الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شارل بودلير: بستانيُّالشرّ

شارل بودلير: بستانيُّالشرّ
18 فبراير 2015 21:20
صاخبٌ في قسوة جماله هو وجهُ شارل بودلير. قسوةٌ تنْضح شررا وحدّة. كأنّ الرجل حانق على وجوده. يُدينُ بصرامةٍ خشنة لحظة كينونته الهشّة. عبرها يدين تاريخ اسمه ومدينته وعصره. وجه شارل بودلير صداميّ، متأهّب على الدوام للارتطام بسقوف حياته، ومعناه، هي السقوف الموهومة للقرن التاسع عشر، الذي شهد غرابة وجوده. بعض الوجوه تضيئها نجمة القطب، وتخضّبها بجاذبية ناهبة وجارفة، وبعضها الآخر تضيئها أزهار الخلاءات والبراري، فتضرّجها بعبق سحري... وجه شارل بودلير إن لم يحظ بشرف أن توقد نجمة القطب ناره، واستأثر بالمقابل بضوء زهرة وحشية. لا يتعلق الأمر بزهر الخلاءات والبراري حقيقة، إنه يتعلق بزهرة عزلاء، فادحة، وغريبة فوق ما تطيقه الغرابة. زهرة بائسة رغم جسارتها. ليست من بستان أزاهير شرّه كما قد تتوقعون. بل هي تلكم الزهرة التي لا تنبت إلا في سكة الحديد. أعني سكك القطارات بالتأكيد. وجه شارل بودلير يشبه هذه الزهرة المأساوية العزلاء، التي تقاوم عنف الصرير المدوي لمروق القطارات، وتتجشم عناء الغبار والصقيع والقيظ والثلج على مرّ الفصول، وتنبغ في الانفلات من قطاف أبناء كنّاسي المحطات... خبِرَ هذا الوجه سأم باريس، وصار ظلا أنطولوجيا له ولها معا. أدمن هذا الوجه ثمالة آخر الليل ومعترك الموت المحدق بالمتسكع على تخوم الفجر. ألِفَ هذا الوجه زيف المرايا وساعة الهاوية. تشرّب هذا الوجه صخب الحانات وقيء السكارى والصمت المهمل بين فجوات الأغنيات الزاعقة. يدرك صاحب الوجه الممرّغ في شوك القسوة وشهوة الغموض، أنّ القذارة تتربص به في كل زقاق من أزقة الوجود الإنساني، جابه أنهارها بالتجديف نحو ضفة طفولته ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ثم ترك الأمر برمّته حين اكتشف أنّ القذارة لا تعشوشب في الخارج فقط، بل تزهر في أقبية داخله المعتمة. هكذا انبرى لها بأناقة مزيّفة، وحدهم المأساويون من طينته المارقة، يعلمون بأنها (أناقته) لا تستطيع أن تحجب سطوتها (القذارة) واستشراء وبائها أو قدريتها بالأحرى. أناقة شارل بودلير باريسية بامتياز، تبدو في الصورة كما لو كانت لحلاق مهووس بقطع الرقاب (رقاب النساء بالذات). كم انتظر الشرّ قرونا ليبزغ هذا الوجه الشيطاني أخيرا، فيمتهن التنزّه في حدائقه المترامية الأطراف. وجه انتبه بحذاقة إلى ما تكتنزه بساتين القبح من نباتات نادرة، يحتاجها الجمال الخالص كي يستوفي شروط الكمال. ثمة في الصورة شيء عازل لو أمعنّا النظر فيه بقوة، هو جدار غير مرئي يقف بين وجه شارل بودلير وبيننا، بينه وبين العالم. جدار ليس اسمنتيا على كل حال، ينتصب كحاجز زجاجي أو جليدي. لهذا تبدو نظرته حادة وذات كثافة مسنونة كما لو كانت حزمة أسلاك مفتولة تحاول أن تخترق الجدار العازل. إنها تحديقة تعاني من سديم أو غبش يعتور الرؤية، تعاني من لزوجة كصمغ الحلزون تشوش على وضوح الشيء أو شساعة الأفق، وقبل ذلك فما يعيق النظرة على التحليق بعيدا هو الآلات المهسهسة في داخله، لم تتوقف كمعمل لئيم عن إنتاج الضجة، وكأنها متورطة في معضلة مونولوج لا ينتهي. هذا المونولوج اللعين هو ما يجعل الوجه يلتفت وينعطف ويتخلف لينظر إلى داخله وليس إلى خارجه، كما لو ينظر من فوهة بئر إلى قيعانه اللاقرار لها. طبعا لا أعدم هنا الخدر المسؤول عن الاستغراق في رطانات ذاته أيضا، فالمخدر يكاد يحنّط وجهه الأيقوني حتى يبدو كما لو صنع لتوه في طينة خزف. قوة المخدر أو جرعته القصوى لم تنجح في استنبات ابتسامة ولو مزيفة، وعلى النقيض ضاعفت من حدة السأم أو الكآبة. كآبة شارل بودلير تتقاسم مع كآبة إدغار آلن بو مصدرها العاتي: الذكاء الخارق. لا يمكن استبعاد شبح المزاجية المتقلبة لهذا الوجه اللذوعي، كما لا يمكن طرد ظلال الطيور المزعجة التي تحلّق في سماء نظرته، لنقل، إنّ وجها منذورا لخرائب الوجود كهذا يستدعي حضور غربان بالضرورة حوله، شبيهة بغربان لوحة فان غوغ الشهيرة. ينضاف لرصيد مزاجيته ثقل الانفصامات والإنشطارات، فنادرا ما تتحقق له الوحدة المتناغمة ذات الاتجاه الخطي، إذ إن كهرباءه تتغذى بالمخاطرة في الاتجاهات العمودية لا غير. ينتمي وجه شارل بودلير إلى أقلية من الفنانين الذين لا تستند وجوههم إلى كثافة وفيرة من شعر الرأس، فكثافة طفيفة تكفي لكي يحافظ على فرادته وخصوصية إثارته: الخصلة الطفيفة في المساحة الأمامية الفارغة للرأس في الصورة، تشبه ضربة ريشة رسام محفوفة بخطورة، فهي إما تملأ الفراغ برمزيتها البديعة والرائقة، وإما تضاعف من فراغ المساحة وتعري بشاعتها. في الصورة تنجح تصفيفة الخصلة في اختلاق الرمزية المرغوبة، إذ توهم بطيف عشب غريب تموج به مياه نهر هادر، أو بطيف جناح سنونو.. لنقل جناح طائر مجهول (قد يكون طائر الجحيم مثلاً!) الجحيم! إنها الاستعارة المفقودة، فالوجه يبدو كما لو رسمته ظلال النيران على حائط يحاذي الموقد. على صخرة هذا الوجه شحذت باريس سكاكينها المنذورة لطعنات الغرباء والتروبادور والمشرّدين، باريس التي تحتفظ بأثر وجهه وتؤبّده، وما على زائرها إلا أن ينتبه أو يحدّق في الزهرة العزلاء النابتة في محطات القطارات، في سكة الحديد بالذات، ليلمح طيف شارل بودلير: بستانيّ الشرّ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©