إلى فريقين كل منهما على باطل، أو لهما الفريق الذي يقدم للجمهور ما يريده ولا يفيده بالإغراق في الإعلام السوقي واللهجات العامية المسفَّة والسباب والشتائم والتدني، أو ما أسميه إعلام المقاهي أو إعلام الشيشة. والفريق الآخر هو المتعالي على الجمهور أو فريق كتابة أو إعلام (المونولوج) أي حوار الإعلامي أو الكاتب مع نفسه، فهو لا يقدم للجمهور ما يريده ولا يقدم له ما يفيده. وعندما أقول: المثقف العربي، فإنني أقول ذلك تجاوزاً أو مجازاً لأنني لا أعرف معنى مصطلح (المثقف)، فإذا قلنا إن المثقف هو الأديب، فإننا نقول بارتياح شديد إن الحالة الأدبية العربية متردية ونطيحة ومنخنقة، وإن الأدب العربي أصبح قرين قلة الأدب والتجاوز والإغراق في الرمزية التي تشبه حالات الدروشة وطريقة المجاذيب في الذكر، فكلما كنت غير مفهوم كنت أديباً لامعاً وشاعراً كبيراً، وكلما زاد الهذيان كنت واصلاً ومتصلاً بتعبير الدراويش والدجالين. وإذا كان المثقف هو الإعلامي كان الخطب أكبر، لأن العالم العربي اليوم فيه مائة مليون إعلامي أو يزيد إذا أخذنا في الاعتبار عدد الفضائيات والصحف والمدونات والمواقع الإلكترونية والحسابات الشخصية على هذه المواقع، فكل من لديه صفحة على موقع إلكتروني يعد إعلامياً إذ يقول ما يحلو له وباللغة التي يريد، وكلما تدنت الألفاظ والتعليقات على الصفحات ازداد عدد المتابعين والمعجبين. وهناك كثيرون أصدروا كتباً جمعوا فيها ما يسمى (البوستات) على فيسبوك وأصبحوا في غمضة عين كتاباً ومؤلفين وحققت كتبهم مبيعات ضخمة، ومعنى ذلك أن هناك زحاماً خانقاً في القمة وفي مقاعد النخبة وقاعات وصالونات المثقفين. والأخطر في الأمر أن العامية بفضل المواقع والفضائيات أصبحت لغة كتابة وإعلام بعد أن كانت لغة أو لهجة الشارع المنطوقة فقط. وحين تصبح العامية لغة كتابة تتراجع الفصحى وتتحول مع الوقت إلى لغة «متحفية». ومع الأيام ومع هجوم العاميات على ساحة الكتابة، قد نفاجأ بنصب تذكاري للغة العربية المجهولة أو الفصحى مكتوب عليه بالعامية عبارات نعي للفصحى. وإذا كان المثقف هو الكاتب في الصحف الورقية، فإن هذه الصحف أو هذا النوع من الصحافة في حالة احتضار أو موت سريري، وأن تصفح الصحف الورقية لم يعد اهتماماً يومياً للناس، وأن هذا النوع من الصحافة لن يموت تماماً، لكنه سيظل في حالة احتضار طويل، وسيكون موجوداً مثل وجود المذياع بالنسبة للفضائيات أو في مقابلها. فالإذاعة موجودة، ولكن لا أحد يشعر بأنها على قيد الحياة، فالإذاعة والصحافة الورقية صارتا مثل إنسان بلغ من الكبر عتياً، ولم يعد يخرج من غرفته أو من بيته ولم تعد له حركة في الشارع أو في العمل أو في المجالس أو المنتديات. ولم يعد أحد يشعر بوجوده، هو موجود ولكنه لا يتحرك، وليس مشتبكاً مع الأحداث. والأسوأ بالنسبة للكتاب الصحفيين أن الكل أصبح يكتب في الصحافة أو في المواقع، والكل يحلل في الفضاء ولم يعد هناك قراء. هناك زحام في مقاعد الكتاب وفراغ وخواء في مقاعد القراء، وتلك أزمة أخرى في أمتنا العربية، وأعني بها أزمة زحام الأساتذة وخواء وندرة التلاميذ، هذه مشكلة، بل هي مأساة في هذه الأمة، مأساة كثرة الكتاب وندرة القراء. كثرة المعلمين وندرة المتعلمين، كثرة القوالين والمتكملين وندرة السامعين. كثرة الوعاظ وقلة الموعوظين والمتعظين، كثرة الذين يعرفون وخواء وضمور الذين يجهلون، هناك زحام مدعين وتصحر وجفاف مبدعين. وربما هي الأزمة الحقيقية في النظام التعليمي العربي، فمهما طورنا واخترعنا الخطط والنظريات للنهوض بالأنظمة التعليمية فسوف تواجهنا المشكلة، وهي تمرد الناس على أن يكونوا تلاميذ أو متعلمين وإحساس التلميذ بأنه أعلم من أستاذه، وهو ما يؤدي إلى جرأة التلميذ على الأستاذ وتعاليه على التعلم، وإحساسه بأن المعلم يعمل عنده، وهذا الوضع أو الهرم المقلوب هو المسؤول عن الخلل العربي العام في كل مجال، وهو الذي جعل عالي الأمة سافلها وسافلها عاليها، وعاقلها غافلها وغافلها عاقلها، ولكل قارئ ألف كاتب وعند العرب ألف مصدق لكل كاذب، وهذه غربة المبدعين في زحام المدعين! *كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©