الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشاعرة تطير في الكلام

الشاعرة تطير في الكلام
31 مارس 2010 19:51
“يا ربي... أمسك بيدي... أنا أكتُبني”. بكل هذه الرهبة، بكل هذه المهابة؛ مهابة الكتابة، قلقها، الخوف من الإيغال في الأبيض خاصة إذا كان سيمتلئ بحبر الذات، بالكتابة عن الروح في تجلياتها وتصدعاتها وشفافيتها، تدخل الشاعرة لينا الطيبي في طقس الشعر. تسري في ليل القصيدة مثل حوذي عتيق يغذ الخطى باتجاه الشوق المختبئ في العبارات، توقظ الصورة، تفصِّل الكلام على قدر المعنى أو تغزله في موزاييك نسي أن يرتدي صلابته، ولانَ تحت ضرباتها حتى غدا راقصة تلف الكون كله في حركة واحدة. يتأسس ديوان لينا الطيبي الجديد الموسوم بـ (Shift Delete) ويهجس في كل قصائده بثيمة (المحو/ الكتابة)، ففي كل قصيدة محو لفكرة ما، لصورة ما، لذاكرة ما، وإحلال لنقيضها أو لتصور الشاعرة عما ينبغي أن يكتب. وهي في استخدامها لمصطلح (Shift Delete) معاً، مع أن (Delete) وحدها كفيلة بفعل المسح أو المحو، إنما تؤكد على رغبة المحو الكامل/ المسح الذي لا يمكن معه استعادة ما تم مسحه. ورغم أن عنوان الديوان لا يوحي بالشعرية إطلاقاً، إلا أن الشاعرة تمكنت من إدخاله في دائرة الشعر، فمن يقرأ العنوان متصلاً بالقصائد عامة، أو بالقصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سيقع على شعر كثير وعذب وبهي، وينسحب هذا القول على عناوين وحالات أخرى غير شعرية استطاعت الشاعرة أن تحولها الى شعر كما في لعبة كرة القدم، ولعبة توم وجيري، وحالات النفس الأخرى التي تبدو للإنسان العادي من المألوفات اليومية. محو.. كتابة من نحن؟ إلى أين نمضي؟ ماذا حل بالإنسان؟ والحب، أين بات يقيم؟ لماذا تراجع إلى كهف بعيد في الذاكرة وبات نسياً منسياً؟ كيف نقول الحب في القرن الحادي والعشرين؟ بأي لغة وأي طريقة؟ كيف لنا أن نقطف ثمرة الحب من دون أن نستشعر مرارة الخسارات؟ هل يمكننا مسح ذاكراتنا مسحاً كاملاً في ضغطة على (Shift Delete)؟ هل ذاكرتنا مثل ذاكرة الكمبيوتر يمكن مسح ملفاتها و”فرمتتها” ورميها في سلة المهملات؟ هل التكنولوجيا إذن هي ذلك الغول الذي يلتهم الذاكرة؟ هذه الأسئلة وغيرها تحضر بشكل مؤرق في قصائد الديوان، لتمارس قسوتها على نحو غير مباشر منذ العنوان وفي غير قصيدة. فهي تأتي في إهاب من البساطة العميقة، تنسرب في الشعر مثل دم يتسلل في الشرايين، مبطنة، مختفية في تلافيف النصوص كما لو أنها أحلام تتلامح أطيافها من بعيد، مثل أشباح في ثياب بيضاء، لا يشعر بها القارئ ولا تصدمه فجاجتها. كأن الشاعرة في مجموعتها الجديدة قررت أن تقول انشغالاتها الوجودية هذه المرة في بساطة اليومي وعمقه، في تجلياته الكمبيوترية والاتصالية، إن جازت العبارة، في تغيرات أسلوبية تعينها على البقاء في غابة الشعر والإمساك بجذوته فيما هي تعيد طرح السؤال الأزلي عن علاقة الكائن البشري بالعالم، وعلاقته بالآخر، وتشرع قصيدتها للأسئلة لتحفر حضورها وتكرس اسمها عميقاً في التاريخ الشعري. وفيما هي تمحو فكرة لتكتب أخرى، أو تلغي صورة لتحل مكانها صورة جديدة، تمارس الشاعرة لعباً شعرياً مدهشاً، وتبدو أشبه بطفلة تحاول إعادة تركيب العالم او ترتيبه تماماً كما يفعل الطفل في لعبة (الليجو)، لكنها الطفولة/ الحدس التي تحكم الشعراء حتى وهم يلعبون: لعبة الشعر، لعبة الحب، لعبة المعرفة، لعبة الحياة. تعالي أيتها الدهشة في أربعة أقانيم كبرى ترسم الشاعرة جغرافية الجسد الشعري: نصف تفاحة، Shift Delete، ما قالته المنازل لأصحابها، حالات. وقبل الجميع ثمة قصيدة تقف وحيدة، كأنها النور الهادي أو النبراس الذي يدل القصائد على دهشتها، إنها قصيدة “بساطة” التي تختصر في “بساطتها” مفاهيم في غاية العمق، وتقول عبر عنوانها ومتنها ولغتها المفارقة لما عهدناه لدى الشاعرة، عزلة الكائن المعاصر وعزلة الحب بعد أن تغيرت الذائقة وصارت الأذن تطرب لركلات كرة القدم أكثر من كلام الحب. وعليه لا بد من (محو) الكتابة السابقة وإنجاز (كتابة) جديدة تقول الحب بلغة مغايرة تعيد للأذن صوابها وللشعر بهاءه. وتبرز في “حسبة بسيطة” مغانم العاشقة في مقابل مغارم كرة القدم وخساراتها، لتنعكس الآية ويصبح ما هو خسارة في اللعب، ربحا في الحب. وإذ تحصد الشاعرة الكثير من القصائد والصور المدهشة على مستوى التناول، يبرز السؤال: هل كان اصطياد الدهشة هو غاية الشاعرة؟ في ظني أن القصائد تنهض في عمارتها الفنية على طابقين أو مستويين: الأول يتعلق بفهمنا لواحدة من أسمى العلاقات الإنسانية وهو الحب، والثانية بفهمنا لواحد من أجمل فنون القول وهو الشعر. في المستوى الأول تقول القصائد، بصيغ مختلفة، إن الحب شيء واللعب شيء آخر، وأن العالم المعاصر اللاهث وراء لعبة مجنونة “سكران” بنشوة انتصار مزعوم في ملاعب كرة القدم ومهزوم في الحب. وهو معنى يوصل الى المستوى الثاني المتعلق بتغير الذائقة الشعرية الذي استدعى تغيير القول شعرياً على هذا النحو. وها هي الكتابة تحضر بكل ألقها وقدرتها على التكيف، وقد غيَّرت جلدها، لكي لا تقع في المحو. لكن الحكمة الخالصة تتمثل في أن اللعب اللغوي الجميل الذي مارسته الشاعرة واستطاعت أن تحقق من خلاله الدهشة لا يكفي لكي يكون الشعر جميلاً، ما استدعى منها الإفصاح في قصيدة “بساطة” على سبيل المثال، وفيما يشبه الاعتذار، عن كون هذه الطريقة في قول الحب هي “معادلة غير حضارية”. كذلك في العلاقة مع النافذة لا يخلو الأمر من لعب، رغم أنه لعب موجع. فالنافذة ترتبط في جذرها اللغوي مع نفذ أي تسلل عميق. وكل ما ينفذ هو في الواقع شيء من الخارج، من العالم البرّاني، الذي كانت لينا قد قررت أن تقاطعه، لأنه يهدد عالمها الجوّاني. من هنا تصبح النافذة “خدعة” يكمن فيها العالم “البدعة” وهي لا تحتاج هذه البدعة لتعيش. لكن رغبة المعرفة الحارقة، رغبة السؤال، رغبة كشف المجهول وفضحه، لا تستسلم وتدفعها إلى النافذة، وبين صراع الإقدام والإحجام يتجلى صراع الذات مع العالم الخارجي. لكن يبدو أن ورودنا لا تزهر إلا في حضور الآخر، إنها تذبل بعيداً عن مائها، ماء الأسئلة التي تفتحها الشاعرة فتنفتح النافذة التي باتت المعادل الفني للسؤال. النافذة نفسها، ستظهر في قصيدة أخرى، شاهدة على حجم الألم الذي أصاب يدها حين مدتها بحثاً عن يده، لتفتح مزيداً من الأبواب، فلم تجنِ سوى يد مقطوعة الأصابع: خذ يدي لا تتأمل أصابعي لن تجدها قصصتُها هذه المرة حتى لا تحصي أخطاءك. غواية بلا جسد اللعب هنا ليس لعباً سهلاً، لعب الشاعر إذن نوع من إعادة صياغة الوجود وحيثياته، تعبير عن العدم والندم أحياناً، وأحياناً عن المرأة والأنوثة وعذاباتها الداخلية والخارجية، ومع فتحها للأسئلة تفتح الشاعرة قوساً واسعاً لخيبات المرأة وانتصاراتها الصغيرة، للغواية التي لا تحتاج إلى جسد، لخزائن النسوة الضاجة بالعزلة، للوحدة التي تعد العشاء، للحب الذي ينضج تحت الطاولة، وللنفس وهي تمور بالضحك أو الحب أو الكراهية أو تقع في أحضان رغبة مازوشية في التلاشي، أو تلعب بنزق لعبة “كارتون” كما في الأفلام المتحركة، أو تعدل قانون الجاذبية أو تقلب مفهوم التفاحة وسقوطها وكل تعلقاتها الميثولوجية أو العلمية الخاصة بقانون الجاذبية: نيوتن نيوتن نفسه على يقين من أن نضج المرأة لا يشبه نضج تفاحة: واحدة تتلقفها سماء وأخرى تتلقفها أرض. وفي توظيفها للعبة توم وجيري (هذه اللعبة التي لا تنتهي ولا يمل فيها توم من ملاحقة جيري، والتي تشبه بالفعل علاقة الرجل بالمرأة) تصوغ الشاعرة للعبة تصوراً جديداً وتقترح حلاً آخر غير الجري الذي لا طائل منه، ثمة علاقة أخرى يمكن أن تكون أجمل وأكثر إنسانية ووعياً: أنت لست توم وأنا لست جيري إذن... تعال نكتشف لعبة أخرى تعال لنختبئ في الخزائن سأدلُّكَ عليَّ وسأتعرف على رائحة مخبئك. في مجموعتها هذه تلاحق الشاعرة الذاكرة وأطلالها وروائح الطفولة وصورة الأب والمنازل التي لا تقول كل شيء، تترك القول موارباً لكي يتسع لظلال الكلمات، لما بين السطور والحروف، للاقفاص المقفلة، والترانيم الخافتة التي تصيغ السمع لها وهي تتجول بين شوارع “أوتوغراف” صغير ربما هو كل ما تبقى من ذاكرة قديمة تحاول محوها فيعجزها الـ “ديليت”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©