الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مشاهد ووجوه من الصحارى والأسواق

مشاهد ووجوه من الصحارى والأسواق
28 مايو 2009 01:20
الفن الاستشراقي ليس كله استشراقيا بالمعنى الذي تحدث عنه إدوارد سعيد وسواه في مقاربة ظاهرة تناول حياة الشرق وحضارته ومعتقداته وخصائصه من قبل الفنانين والأدباء الغربيين، وغير الغربيين أحياناً، من خلال نظرة ورؤية تقومان على فهم خاص مشوه لهذا الشرق، هو الفهم الذي لا يرى في الشرق والمشرقيين سوى عالم من الجهل والتخلف والجوع والعنف، وهو شرق المرأة المضطهدة رغم المواصفات الجمالية المتميزة، وهو الشرق الذي ينهض على قدر كبير من التخييل البعيد عن الواقع. في مقابل هذا الفن المستشرق الخيالي، الذي شكل مقدمة للهجمة الاستعمارية لغزو الشرق وانتهاك حضارته، برزت تجارب فنية لمستشرقين عبروا عن مدى انبهارهم وإعجابهم بالشرق وتراثه وطبيعة حياته، فجاءت أعمالهم الفنية تعبيرا عن هذا الانبهار، حين استلهموا الكثير من الموروث الشرقي ووظفوه في عمل فني جاء متميزا ونال شهرة عالمية على مدى عقود بل قرون من الزمن. فقد وجدنا فنانين أوروبيين سحرتهم بلاد الشرق التي أقاموا فيها ووجدوها أوطانا مفعمة بالحكايات والأساطير والغموض المثير، ونبعا تموج به الحياة وتتجدد، فما كان منهم إلا أن عملوا على تجسيد هذا الانبهار بالريشة والألوان. في هذا السياق نحاول قراءة ما وفرته دار «بونهامس للمزادات» (وهي إحدى أقدم وأكبر دور المزادات العلنية للفنون الجميلة والتحف الفنية على مستوى العالم والتي تأسست عام 1793). في معرضها/ مزادها الذي قدمته في دبي تحت عنوان «فن الاستشراق» الذي ضم مجموعة من اللوحات والتحف والأثريات الفنية، وشاهد فيه جمهور المهتمين أعمالا لعدد من كبار الفنانين العالميين، ضمن مزاد حقق نسبة عالية من إقبال المقتنين، حيث تقدمت فيه لوحة الفنان النمساوي رودولف سوبودا وهي لوحة «بائع السجاد» التي رسمها إبان زيارته للقاهرة في عام 1885 بتكليف من الملكة فيكتوريا، وتعد اللوحة، وهي تصور أحد المزادات الخاصة ببيع السجاد، هي الأغلى ثمنا في المعرض (وبلغ سعرها 826 ألف دولار). ولوحة «بائع السجاد» هي واحدة من لوحات عدة تبرز اهتمام الفنانين بالسجاد، بل هناك لوحة ثانية في المعرض تحمل الاسم نفسه «بائع السجاد» وهي للفنان الإيطالي جوليو روزاتي، فاللوحتان تتفقان في العنوان وفي الموضوع لكنهما تختلفان من حيث العناصر والتفاصيل. فبقدر ما تعنى اللوحتان بجماليات السجاد تعنى كل منهما بإظهار تفاصيل أخرى في المشهد الواقعي الذي يكاد يكون فوتوغرافياً. تتفق اللوحتان في اتخاذ بائع السجاد موضوعا، لكنهما تختلفان في طبيعة كل من البائع والمشتري، ففي حين يتخذ سوبودا بائعاً شاباً نحيلاً يجلس على دكة المحل ويبدو في حالة مساومة مع الرجل المشتري وخادمه، يرسم روزاتي بائعا بلحية كثة يعرض سجادته أمام سيدة وخادمتها. ورغم هذا الاختلاف تكاد تكون السجادتان نسخة واحدة عن سجادة مألوفة بما تنطوي عليه من زخارف وألوان. كما يتفق كل من سوبودا وروزاتي في تقديم التفاصيل المحيطة بالعنوان الرئيسي، وهي في الأساس شخوص ثلاثة، ففي لوحة سوبودا ثمة بائع ورجلان، بينما في لوحة روزاتي ثمة بائع واثنتين من النساء، ومن خلال هذه الشخوص كلها نرى بعض التفاصيل من الحياة العربية في أسواقها، فكل من الفنانين ينقل الشخوص بملابسها وما يحيط بها من عناصر صغيرة في محل بيع السجاد حيث الصناديق التراثية وطبيعة الأبواب والنوافذ ذات الأقواس، وأدوات الزينة وغيرها. وفي عمل للبريطاني إدوارد غودوين لويس (1827 ـ 1891) ثمة بازار لبيع السجاد في أحد شوارع القاهرة، وهو لا يكتفي بمشهد السجاد بل ينقل مشهدا من العمارة والنوافذ ومقطعا من مئذنة وقبة مسجد. الموضوع الثاني الذي يثير الانتباه في أعمال المعرض هو اللوحات التي ترصد طبيعة المكان، بما فيها من صحراء وأشجار وكائنات، حيث تبرز هنا عناصر المكان من رمال الصحراء وشمسها الساطعة، وتستوقف المشاهد طاقة اللون الأصفر المتوهج لتعكس شمس الصحراء الملتهبة، تعبيراً عن الانبهار بمناخ هذا المكان الذي يمثل جذباً للسياح والمستشرقين عموما، كما هو الحال مع بعض أعمال الفرنسي بول لازيرغس (1845 ـ 1922) الذي يبدو مغرما بمشاهد أهل الصحراء وقوافل الإبل، كما هو حال لوحته «الكرفان» الموقعة بالعام 1893، والسويسري أوتو بيلني (1866 ـ 1936) الذي يظهر مقاطع من الصحراء في تواصلها مع الهضاب والتلال، وحيث اللون الأصفر الفاقع تماما. وكذلك الأمر مع الفنان الهنغاري أودون تول (1870 ـ 1911) حيث جموع البدو تستريح قرب واحة وبضع بيوت. ومع مشاهد الطبيعة هذه، تظهر أيضا مشاهد الفرسان الذين يأخذون حيزا كبيرا في لوحات تهتم بالجبال والسهول وما بينها من أودية، فرسان في مشاهد قتالية كما هو حال لوحة الفرنسي جورجيس واشنطن (1827 ـ 1910) حيث الفارس الصياد يصوب باتجاه فريسة لا تظهرها اللوحة، أو تمثال النحات الفرنسي أنتوني لويس بيري (1795 ـ 1875) الذي يمثل فارسا عربيا بكامل عتاده الحربي، وكذلك الحال مع لوحة الألماني أدولف شيريير (1828 ـ 1899) التي تظهر مجموعة من قادة البدو على خيولهم في حالة قتالية. ورغم الضوء القاتم في الجزء السفلي من اللوحة، فإن الضوء الأصفر يحتل الجزء العلوي منها. ونستمر مع ثيمة الضوء بوصفها أساسية في عمل عدد كبير من الفنانين، بصرف النظر عن الموضوع، ففي تناولهم للموضوع التراثي مثلا، أو موضوع الطبيعة والشجر، يظل الأصفر حاضراً بقوة، ففي تصوير الوجوه يطغى الأصفر على ما عداه من ألوان، وكذلك الأمر حين يصور الفنان مشاهد لأشخاص في أوضاع مختلفة، فالفنان الدنماركي بيدرو مونستد (1859 ـ 1941) يصور حارساً أسود بغطاء أصفر وخلفية صفراء إلى جانب شجر الصبار. ويغلب الأصفر على لوحة الفرنسي بول دومينيك (1845 ـ 1923) التي تحمل عنوان «يوم الغسيل في النيل» حيث مشهد النساء يغسلن الثياب والأطفال يلعبون، وفي المشهد درج يصعد باتجاه الحارة. ويلفت الانتباه في المعرض حضور للصحراء عبر مجموعة من التماثيل تنطوي على رموز وعناصر صحراوية، ففي عدد من المنحوتات البرونزية يجسد فنان مثل الفرنسي ماريو بروست (1894 ـ 1967) عالم الطوارق من خلال الناقة التي يركبونها، وتجسيد بعض ملامح الشخص وملابسه المعروفة. وكذلك يفعل الفنان الفرنسي الآخر إيتيان واترين من خلال تمثال برونزي يمثل رجلا عربيا يقود جملا. وكذلك فإن منحوتة الفنان النمساوي فرانز بيرجمان تستحضر جانبا من عالم الصحراء من خلال النخلتين اللتين يقف تحتهما ولد يركب فيلا. كما يمكن لمشاهد الأعمال المعروضة أن يتوقف أمام الأعمال ذات الطبيعة الإسلامية- الدينية، حيث هناك عدد من اللوحات القائمة على الخط والزخرفة العربية والإسلامية، ومنها ما يتضمن آيات قرآنية تحاكي نسخة من أوراق القرآن الكريم، كما هو الحال في استلهام ستارة الكعبة من مرحلة السلطان العثماني عبدالحميد، حيث الآيات والزخارف المألوفة على الحرير في الأعمال الإسلامية. هكذا تتعدد طرق وأساليب التعبير التي يمكن للمشاهد أن يرى فيها أشكالاً من الاستشراق ليست كلها استشراقية، بل إن الكثير منها ينم على انبهار بعالم الشرق وسحره، ومحاولة التعبير عن هذا الانبهار بطرق ومواد مختلفة، حيث تبرز بعض الملامح التي تتكرر في أعمال عدد كبير من الفنانين رغم تباعد الأزمنة والأمكنة التي جاؤوا منها للشرق، وهو ما يعطي الانطباع بوجود عناصر معينة تثير الانبهار والانفعال والشعور بما يشبه السحر في العالم الذي يجري التعبير عنه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©