الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أنسي الحاج.. يعبر خفيفاً ومضيئاً

أنسي الحاج.. يعبر خفيفاً ومضيئاً
4 مارس 2014 09:09
بمثل هذا الفرح العاصي، والمتبخر أشلاء ومناحات، وبمثل هذا النُبْل المقطّع الأوصال، يتحول الموت عند أنسي الحاج إلى إصغاء واشتقاق واصطفاء ومعانقة، يتحول الموت إلى غيم ونوافذ، وإلى تلاشيات مرهفة تحت أقواس وسماوات من قزح، ووسط بريق ملائكي يسطع في الهزيع الأخير من ظلمة الفتك والعسف والتناحر وجرح الهوية الذي ابتلي به لبنان، أرض النعيم المستعر، أو الفردوس المفخّخ، و«بلد العسل والبخور» حسب مجاز اليوتوبيا، أو الوصف الطوباوي للمخرج السينمائي اللبناني الراحل مارون بغدادي. «غيوم، يا غيوم يا صعداء الحالمين وراء النوافذ غيوم، يا غيوم علميني فرح الزوال»! من قصيدة: «غيوم» لأنسي الحاج في مديح الزائل وفي تبجيل الخسارات تكمن قداسة الفقدان إذن، وفي محفل الغياب، ومع عصفه المتأجج، يكمن كذلك هذا الهدر المقتصد للمحبة في تمامها، وللذاكرات في اكتمالها، حين يأتيك نبأ غادر، وخبر صاعق بأن أنسي الحاج لم يعد بيننا، وأن الاحتجاج به كوعد متجدد وبشارة حاضرة، هو احتجاج بالقطع والانمحاء وذبول القامة المشتعلة عشقاً وعراقة واخضراراً، في تلك الغابة الشاسعة، غابة الموتى المتوّجين بخلودهم، اللاذعين مثل شهقة البرتقال، الغافين على سرير الورد، في ظل زيتونة بقامة فيروز، وتحت أيقونة من ماء وعطر وقمر. انتباهات ومراجعات لا يمكن لغياب أنسي أن يترك ميراثاً للغصّة والندامات، بقدر تركه لخيط وصل، ووشيجة انتباهات ومراجعات، هي من ضرورات الاحتفاء بتجربة أنسي المتفردة حتى لو كانت هذه التجربة مشغولة في بداياتها بجمع من الرؤى المتقاطعة، والتنظيرات المهجوسة بالتمرد والتي أسست لها في نهاية الخمسينيات، جماعة مجلة (شعر) بحماس مشترك، سرعان ما تفكّك خطابه، وانفرط عقده، لأن قصيدة النثر باكتنازها وتوهجها لا يمكن أن تظل نقية وصادقة إلا من خلال هذا العزف المنفرد على وتر الروح، اختار أنسي الخلاص والنأي والابتعاد عن ضوضاء «الجماعة»، وقشرة المزيف واللحظي والطارئ، فما كان يعنيه هو تربية هذا الكائن الشعري الذي يخصه، متوحداً به ومعه في نزل الأسرار وبيت المواجع، وكان يمهد صامتاً ومستوحشاً لخراب فاتن ولعنة برّاقة، أعلن عنها في مجموعته الشعرية: «لن» التي جاءت أشبه بإدانة صارخة لبلاغة متكلسة ومهدورة الدم، أو علامة أولى في درب الكتابة الحارقة، وتمزيق الحجب والسواتر عن قصيدة ضارية ومتوحشة بدت حينها وفي أفق المرجعيات الشعرية العربية وكأنها مقطوعة النسل وغريبة اليد والوجه واللسان، هناك في مختبر اللذائذ الفردية وخيمياء الذات القلقة، قدم أنسي في ديوان «لن» ثم في ديوان «الرأس المقطوع» ما يمكن أن نسمّيه مانيفيستو التوتر الخلاّق والدهشة المنفلتة، والمخيال الشرس والغائر حتى الأقاصي والنهايات الغامضة. يعبر أنسي الحاج في عتمة الموت وكثافته، خفيفاً ومتخفّفاً ومضيئاً كما هي قصائده التي خرجت من معطف التجريب والطيش المروّض، كي تفيض في مسارب التجربة الحياتية بأناقة حسّية، وتأملات رائقة، هي من شعائر عشق وتبتل وسفر في المطلق، بدءاً من مجموعته «ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة»، وما تبعها من دواوين ظلت تحفر في صخرة اللغة العصية على البوح حتى انفلقت وانبعثت منها الأناشيد والمزامير والمرويات الشعرية والإيقاعات الخبيئة والدائخة بعشقها السري والمستحيل، إن ثقل أنسي الحاج الإبداعي وتأثيره المحمي من الادعاء والقصد، سيظلان مثل برجين مشتعلين في بحر العزلات التي اختارها أنسي منذ البداية، ليشكّل برزخاً نحو المبهم حدّ الوضوح ونحو المدنس حدّ المقدّس، في علائق حسية وروحية تتجاوز التناقض والتضاد، وتخترق الملتبس والمتشاكس، وصولاً إلى ثمرة الشعر العالية والزاهية، المرصودة لمبتكري الهاوية وهم في أوج صعودهم، للقلائل والقلائل جداً، هؤلاء الذين وصفهم الشاعر المكسيكي المجنّح «أوكتافيو باث» يوماً بأنهم يمثلون (الأقلية الهائلة). في حطام هذا الوهج وفي انكسارات الشعر وأعباء الأيديولوجيا وميراث العنف والإقصاء، مضى أنسي الحاج مثل قديس أخير، وراهب أنهكه السفر الطويل في درب «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، يقول أنسي: «هذا موعدي وامنحوني الوقت سوف يكون للجميع وقت، فاصبروا اصبروا عليّ لأجمع نثري زيارتكم عاجلة وسفري طويل نظركم خاطف، وورقي مبعثر محبتكم صيف، وحبّي الأرض» موصولة بالأرض إذن هذه الخاتمة المتلألئة، ولكن من سيغرف من الهواء كل هذا الشجن، من سيكمل قصيدة أنسي الناقصة، حتى وهي مشغولة بدفن الأبدية في مشاع النسيان، كوليمة وزاد وعتاد، للراحلين مثله في صحراء الشظايا، وفي غبار الذهب. حوار قديم أتذكر ملامح أنسي الآن عندما التقيته لأول مرة في بيروت، أوائل أكتوبر عام 1993، أتذكر هدوءه وبساطته وتواضعه، هذا التواضع الذي يحيل المسافة بينه وبين ضيفه إلى قابلية مضاعفة من الاستئناس وتجاوز الحذر والحيطة من ردة الفعل والمكاشفة، وتفسيرات الانطباع الأول. وكنت قبلها بأيام في دمشق أبحث بيأس وسط كراسي مقهى الهافانا الفارغة عن الشاعر محمد الماغوط، كي أجري حواراً صحفياً معه، لم أعثر على الماغوط لأن الوقت والمكان لم يتوافقا مع مزاجه الشعري المتقلب والهادر في تلك الأيام، وبعد زيارتين خائبتين للمقهى، شعرت وكأن الماغوط حررني من عبء المفاجآت الصادمة التي حذرني منها أصدقاؤه والعارفون بأحواله ونزقه الشعري والكآبة التي بدأت تنهش فيه. أما أنسي فكان منظماً ودقيقاً في مواعيده، ومعروفاً وقت حضوره إلى مبنى جريدة «النهار»، فهو يبدأ مع حلول الظلام وينتهي مع مطلع الفجر، سألته بداية إن كان يفضل الحوار المباشر، أو طرح أسئلة مكتوبة يجيب عليها لاحقاً، ففضل الخيار الثاني، ووعدني بلقاء آخر بعد يومين يسلمني فيه الإجابات، وتخلل لقاءنا القصير هذا مراجعات خاطفة لمقالات صحفية موضوعة بعناية على طاولته، ومناقشات سريعة مع منفذي ومخرجي صفحات الجريدة قبل الإذن بالطباعة، وأثناء الوقفات القليلة كان يسألني عن حال الشعر في الخليج، كما أبدى إعجابه ببعض الأسماء الشابة التي تكتب قصيدة النثر في الإمارات مثل أحمد راشد ثاني وعبدالعزيز جاسم وميسون صقر، وتحدث بفرح عن ظهور مطبوعات وملاحق ثقافية مميزة في الإمارات. وبعد يومين وفي الموعد المسائي المحدد سلمني الإجابات المكتوبة بخط يده، وفوجئت بتدوينه للأسئلة التي أعطيتها إياه، وبكل تفاصيلها، وكأنه أراد أن يوثقها بمزاج كاليغرافي متشابه، وبتواصل ذهني لا ينقطع إلا بفضيلة البياض بين السائل والمجيب. هم الشعر وهنا مقتطفات من الأسئلة والإجابات التي وردت في اللقاء الذي مضى عليه أكثر من عشرين عاماً: ? الآن وبعد ثلاثة وثلاثين عاماً على صدور ديوان «لن» كيف يرى أنسي الحاج إلى حال قصيدة النثر، وهل تجذّرت بكيانها الخاص، أم ما زالت في طور الانفلات والانفتاح على تجارب وأشكال متغيرة؟ ? ? أنسي الحاج: ظهرت أعمال مهمة ولابد لها من نقد ينصفها، ويعزلها عن نتاج كثيف آخر غير مهم، خلال ثلاثين عاما أصبحت قصيدة النثر حقيقة واقعة في الأدب العربي، لا يزال هناك من يسأل عن الوزن والقافية، ولكن الحرب المقدسة انتهت، أو أنها إن استمرت، لم تعد ذات بال، كان مطلوبي وما زال هو أن يعبّر الشاعر بالطريقة التي يريد، نظماً، أو نثراً، وهذا ما حصل خلال تجارب هذه الثلاثين عاما، الانفتاح على التجارب والأشكال مرغوب، لم لا؟، سيظل هناك تجديد، وتجديد بعد التجديد، إلى ما لا نهاية، لننقل المسألة من الشكل الخارجي إلى «الداخل».. ألم يحن الأوان؟ ? هناك اتهام يوجه إلى شعراء قصيدة النثر حول التشابه الكبير في التركيب والصياغات اللغوية، وحتى في الفضاءات التي تركز على صلة الذات بالخارج والعكس، مما يؤدي إلى نشوء قوالب مكررة في جسد القصيدة وبنيتها، هل في هذا انتقاص آخر للتميز والفرادة التي بدأت بها قصيدة النثر؟ ? ? أنسي الحاج: ما تتحدث عنه موجود في قصائد النظم أيضا، التشابه والنمطية ليسا وقفا على جديد دون قديم، أو قديم دون جديد، المقلدون آفة كل عصر وكل خلق، إن ما يميز الشعر ما دمت تتكلم عن التميز ليس مذهبه ولا شكله، بل نوعية شاعره، قصيدة النثر ليست متميزة بمجرد كونها «قصيدة نثر»، كذلك قصيدة النظم، وكذلك القصة، والحكاية، والفيلم، واللوحة، واللحن، ولكننا مهما تعذّبنا فلن نستطيع القضاء على المقلدين، وهؤلاء هم الذين يؤلفون «التشابه الكبير في التركيب والصياغات» الذي تشير إليه، كل أصالة تنتج مزيفيها. ? لقب «الشاعر الملعون» الذي لازم شعراء قصيدة النثر، هل أصبح لقبا أسطوريا، خصوصا في هذه المناخات المتزنة وبعد التغيرات الهائلة في العالم، هل انتهى «زمن السرطان» الذي تحدثت عنه في مقدمة ديوان «لن»، أم أننا في انتظار وباء مختلف، وأشكال إبداعية متجاوزة؟ ? ? أنسي الحاج: صراع الإنسان مع القدر يبدو لي أعنف وأشرس من أي وقت مضى، لقد انغمسنا أعمق في زمن السرطان، المسألة ليست هنا، بل في خلق أمل، في قتل هذا الموت، لا في وصفه والتشكّي منه، لذلك كنت دائما لا أزال أؤمن بأن للشعر دورا في التغيير لا التصوير، أما لقب «الشاعر الملعون» فليس غاية ولا شرفا، إنه سمة وبصمة ومناخ، وعلى كل حال مجرد وجود الشاعر في عالم يضطهد كل ما في الحياة من شاعرية، أو يوظفه في أسواق البيع والاستهلاك، هو رجم للشعر والشاعر ومطاردة لهما وتعذيب، اللعنة لم تعد إدانة ميتافيزيقية فحسب، بل أصبحت أيضاً إدانة اجتماعية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©