الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«نقد ملكة الحكم» لإمانويل كانط بين ترجمتين!

«نقد ملكة الحكم» لإمانويل كانط بين ترجمتين!
28 مايو 2009 01:33
عندما كنتُ بصدد التحضير لنيل درجة الماجستير والدكتوراه في جامعة بغداد بين عامي 1994 ـ 1997 عن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، لم تكن المتون الفلسفية الكانطية مترجمة بالكامل إلى اللغة العربية ما عدا كتاب «نقد العقل المحض/ 1781» بترجمتين، واحدة قديمة وأخرى حديثة، وكتاب «نقد العقل العملي/ 1787»، وكتاب «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق/ 1785». بينما بقي كتاب كانط «نقد ملكة الحكم/ 1790» عصي الترجمة؛ فلم يقدم المصريون ولا اللبنانيون ولا المغاربة على ترجمته بسبب صعوبة هذا النَّص الفلسفي المركزي في الفكر الجمالي الغربي عامَّة والألماني منه على نحو خاص كما يقولون. في مطلع ألفيتنا الثالثة، تبادرت إلى الظهور صحوة ترجمية عارمة شهدتها الأوساط الفلسفية في الوطن العربي، صحوة مدعومة من مؤسسات ثقافية وترجمية جديدة قطعت على نفسها عهداً بترجمة عيون الفكر الفلسفي والنقدي والإبداعي إلى اللغة العربية. ويعد مشروع «كلمة» الإماراتي في أبوظبي، أحد هذه المؤسسات الجديدة الجادة التي بذلت، وما زالت، جهوداً حثيثة لترجمة ما فاته قطار الترجمة إلى العربية من نصوص ومتون فلسفية مركزية في الفكر الفلسفي الغربي. كتاب كانط «نقد ملكة الحكم»، الذي غيَّبه المترجمون العرب لعقود طويلة لأسباب معرفية، ظهر بترجمتين رائعتين بين عامي 2005 ـ 2009؛ الأولى عن الألمانية مباشرة ترجمها الدكتور غانم هَنا، أستاذ الفلسفة في جامعة بريمن الألمانية، ونشرها «مركز دراسات الوحدة العربية/ بيروت 2005»، والثانية يترجمها الأستاذ سعيد الغانمي، الكاتب والناقد المقيم في أستراليا منذ أعوام عدة، ونشرها كل من «دار الجمل» في كولونيا و»كلمة» في أبوظبي عام 2009. في ترجمته، يحتمي غانم هنا بالنص الألماني، ويعتمد الطبعة الثانية من «نقد ملكة الحكم» التي صدرت عام 1793، وإلى جانبه الترجمة الفرنسية والإنكليزية والألمانية. بينما يحتمي سعيد الغانمي، ومنذ مطلع التسعينات الماضية كما يقول..، بخمس ترجمات إنكليزية لنص الكتاب، وإلى جانبه ترجمة غانم هنا، وعدد من النصوص الكانطية الأخرى المترجمة إلى العربية سابقاً، إلى جانب النَّص الألماني والفرنسي. كلا المترجمين يؤكِّد جسامة ما أقبلَ عليه؛ فليس متن «نقد ملكة الحكم» بالسهل والمطواع، بل إن متون كانط الفلسفية برمتها ليست بالسهلة في نقلها إلى العربية أو إلى بقية اللغات الأوروبية. لكن المترجَمَين، وبقدر ما غامرا، نراهما بذلا جهداً ترجمياً جباراً في ترجمة النَّص إلى القارئ العربي على الرغم من غموض موضوعاته، ووعورة منعرجاته، وصعوبة جهازه المفاهيمي. كلا المترجمين قدّما لمتن النَّص؛ فغانم هَنا وضع مقدِّمته الشخصية عن متن النَّص التي انحصرت بين صفحتي 17 ـ 60، خاض هّنا خلالها في جوانب عديدة من تفاصيل حياة كانط والعصر الذي عاش فيه من الناحية الفلسفية والثقافية، ومن ناحية نشأة نص «نقد ملكة الحكم» ذاته، وتوالي طبعاته، ومن ثم أهم الأفكار الفلسفية الواردة فيه. بينما كانت مقدِّمة سعيد الغانمي عن متن النَّص الكانطي قد انحصرت بين صفحتي 9 ـ 28، وحملت عنوان «كانط وفلسفة الجمال واللغة»، وواضح من عنوان المقدِّمة أن الغانمي آثر إضاءة النَّص الكانطي من حيث علاقته باللغة، وهو الجانب الذي لم يعمل عليه أغلب الذين ترجموا مؤلَّفات كانط إلى العربية، بل وأغلب المتخصِّصين منهم بدائرة المعرفة الفلسفية الكانطية العربية. وجدتُ في ترجمة سعيد ما يشفي الغليل؛ فقد أقبل الغانمي على ترجمة ما يُعرف بـ «المقدِّمة الأولى»، وهي «مقدِّمة» طويلة، تلك التي وضعها كانط ليقدِّم بها كتابه «نقد ملكة الحكم» في طبعته الأولى عام 1790 إلا أنه عدل عن ذلك، ونشر الكتاب من دون هذه «المقدِّمة» التي يجد الدارسون الكانطيون فيها كنزاً يلقي الضوء على الكثير من جوانب الفلسفة الكانطية وهي تشد الرحال نحو بناء فلسفة جمالية مأمولة. ما يلاحظ على الترجمتين، أن غانم وسعيد تعامل كل واحد منهم على نحو نقدي في اصطفاء الألفاظ العربية للمصطلحات التي استخدمها كانط في كتابه هذا؛ فمن المعروف أن المصريين والسوريين واللبنانيين والمغاربة المهتمين بترجمة النصوص الفلسفية الكانطية على قلتها، بل وعلى قلة مترجميها أيضاً، اجتهدت/ اجتهدوا في نحت وصياغة بعض المقابلات العربية للمصطلحات الكانطية، خصوصاً يوسف كرم، وزكريا إبراهيم، وعبد الرحمن بدوي، وأحمد الشيباني، ومجاهد عبد المنعم مجاهد، ونازلي إسماعيل، وجورج طرابيشي، وموسى وهبة، وغيرهم. وفي هذا السياق، كان الدكتور موسى وهبة «لبناني» أول من فتح طريقاً ترجمياً مغايراً في نحت المصطلح العربي لمقابله الكانطي بلغته الألمانية وبترجماته الفرنسية والإنجليزية. كانت محاولة وهبة تلك قد أثارت الكثير من النقاشات على الصعيد الأكاديمي والفلسفي والمعجمي العربي. لذلك، لم تلق نحوت موسى وهبة الكانطية باللغة العربية قبولاً لدى غانم هنا وسعيد الغانمي اللذين آثرا نحوتاً مصطلحية أخرى كانت تقترب بقدر ما تبتعد اجتهاداً من نحوت مألوفة استعملها عبد الرحمن بدوي، وزكريا إبراهيم، ونازلي إسماعيل، ومجاهد عبد المنعم مجاهد. على الرغم من اعتقادي الجازم بأن القارئ هو المترجم الحقيقي، إلا أن البحث عن فضيلة الترجمة يبقى أمراً مطلوباً، خصوصاً وأن مقالتنا هذه تتنفس هواء المقارنة بين ترجمتين لنص فلسفي فريد في موضوعه ولغته الفلسفية وبنائه المفاهيمي. ومن هنا أعتقد أن لكلتا الترجمتين فضائل؛ فترجمة غانم هَنا عن الألمانية حافظت على قيمة الروح الألماني للنص الكانطي، وكانت تفهم الترجمة على أنها «مطابقة» ترضي النَّص ذاته في لغته الأصل، في حين بدت ترجمة سعيد الغانمي عن الإنجليزية تحافظ على قيمة الروح الكانطي في النَّص، لكنها كانت تفهم الترجمة على أنها «مطابقة مفتوحة» ترضي النَّص ذاته في لغته الأوروبية وتفتح أفقاً للقارئ لكي يتفاعل مع النَّص الكانطي. مهما تكن الفضائل متعددة في الترجمتين، ثمة فضيلة كبرى تلك هي وصول كتاب إيمانويل كانط «نقد ملكة الحكم» إلى العربية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©