الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رسامو الحروب يكتشفون شغف الشرق

رسامو الحروب يكتشفون شغف الشرق
28 مايو 2009 01:08
«شارع في القدس» للبريطاني ويليام ويب من القرن التاسع عشر.. عوالم اسلامية وعربية واضحة منذ القدم، تبادل الفنان والواقع السحر، إذ لا تستطيع حقاً أن تقرر من هو الأكثر سحراً، الواقع حين أوحى للفنان بجمالياته الآسرة أم لوحة الفنان حين جسدت ذلك الواقع. مع الجيوش الأوروبية إبان فترة من القرن السابع عشر حتى القرن العشرين جاء رسامو الخرائط، بصحبة الجيوش الغازية ومنها الحملة الفرنسية على مصر وحملات الإنجليز على أراضي الشرق، موطن «الخرافة والسحر والشعوذة»، وهؤلاء الرسامون كانوا الأكثر دقة في العالم، هؤلاء الذين لم يأبهوا بالزمن حين كانوا يجلسون امام عالم مدهش ليصوروه، وقبل ذلك كانوا يخطون الخط الفاصل ليقيموا حدود الدول والمواقع عبر خيط رقيق يرسمونه حد الشعرة، خيط شفيف يبدو لديهم، انهم يقتربون من السحر في عالم لايزال البخور والتراتيل والأحاجي والألغاز تحكمه، إنه عالم الشرق الذي أحال شغف ذلك الفنان الغربي إلى هيام المجانين بأجواء الأسواق والتكايا والبازارات والحقول والجمال والخيول المطهمة. بلاد الشرق الساحرة تسللت من بين أصابعهم خلسة وبتؤدة لتشكل جسدها على قماش مضغوط حمل كل التفاصيل، فبدت الدهشة والخوف والرعب في ذاك الجمال الباذخ، جمال آسر في اللون والتفاصيل والشكل والموضوعة والزوايا والأبعاد والعمق الصعب المنال. النسق الثلاثي 73 عملاً أوروبياً فريداً جاءت لتقدم التاريخ في معرض «عبر الاستشراق» في دبي التي أعادت لنا ذلك السحر المفقود على أيدي كبار الرسامين العالميين من أواسط القرن الثامن عشر. لوحات يشتغل فيها سواد الظلال والأزقة وما وراء الشبابيك والأبواب والخان المطفأ ضوؤه، الجدران بكل تفاصيلها العتيقة، بعطرها النافذ بروائحها الآسرة والأرضيات المرصوفة بحجارة الفرشي الباردة وبزواياها الحادة الأنيقة، كل تلك التفاصيل.. بكل انحناءات الأشياء، ورقتها وعذوبتها تجدها في لوحة المستشرق، ولكن لنسأل ما هي خصائصها؟ في قراءة جزء من تاريخ فن الرسم الطبيعي بمدرسته الواقعية ما قبل الاستشراق، رسم ليوناردو دافنشي أعماله الكلاسيكية اللاهوتية التي ترى فيها المخلص واقفاً وعلى جانبيه وعند قدميه متضرعان اثنان وكأنما يشكل نص اللوحة نمطاً ثلاثياً، قاعدته في الأسفل ورأسه في الأعلى، هذا ما درج عليه دافنشي. في أعمال المستشرقين الغربيين هؤلاء نجد ذلك النسق الذي يمكن أن نطلق عليه بالنسق الثلاثي على شكل دائرة يجمع بين ثلاثة شخوص في لوحة ضمن قضية حاول الفنان المستشرق أن يلتقطها لتكون محور لوحته. في لوحة رودولف سوبودا الفنان النمساوي 1859-1914 المعنونةThe Carpet Seller بحجم 118*86.5 سم من الزيت على الجمفاص والتي تمثل بائعاً للسجاد في أحد أسواق القاهرة، تتمثل كل الجزئيات من داخل «الدكان» حيث يشتغل النسق الثلاثي بشكل فاضح، ورائع، ومبهر، تاجر عرض سجادة وآخر تبدو عليه علائم النعمة من خلال خادمه الذي يبدو في اللوحة صامتاً، ساهماً متكئاً على عصاه، يساوم في سعرها عبر لغة تشي بها الأيدي التي تتكلم لتقلل من السعر، والتاجر الذي لا يقبل بغير ما أعطى من سعر لبيعها، كل تلك اللغة الصامتة ترويها اللوحة بشفافية وكأنها تعيد ذواتنا إلى لحظة تقمصنا لشخصية الرجل المشتري أمام البائع الذي يرفض أن يقلل من سعر بضاعته. الأصابع تتكلم الأصابع هي التي تتكلم إشاراتها، بائع السجاد الذي يصر على سعره والآخر الذي يفاصل كثيراً باستفهامات تكشفها أصابع كفه اليسرى والخادم الذي لا يبدي رأياً حيث يده اليسرى فوق أختها اليمنى، وكلاهما يمسك رأس العصا، والسجادة قتيلة بينهما، مسحوبة من رأسها مطوية بكل تفاصيل نقوشها وظلالها وانحناءاتها، أما ملابس الرجال فهي في أوج انبعاجها بكل ما فيها من جزئيات يعجز المرء عن وصفها، بينما بانت الأشياء والأيقونات والفوانيس وخوذة الجندي والخواتم والقوارير على الرفوف أو معلقة بخيوط متدلية من السقف.. وهناك في الزاوية البعيدة وعند قوس الخان في السوق القديم ترى الايوان حيث يختفي فيه بائعون ذاهبون إلى عمق الظلمة البعيدة. في لوحة أخرى بذات العنوان The Carpet Seller للفنان الإيطالي جوليو روزاتي 1858-1917 بحجم 52*73 سم مرسومة بالألوان المائية نرى ذات النسق الثلاثي وذات الموضوعة وبلغة الأكف، إلا أن التفاصيل أكثر بفعل مائية اللون، التي تمنح الرسام مساحة من الالتقاطات الأوسع.. بائع للسجاد في محله وسيدة بدت عليها علائم النعمة تجلس على وسائد ثلاث وخادمتها تقف بين يديها. التشابه في اللوحتين الخادم/ الخادمة يضعان أيديهما فوق بعضهما، ويبدوان ساهمين غير معنيين بالحديث، البائع في اللوحة الأولى جالس على دكة محله والبائع في اللوحة الثانية واقف يشرح للسيدة فضائل السجادة التي يمسك بها، السيد في اللوحة الأولى يمسك بالسجادة والسيدة في اللوحة الثانية تمسك مهفتها. شعورياً ودلالياً يبدو روزاتي أكثر فهماً للعالم، الطبقات الاجتماعية العليا (جلوس السيدة، وقوف الخادمة، وقوف البائع، الباب غير الموارب، والشارع المطلي بضوء الشمس، الباهت البعيد) والصواني البرونزية وطويات السجاد المتراص فوق بعضه عند عمق اللوحة وعباءة البائع وظلالها من الداخل وانحناءاتها من الخارج. تشترك اللوحتان بالفوانيس المعلقة.. هما محلان، هناك عند سوبودا وهنا عند روزاتي، أما التفاصيل فتبدو عند الأخير أكثر رخاءً، بفعل عاملين هما استخدام الألوان المائية الرحبة التي تميل إلى الإشراق والبعد الضوئي الذي التقط من خلاله روزاتي شخوصه، واعتماده اللون الأحمر الباهت في تشريق اللوحة. عمق اللوحة أما لوحة سوبودا فتبدو أكثر تقنية ووضوحاً بفعل استخدام العتمة/ السواد في عمق اللوحة وتسليط الضوء على شخوصه الثلاثة واقتراب عدسته البصرية من الأجساد الثلاثة وتفصيلاته الرائعة لمطويات السجادة الملقاة على الأرض وتعرجاتها وبريق ألوانها باستخدام الأحمر الفاقع، وهذا ما استدعى الفنان أن يتلاعب بالضوء الذي سلطه على حضن بائع السجاد وجسد الخادم الأيسر وقمة رأس وجسد السيد. لوحة سوبودا تاريخ ومدرسة رسم كاملة، براعة في الأبعاد ودقة في تمثل الأجزاء والألوان والحركات والانحناءات والظلال والوجوه والضوء الباهت والمشرق، إنها الواقعية بكل تاريخها الآسر. في لوحة المستشرق السويسري أوتو بيني 1866-1936 (الواحة عند شروق الشمس) In The Oasis At Sunset المرسومة بالزيت على الجمفاص بأحجام 54*65 سم، ترى الجزئيات بشكل آخر وبدقة متناهية تحاور فيها الطبيعة ذاتها، رؤوس النخيل وسعفاتها المنحنية التي تشي بريح آتية بقوة والأجمة التي يقف عند ظلالها جملان والبدوي الذي يبصر المصور وكأنه ينتظر منه أن يضغط على عدسة كاميرته، انها لغة أخرى يريد أن يقولها بيني عبر النخيل البعيد والشمس الآتية برحابة اللون الأصفر والأجمة التي تعطي ظلاماً شفيفاً لم يفتح جسده للشمس. في لوحتين، بورتريه لامرأة بعنوان A Druze Beauty مرسومة بالزيت على الجمفاص للفنان ايميلي ايزمان سيمينسكي يبدو استخدام الظلال في أوج روعته حيث أسقط الضوء على مناطق الوجه والرقبة والحلي والصدر ونحر الفتاة بينما وزعه شفيفاً باهتاً على ملابسها ممزوجاً بالحمرة المزخرفة للملابس حيث التدرج في اللون الأحمر الذي يصل في نهاياته إلى السواد القائم ليتشابك مع فضاء اللوحة الخارجي، الحلي تتدلى على صدر الفتاة لامعة ناطقة، ومن زاوية جانبية تمت الرسمة حيث قبعة الفتاة فوق رأسها تكسر سواد الفضاء الملتحم مع شعرها، أما القرط المقابل لنا المتدلي من أذنها اليسرى فيبدو متراخياً والعيون ساهمة، خجلة وهناك اكتناز بالرقبة ودلال فاضح.. تلك هي لغة الرسم التي قدمها لنا سيمينسكي. في اللوحة الأخرى المعنونة Reclining Odalicyue للفنان الألماني فردينارد ماكس برديت وبأحجام 28*48.3 سم مرسومة بالزيت على الجمفاص ثمة فتاة مستلقية على قماشها القصير تحيط بها الزهور، لوحة طولية تتجسد فيها كل أبعاد الواقعية الأخاذة في تمثل الظلال والانحناءات والأبعاد المحسوبة بدقة متناهية، الوجه في لحظة إغفاءة واليدان مطويان إلى الأعلى والأصابع غائرة تحت الرأس ورقبة الفتاة باتجاه الضوء الساقط حول القسم الأعلى من جسدها، الملابس المذهبة تبدو موشاة ولامعة بكل بهاء، حتى مساحة الضوء البسيطة العابرة إلى الجانب المظلم الذي يحيط بشفتيها من الجهة الأخرى يبدو محسوباً بدقة، إن هذه اللوحة اختصار لكل قوانين الواقعية وهي تمط جسدها فوق مساحة من فضاء مذهل. تبدو زاوية لوحة البلغاري جين فرانكوس بورتيلاس 1818-1895 المعنونة Contem Plation والمرسومة بالزيت على الجمفاص بأبعاد 81.2*62 سم متشابهة مع لوحة سيمينسكي تماماً بذات الزاوية وبذات الفضاء الأسود القاتم المحيط باللوحة، إلا أن لوحة بورتيلاس أكثر إشراقاً وربما صفاء بفعل استخدام شفافية الضوء الساقط وبراعة حركة اليد التي تحمل الحجاب لتغطي الفتاة صدرها واكتناز أصابع اليد البيضاء وتجانسها مع بياض الوشاح. في لوحة الفرنسي بول دومينيك 1845-1923 التي جاءت بعنوان «يوم الغسيل في النيل» Wash Day On The Nile من الزيت على الجمفاص وبحجم 72.4*53.3 سم والتي أشك في أنها مرسومة بالزيت بقدر ما أستطيع أن أحدس أنها بالألوان المائية. أقرب إلى الخيال النيل أكثر صفاء والبيوت المطلة عليه وحركة السيقان المكشوفة خوفاً من بلل الملابس بالماء والصخور الفرعونية والسلالم التي تقود إلى أزقة الحي.. الشبابيك البعيدة والشناشيل في زوايا الزقاق البعيد والقوس حيث انحناءة الزقاق في مجاهل الحي.. كل ذلك يكشفه ضوء الشمس مما يجعل الفنان الاستشراقي أمام اختيار صعب ألا وهو تمثل الزوايا والظلال والأبعاد الهندسية للوحة وعمقها وتجانس حجم الشخصية وبعدها المكاني مع ظلال الشخوص والأشياء على الماء الهادئ والشفيف. التقط دومينيك رائعته تلك منذ لحظة قضم طرف العباءة الذي وضعته المرأة الآتية من فوق السلالم الحجرية بين أسنانها.. هي ذاتها ما أراد دومينيك الخروج به ضمن عفوية العالم الآسر ذاك. في لوحة Agame Of Chess للفنان الأميركي ادوين لورد ويكس 1849-1903 وبحجم 75.5*100 سم من الزيت على الجمفاص حاول ادوين أن يؤرخ لرحلته إلى سوريا وفلسطين ومصر.. في لوحته تلك لم يستخدم ادوين الظل مطلقاً.. جانب من حي دمشقي أو قاهري تتوزع فيه الموجودات بشكل رائع، تبدو القتامة على الأشياء من خلال استخدام الأسود المظلم، وفي الوقت الذي يبدو فيه عند طرف اللوحة الأيمن أن هناك شخصاً لم تبن ملامحه سوى ساعده الذي سلط عليه ادوين الضوء فبدا أبيض نرى جملاً وفوقه شخص ينتظر وآخر يبرك بجانبه وعلى مبعدة قريبة منهما رجلان يلعبان النرد وثالث قربهما يشرب الأركيلة، الشبابيك المزخرفة والشناشيل الخشبية تتدلى منها سجادة معرضة للهواء، طوية السجادة هي ما يضفي البراعة في الرسمة وثمة حائط حجري استخدم له ادوين لونين الأبيض والأحمر الفاتح ليكسر النسق الظلالي للوحة بمجملها، الحجوم دقيقة والألوان متدرجة إلى حد قلق الفرشاة والضوء مسلط بحجوم مناسبة ودقيقة، كل شيء يبدو غير متخيل، الشناشيل البعيدة يطل منها وجه، زخرفتها المنمنمة تكاد تقترب من التصوير الفوتوغرافي، حتى أرضية الشارع تبدو أقرب إلى الخيال أنه لا يرسم الواقع بل الواقع هو الذي يرسم لوحته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©