الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشاعر والكلب

الشاعر والكلب
17 ابريل 2008 01:20
يقول ابن سينا متحدّثاً عن المكانة التي كان الشاعر يحظى بها عند العرب: إن العرب ''كانوا ينزّلون الشاعر منزلة النبيّ فينقادون لحكمه ويصدّقون بكهانته''· وإلى الرأي ذاته يذهب ابن رشيق فيذكر أن ''القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنّأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر''· لكن صورة الشاعر في الثقافة العربية تظلّ، مع ذلك، ملتبسة· فلقد ألحّ العديد من المفكرين العرب على أن هذه المكانة سرعان ما صارت نسيا منسيا· يكفي هنا أن نعيد قراءة ما كتبه حازم القرطاجني أو ابن خلدون وسترتسم صورة الشاعر والشعر قاتمة منفّرة· فلقد جزم حازم القرطاجني في القرن السابع للهجرة بأن ''الشعر هان على الناس كلّ الهون حتى صارت نفوس العارفين بالشعر تستقذره''· أما ابن خلدون فحدّث عن الشعر قائلاً: لقد ''تغيّر الحال وأصبح تعاطيه هُجْنةً في الرئاسة ومذمّة لأهل المناصب الكبيرة والله مقلّب الليل والنهار''· هذه التصوّرات تتعايش في المتون القديمة مع تصوّرات أخرى تهبط بالشاعر إلى ما دون منزلة الكلب· يكتب إبراهيم البيهقي في ''المحاسن والمساوئ'' ''قيل: ''ليس أحد من النّاس آكل للسّحت (المال الحرام) وأنطق بالكذب ولا أوضعَ ولا أطمعَ ولا أقلَّ نفساً ولا أدنى همّةً من شاعر''· ولذلك قال أبو سعد المخزومي: الكلب والشّاعر في حالة يا ليت أنّي لم أكن شاعرا هل هو إلا باسط كفّه يستطعم الوارد والصّادرا هذه الصورة الملتبسة التي ترفع الشاعر إلى أعلى علّيين ثم تودي به إلى الحضيض إنما صدرت في ثقافة تعدّ الشعر ديوانها وحافظ أيامها· لكنها فُجِعَت في شعرائها عندما رأتهم ينحرفون بالشعر عن حدّه، ويستظلّون بظلّه متكسّبين حتى حوّلوه إلى سلعة ذات قيمة تبادلية· والالتباس ذاته سيحيط بصورة الشاعر والشعر في العصر الحديث· غير أنه يأخذ تجلّيات مغايرة· فالمأزق كفّ عن كونه مأزق توظيف للشعر وتكسّب به، وطال منزلته داخل المدينة· عديدة هي القصائد التي صارت تروج من حولنا خالية من المعنى أصلا· وعديدون هم الشعراء الذين صاروا يعفون المتلقّي من مشقّة البحث عن معنى ممكن أو محتمل فيما ينتجونه من نصوص لأن نصوصهم خالية من أيّ معنى· والناظر في الكتابات التي تعلن فيها ظاهرة تهاوي المعنى عن نفسها يدرك أن منتج النص يتعمّد الإبهام والتعمية عجزاً عن الجمع بين الجميل والبيّن· لذلك يتشكّل النص في قالب استعارات قسرية تبتني صوراً تنثال اتفاقاً وصدفة· وبذلك تتعطّل عملية الإبلاغ الشعري ويصبح النص مجرّد هلوسات واستيهامات فردية· وفي حين أَشْهَدَ العرب القدامى على هوان الشعر وضعة منتجه حين رأوا الشاعر ينحرف بالشعر عن حدّه، سيظلّ النقد العربي الحديث يصمّ آذانه ويغمض عينيه عن أزمة مريرة فيما القصيدة العربية تتوغّل في ليلٍ يشبه ليلَ انحطاطها فيما مضى من الزمان·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©