الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نوادر الطيب

نوادر الطيب
28 مايو 2009 01:32
يروي السري الرفاء في مختاراته الشعرية نقلاً عن الأصفهاني في أن كُثيِّراً خرج من عند عبد الملك بن مروان وعليه مِطْرف، أي رداء من خز مربع ذو أعلام، فاعترضته عجوز في الطريق اقتبست ناراً في روثة، فتأفف كثيِّر في وجهها، فسألته من أنت؟ فقال كُثيِّر عزّة، فقالت: أنت القائل في عزة: «فما روضة زهراء طيبة الثرى يَمُجَّ الندى جثجاثها وعرارها بأطيب من أردان عزة موهنا وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها». فقال كثير نعم. فقالت: لو وضع المجمر اللدن بالمندل على هذه الروثة لطيّب رائحتها، هلا قلت كما قال امرؤ القيس: ألم تريانى كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا وإن لم تَطَيَّبِ فناولها المِطرَفْ، وقال لها: استري عني هذا. ومن الواضح أن هذه النادرة من صنع الرواة المتأدبين، فقد جعلوا العجوز تحمل روثة فيها نار كي تضرب بها المثل لكثير وتقرن بها عزة لتوجعه المقارنة، وجعلوه يصادفها في الطريق المظلم فيتأفف منها من دون أن يعرفها، وجعلوها على قدر كبير من البلاغة وحضور البديهة بحيث تذكر له شعره وتقارنه على التوّ بشعر امرئ القيس حتى تفحمه وتخجله وتضطره إلى أن يتنازل لها عن منحة الخليفة ليشتري صمتها ويغطي على رائحة شعره في حبيبته. لكن الفكرة الأساسية في الحكاية هي امتداح استغناء الحسناء عن الطيب، وتسمى حينئذ «غانية» لأنها تستغني بجمالها الطبيعي ورائحتها الزكية عن الزينة والعطور ويصبح بوسعها حينئذ أن تقول عن نفسها: عجبت لمن يطيبنى بمسكٍ وبي يتطيب المسـك الفتيتُ خلاخيل النساء لها وجيبٌ ووسواس وخلخالي صَمُوتُ ولو أن النساء غنينَ يومًا عن المسك الذكي كما غنيتُ لأصبح كل عطار فقيرا قليلا ماله ما يسبيتُ ومن الطريف في هذه الأبيات أن تقترن الرائحة بالصوت، فكلاهما من المعطيات الحسية التي يصعب حجبها، بخلاف النظر الذي يمكن خداعه، فالحسناء تزهو بأن المسك هو الذي يتطيب برائحتها، وبأنها ليست بحاجة لإثارة الانتباه بخلخالها لأنها غانية بذاتها، ولو كان كل النسوة مثلها في الحسن لافتقر العطارون وتجار الروائح ولما وجدوا ما يقتاتون به ليلتهم. ويقول شاعر آخر هو «النامي» في وصف البخور: بخور مثل أنفاس الحبيب وطيب قد أخلَّ بكل طيبِ يظل الذيل يستره ولكن ينمُّ عليه أزرار الجيوبِ إذا ما شم أنفٌ حنَّ قلبٌ كأن الأنف جاسوس القلوب وقلب التشبيه هنا، بتمثيل العطور والبخور بأنها مثل أنفاس الحبيب من أرق المداخل الغزلية، حيث يصبح الأنف ـ وليس المعدة على ما هو مشهور في أدبيات اليوم ـ هو الطريق إلى القلب وتحنانه، أو هو الجاسوس على القلب كما يرد في هذه الصياغة الشعرية الفاتنة. وإذا كان يوسف الصديق هو المثل الأعلى في الجمال الذكوري فإن «ريح الحبيب» يظل من أجمل معطيات الحياة وأعلقها بالوجدان ومن ثم يصلح لأن يكون المثل الأعلى لكل العطور والرياحين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©