الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حوارٌ مع شعْريّة الآخَر

حوارٌ مع شعْريّة الآخَر
21 مارس 2017 22:47
1. كان لقائي مع الشاعر الفرنسي ميشيل دوغي حاسماً في ثقافتي الشعرية. كان ذلك سنة 1969، عندما قام صديق لي، كان آنذاك طالباً جامعياً في باريس، بإهدائي بعد عودته في نهاية العام الجامعي، كتاباً نفيساً هو «مقاربة هلدرلين» للفيلسوف الألماني مارتن هيدجر مترجماً إلى الفرنسية، فيما أنا كنت لا أزال طالباً في سنتي الجامعية الأولى في قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب في فاس. كان الكتاب صدر بالألمانية سنة 1951، وبالفرنسية في أكتوبر 1968. وهو يضمّ أربع دراسات مخصصة للشاعر هلدرلين، هي «هلدرلين وجوهر الشعر»، التي ألقاها هيدجر سنة 1936، ثم «مثل يوم عيد»، «عودة»، و»ذكرى»، التي تعود إلى 1939 و 1943. ترجم ميشل دوغي «عودة» واشترك مع فرانسوا فيرديي في ترجمة «مثل يوم عيد». وساهم إلى جانبهما في ترجمة الكتاب كل من هنري كوربان وجان لوناي. بهذه المساهمة في الترجمة من الألمانية إلى الفرنسية، اكتشفت ميشيل دوغي أول مرة بصفته شاعراً مترجماً. ومع مرور السنوات تعرفت أيضاً على اكتشافات جميلة. ميشيل دوغي هو أيضاً مترجم للشاعر الإيطالي دانتي، والإسباني غونغورا، والأميركي شارل أولسون، أحد شعراء الجيل الذي يعرف في الولايات المتحدة الأميركية بالجيل الثاني للحداثة الشعرية، والشاعر الروسي فاديم كوسوفوي، والإيطالي فرانكو فورتيني. هذه الترجمات الأخيرة، قام بها ضمن فريق عمل على الترجمة الجماعية، كما ظهرت تجربتها في فرنسا وتم لاحقاً تعميمها في العديد من الدول الغربية. كل واحد من هؤلاء الشعراء الذين ترجمهم ميشيل دوغي، أو ساهم في ترجمة أشعارهم، يمثل وعداً شعرياً، أصبح معروفاً به بين الشعراء ودارسي الشعر ونقاده في الثقافة الحديثة. ميشيل دوغي ليس فقط شاعراً مترجماً. إنه أيضاً منظّر للترجمة، ولترجمة الشعر تخصيصاً. ففي رؤيته إلى الشعر يرى أن «كل شيء ترجمة». ذلك أن الترجمة، بالنسبة له، شرط بدئي لكتابة القصيدة، في عالم شعري يتميز بأنه بابل اللغات، أي أن القصيدة في أساسها تحتضن لغات متعددة. لذا فهو يتبنى مفهوماً نظرياً يهتدي به، يتمثل في «شعرية الترابط». كما أنه يختار في ممارسته الشعرية تقاسم فضاء القصيدة مع شعراء من العالم، من خلال مجلتين أنشأهما، وتحملان معاً اسم «شعر» (مع فرق في تخطيط الكلمة) غالباً ما تنشران الشعر مرفقاً بترجمات، كما تنشران دراسات وقراءات لأعمال وتقديم تيارات واتجاهات وشعراء وتجارب شعرية. وفي رسالته التي وجهها للباحث ليون روبيل، ونشرت في العدد التاسع عشر من مجلة «شانج» الباريسية سنة 1974، بلور ميشيل دوغي نظريته في ترجمة الشعر. وقد كتبت الباحثة لي جينْجا، التي اشتغلت على هذه الرسالة، بأن « أكبر خصيصة لنظرية الترجمة لدى ميشيل دوغي تكمن في كون الشخص المترجم الذي يتم التفكير فيه هنا هو في جوهره جمعٌ من الأفراد». وكتب الباحث مارتن ريف، في الاتجاه ذاته، أن العناصر الأساسية لشعرية ميشيل دوغي هي أن الترجمة كانت على الدوام بالنسبة له تتلخص في «الجماعة»، و»القصيدة» و»اللغات ضمن اللغة». بهذا نرى أن ميشيل دوغي صاحب وجهة نظر في الشعر والترجمة والمترجم تتحدد في التعدد والجمع لا في الرؤية إلى القصيدة أو اللغة بما هي واحدة، مستقلة بذاتها، منفصلة عن سواها. 2. على هذا النحو إذن، تمثل سنة 1969 بالنسبة لي حدثاً رمزياً، أحافظ دائماً على حضوره، بصيغ مختلفة، في مساري الشعري. كنت قبل ذلك تعرفت، سنة 1966، على شارل بودلير مترجماً للشاعر الأميركي إدغار ألن بو. وشيئاً فشيئاً أخذ اكتشافي يتسع لقبيلة الشعراء المترجمين الحديثين، في كل من الغرب والمشرق العربي، جنباً إلى جنب. عند ذاك فهمتُ بسرعة أن الترجمة تمرينٌ أساسٌ في الشعر الحديث، ومؤسِّسٌ له باعتباره تجربة. فكتابة القصيدة الحديثة أصبحت متلازمة مع ترجمة الشعر. هذه الملاحظة تؤدي إلى القول بأن الشعر الحديث هو وليدُ الازدواجية اللغوية. إنها الازدواجية التي تسمح وحدها باستضافة لغة الآخر في لغة الأنا، أو بعبارة الشاعر الفرنسي ستيفان ملارمي : « أن نستعملها وحدها ونُهديها للغة»، بمعنى أن نتعلم لغة الآخر من أجل أن نُهديها للغتنا. فالشاعر الحديث لا يتعلم لغة الآخر ليهجُر لغته الشخصية ويكتب بلغة الآخر التي يتعلمها، بل لكي يستضيفها في لغته من خلال الترجمة وإعادة الكتابة. والسبب هو أن اللغة الأم (أو «الشبيهة بلغة الأم»، كما كتب ميشيل دوغي) لا بد أن تبقى المهمة ذات الاعتبار الأول في الكتابة بالنسبة للشاعر. إهداء لغة الآخر من خلال استضافتها في لغة الأنا، يجسد حركة دورانية، يؤدّيها الشاعر عبر مرحلتين : الأولى هي التي تتصل بعمله في مختبره، فتكون الترجمة آنذاك عملية عبور عمل شعري من لغة أجنبية إلى اللغة الأم؛ والثانية هي عندما يمارس الشاعر كتابة قصيدته الشخصية، فتنقُـل الكتابة إلى لغته الشخصية البذرة المُهلكة للأنا الواحدة، الملتئمة. 3. لذلك أقول إنني أترجم، ولكنني لست مترجماً. ميشيل دوغي وأنا شاعران مترجمان، ولسنا مترجمين. ثمة فرق نوعي في القيمة بين التسميتـيْن : «شاعر مترجم» و»مترجم». ذلك أن الشاعر، المدفوع نحو الترجمة بشرط الدخول في حوار مع شعراء أساتذة ومع أعمالهم في لغاتها، يختار النصوص التي يترجمها، ولا يجعل من الترجمة حرفة أو مهنة. من هنا يتخلى الشاعر عن واجب القيام بعمل الترجمة لكي يكرس، بدلاً من ذلك، نفسه وجهده للكتابة وما تفرضه من إلزام. الترجمة، في شرط كهذا، كتابة. إنها فعل سياسي خطير. فعل يؤدي، في الوقت ذاته، إلى مضاعفة حدّة مسؤولية الصلة مع الآخر من جهة، وتحرير لغة الأنا مما يمنع عنها، في النص وفي اللغة، كلّ خطر كما يتمثل في الحادثة، وفي المستحيل واللانهائي، من جهة ثانية. سياسة الترجمة هاته، التي يمارسها شاعرُ زمننا، هي أثر الحداثة التي تزعج الحدود وترجّ الهويات. لقد خلصتُ، أثناء المراحل الأولى التي قضيتها في تعلم كتابة القصيدة، إلى أن الترجمة من الفرنسية إلى العربية تفرض عليّ نفسها. وكان درس ميشيل دوغي هو أن ترجمة الشعر، من طرف الشعراء المترجمين، علامة على تقليد شعري غربي، يجب عليّ أن أتبعه. كنت آنذاك استوعبْتُ أن الشعر لغة أخرى. أيْ أن الشعر لغة تقضي على اللغة أن تفلت من قبضة الهُوية، وأن تصبح غريبة، وتظل على الدوام غريبة. فالغـرابة (أو الغيْـرية) التي تتم مُمارستها في القصيدة من دون شروط، هي الشعر في تعريفه الحديث. إنها الغرابة التي تضع اللغة في مقدمة المسرح، بما هي فضاء للصلة التي تعني الحوار مع الآخر. لأن الحوار، كما كتب هانس جورج غادامر، «ذو قوة مُحوّلة» ، أو هو «قريبٌ على الخصوص من الصداقة». انطلاقاً من هذا الموقف، الذي أصبحتُ أتشبثُ به، أدركتُ الأساسي في القصيدة العربية في زمننا الحديث. إنها قصيدة تغذّت من الترجمة. بفعل الترجمة أنجز الشعر العربي الحديث ثورته وهو على عتبة التقليد الشعري الموروث، الذي كان يرفض انفتاح اللغة العربية على العالم الحديث وعلى لغاته والقيم التي تحملها الأعمال الأدبية المكتوبة بها. لا شيء يفاجئ في واقع كهذا. فالقصيدة العربية الحديثة، التي تستولي على النفوس بأشكالها الجديدة وبلغاتها، تزعج الأنظمة الضاغطة قسراً على التفكير والحساسية، منعاً لهما من التحرر من سجن الضوابط المتعارف عليها. وكتابتي تمارس بدورها التأملَ المستمرَّ في وضعية اللغة العربية، في حياتنا وفي علاقتنا مع الآخر، بما هو التأمل شرط لازم لشعرية تقوم على ما هو حر، منفتح ومشترك. عن طريق هذا التأمل ترسّخت علاقتي بميشيل دوغي وتكاملي مع شعـريته لا يتوقف عن التجدّد. 4. أخذ شعر ميشيل دوغي يخترق عتبة اللغة العربية في السنوات الأخيرة. بعض من قصائده تمت ترجمته من طرف الشاعر اللبناني هنري فريد صعب، وتلته قصائد أخرى وقع ترجمتها بمناسبة الزيارة التي قام بها ميشيل دوغي إلى بيروت. مشروعي ذو غاية أبعد. فهو يطمح إلى ترجمة مختارات شعرية موسعة، تكريماً له كأحد الشعراء الفرنسيين الكبار في العقود الأخيرة، وتكريماً للشاعر المترجم، صاحب التجربة الطويلة في ترجمة الشعر. فالعمل على تحقيق عبور شعر ميشيل دوغي إلى اللغة العربية إشارة إلى الضيافة التي تخص اللغة العربية بها الأعمال المكتوبة باللغة الفرنسية، وبلغات العالم ككل. ثم إن هذا المشروع يندرج ضمن ما أصدرته حتى الآن من ترجمات لكتب مجموعة من المؤلفين، هم : عبد الكبير الخطيبي، برنار نويل، عبد الوهاب المؤدب، ستيفان ملارمي، جورج باطاي، وجاك آنصي. وما يمثله هذا المنظور إلى الترجمة الذي أسير وفقه ذو دلالة. إن ترجمة مؤلفين فرنسيين يفتح الطريق نحو الحوار بين شعريتيْـنا وثقافتيْـنا، العربية والفرنسية، في اللغة والقصيدة على السواء. وإذا كانت الترجمة رهانَ زمننا ضد التعصب والتزمت والانغلاق، فإن هذا الرهان يتجلى أكثر في ترجمة الشعر، بما هو تجربة قصوى للغة وفيها. شرعتُ منذ عدة شهور في العمل على ترجمة شعر ميشيل دوغي. وبعد قراءات متكررة لمجموع الدواوين، وصلت إلى انتقاء عيّنة أولية. تلك منهجيتي في العمل على الترجمة. يرمي انتقاء هذه العينة من القصائد إلى استكشاف ما يمثل أقصى الحالات التي توجد عليها القصائد لديه : الممكن في الترجمة وما لا يمكن ترجمته؛ القابل للمقروئية وما ليس قابلاً لها؛ القصيدة القصيرة والقصيدة الطويلة؛ الشعر الحر، الشعر المرسل، قصيدة النثر؛ أو الاستعمالات المختلفة لعناصر المعجم والإيقاع والتركيب. استكشاف أرض فريدة، تشكلت تضاريسها في مدة تزيد عن نصف قرن. لكن هذه الخطوة الأولى للدخول في علاقة مع القصيدة يتطلب الانتقال إلى الأساسي في الترجمة، وهو الذي يؤدي إلى نسيان ما له طابع تقني، خارجي، من أجل الوصول إلى ربط العلاقة مع القصيدة في خصيصتها الجسدية. 5. تتكون عينة القصائد مما تم انتقاؤه بالاعتماد أولاً على أنطولوجيتين للشاعر، هما «أعطني أعطك» (قصائد 1960ـ 1980)؛ الصادرة ضمن سلسلة الشعر لدى دار غاليمار للنشر؛ تليها « كما لو ـ هكذا» (قصائد 1980ـ 2007) الصادرة ضمن السلسلة ذاتها؛ ثم ديوان «لوْ لم يكن له قلب» الصادر سنة 2011 عن دار غاليلي. وأضيف إليها قصيدة «نثر الكفن» في رثاء الشاعر عبد الوهاب المؤدب، الصادرة سنة 2015 ضمن كتاب يحمل نفس العنوان عن دار المنار بباريس. ويمكن، من خلال هذه العينة، تلخيص خصائص شعرية ميشيل دوغي في النقاط التالية : 1. لغة متعددة : تجرؤ القصائد، في مختلف صياغاتها وأشكالها، على استعمال معجم مستقى من لغات متعددة : فلسفية، بلاغية، علمية، فنية، كما أنها تلمّ بالطبيعة والدين والأسطورة والحضارة. تركيب معجمي هو في الوقت نفسه غير متوقع ومدهـش. ويتكفل الإيقاع بمحو الحدود بين المعارف، يبرز اللغات والتفاعل بينها، يثير الحساسية ويصعّد درجة الانتباه إلى العالم المركب للغات في شكل نسيج لا يخطر لا البال. 2. قصيدة في حالة صيرورة: ثمة قوة داخلية تخترق القصيدة وتترك الحركة دائمة. لا شيء تكشف عنه القصيدة قـبْلياً. فالحركة التي تتحكّم في القصيدة تترك بناءها على الدوام في وضعية الممكن. حركة تفتح للقصيدة الحدود وتوسع حقل إنتاج المعنى. والقارئ مدعوٌّ، في هذه الحالة، لمواجهة الممكن في طريقة بناء الشكل الذي يسائل تاريخ القصيدة (الغربية) ويضاعف من عطش الوصول إلى القدرة على تمييز حدود البناء. 3. كتابةٌ معرّضةٌ للمستحيل: بعيداً عن الراحة والوهَـن، بما هما يعبران عن البديهيّ والمؤكَّد والمطمئن، تغامر القصيدة بمخاطرة العثور على نفسها وجهاً لوجه مع الغامض أو الهرمنوطيقي. لا تتراجع القصيدة أبداً لكي تترك المكان للكسل يهيمن على فضاء العلاقة مع اللغة أو مع القارئ. فالمجهود المبدع، الذي يبذله الشاعر ليذهب إلى ما هو أبعد من البعيد، نحسُّه كطاقة، تتحول إلى شكل من أشكال الخطر أو الكارثة. 4. تساؤل عن الجميل: النظرة التي تلقيها القصيدة على الجميل تبذر الشكوك في القيم المتوارثة. فهي تضع قيَم زمننا موضع تساؤل لا مجاملة فيه، يمتد من الفلسفي إلى الشعري. ويضع الشاعر، عن طريق اللغة، جسراً بين الفلسفي والشعري. على هذا النحو يعيد إحياء تساؤل الفلسفة، كما لو أن القصيدة كانت تفـتح علاقة جديدة مع العالم في لحظة ربما أصبح فيها عهد الشعراء (والشعر) «مُغلـقاً»، تبعاً للرأي الذي هو اليوم شائع. 5. إعادة كتابة لا تنتهي للحياة : غالباً ما يجعلنا الشاعر ميشيل دوغي نرى الحياة التي لا تنتهي أبداً بفعل إعادة الكتابة. فلكي نحيا الحياة نكون بحاجة إلى عمل الشاعر، الذي يتشبث بإعادة الكتابة كمبدأ من مبادئ الحياة. إنه فعل نيتشوي بامتياز. يعطي القصيدة الطاقة على أن تبقى ضرورية لنحيا الحياة. فإعادة الكتابة، التي تمارسها القصيدة ليست، في هذه الرؤية، حشواً. إنها قوة مبدعة تعثر بواسطتها الحياةُ مجدداً على معنى استمرارها في إنتاج المتعة والنشوة. 6. لكن هناك جسدية القصيدة. لا بد من الانتباه إلى ما يتعدى الخارجي في القصيدة، المعروض في حدود المعارف الأولية، التي لا بد مع ذلك من مراعاتها في القراءة. فقسْطُ النفَس في اللغة يتطلب من المترجم أن ينصت إلى الذبذبات التي لا تتوقف في القصيدة، أو إلى «الديمومة الصافية» كما يعبر عنها هنري برغسون. المترجم، في هذه اللحظة من العلاقة مع القصيدة، يفتح لغته على أقصى إمكانياتها حتى يهيئها لاستقبال الغريب، الذي يعني، في العربية، كما جاء في لسان العرب، «البعيد عن وطنه، الذي ليس من القوم، الغامض من الكلام». علمتني تجربتي في الترجمة قيَم الصلة، التي تنبثق عن العمل غير المنقطع على جسد قصيدة الآخر. وهي الصلة ذاتها التي تقودني، في هذه المغامرة الجميلة، نحو تجديد الحوار مع الحميمية التي أتقاسمها مع ميشيل دوغي. لا وجود للصلة إلا في اللغة. وخصائص شعرية ميشيل دوغي، التي استخلصتها من قصائده، تدعوني إلى معالجتها في أوضاعها المختلفة. وهي تفيد مجموعة من العمليات، منها الاستعانة بالمعاجم، في اللغتين معاً، الفرنسية والعربية. على أن ثمة بعض المصطلحات التي تتعلق بالعلوم المختلفة لا توجد بعد ترجمات لها في المعاجم العربية التي استعنت بها. وهناك جانب موسيقية الكلمات والتراكيب، إذ أن العربية لغة منسابة وموسيقية، فيما الفرنسية لغة عقلانية وصارمة. ومن أجل الوصول إلى غاية تحقيق العبور والحوار، يبقى من اللازم العملُ على اختيار كلمات وعلى بناء تراكيب بما لا يمثل أيّ عنف على اللغتين في آن. ثم هناك، إلى جانب ذلك، حرص على إدراك صعوبات بناء الجملة، أو البحث أحياناً عن إمكانيات تجاوز الكلمات المستقلة عن السياق، وهي متوافرة بكثرة في قصائد ميشيل دوغي. 7. الإشارة إلى هذا الجانب العملي، أو التقني، في الترجمة، مقصودة للتدليل على ما يمثله البحث عن الإمكانيات القصوى التي يتطلبها شعر ميشيل دوغي. أعني أن الإمكانيات التي يفتحها التفاعل الموجود في شعره بين الشعر والفلسفة، بين الشعر الفرنسي وشعر العالم، أو، أكثر من ذلك، بين شعرية مبنية في لغة شعرية ولغة مألوفة، تجعلني أحس بالمتعة في العمل على ترجمة هذا الشعر إلى لغتي الشعرية التي أعامل فيها لغتي العربية باعتبارها لغة ربط الصلة، لغة الانفتاح على إمكانيات أخرى ليست من إمكانياتها للكتابة والتعبـير. وبعد الانتهاء من معالجة الجوانب التقنية التي تفرضها الترجمة، يبدأ العمل على جسدية القصيدة. عندها تشتغل اليد التشطيب، المحو، إعادة الكتابة، الانتظار، التساؤل، الاختيار. فهذه الخطوات الصعبة في العمل على الترجمة تهدف إلى الالتزام بالوفاء للأصل، من دون شعور بأي ندم على ما يحصل من حوادث على طريق الترجمة. تلك الحوادث من طبيعتها، ومنها نعود من جديد، ونستأنف الترجمة. بهذا يكون الحوار مع شعرية ميشيل دوغي اختياراً للصلة مع شاعر لا يتوقف عن إرجاع القصيدة إلى سؤالها الأول الذي يستمر، في زمن مضاد للشعر مثلما هو مضاد للسؤال. خصائص شعرية ميشيل دوغي 1. لغة متعددة: مستقاة من معاجم فلسفية، بلاغية، علمية، فنية، تلمّ بالطبيعة والدين والأسطورة والحضارة. 2. قصيدة في حالة صيرورة: ثمة قوة داخلية تخترق القصيدة وتترك الحركة دائمة. حركة تفتح للقصيدة الحدود وتوسع حقل إنتاج المعنى. 3. كتابةٌ معرّضةٌ للمستحيل: بعيداً عن الراحة والوهَـن، تغامر القصيدة بمخاطرة العثور على نفسها وجهاً لوجه مع الغامض أو الهرمنوطيقي. 4. تساؤل عن الجميل: النظرة التي تلقيها القصيدة على الجميل تبذر الشكوك في القيم المتوارثة. فهي تضع قيَم زمننا موضع تساؤل لا مجاملة فيه، يمتد من الفلسفي إلى الشعري. 5. إعادة كتابة لا تنتهي للحياة: غالباً ما يجعلنا الشاعر ميشيل دوغي نرى الحياة التي لا تنتهي أبداً بفعل إعادة الكتابة. فلكي نحيا الحياة نكون بحاجة إلى عمل الشاعر، الذي يتشبث بإعادة الكتابة كمبدإ من مبادئ الحياة. إنه فعل نيتشوي بامتياز. يعطي القصيدة الطاقة على أن تبقى ضرورية لنحيا الحياة. غايات أبعد أخذ شعر ميشيل دوغي يخترق عتبة اللغة العربية في السنوات الأخيرة. بعض من قصائده تمت ترجمته من طرف الشاعر اللبناني هنري فريد صعب، وتلته قصائد أخرى وقع ترجمتها بمناسبة الزيارة التي قام بها إلى بيروت. مشروعي ذو غاية أبعد. فهو يطمح إلى ترجمة مختارات شعرية موسعة، تكريماً له كأحد الشعراء الفرنسيين الكبار في العقود الأخيرة، وتكريماً للشاعر المترجم، صاحب التجربة الطويلة في ترجمة الشعر. فالعمل على تحقيق عبور شعر ميشيل دوغي إلى اللغة العربية، إشارة إلى الضيافة التي تخص اللغة العربية بها الأعمال المكتوبة باللغة الفرنسية، وبلغات العالم ككل. ثم إن هذا المشروع يندرج ضمن ما أصدرته حتى الآن من ترجمات لكتب مجموعة من المؤلفين، هم: عبد الكبير الخطيبي، برنار نويل، عبد الوهاب المؤدب، ستيفان ملارمي، جورج باطاي، وجاك آنصي. وما يمثله هذا المنظور إلى الترجمة الذي أسير وفقه ذو دلالة. إن ترجمة مؤلفين فرنسيين يفتح الطريق نحو الحوار بين شعريتيْـنا وثقافتيْـنا، العربية والفرنسية، في اللغة والقصيدة على السواء. وإذا كانت الترجمة رهانَ زمننا ضد التعصب والتزمت والانغلاق، فإن هذا الرهان يتجلى أكثر في ترجمة الشعر، بما هو تجربة قصوى للغة وفيها. فعل سياسي خطير لذلك أقول إنني أترجم، ولكنني لست مترجماً. ميشيل دوغي وأنا شاعران مترجمان، ولسنا مترجمين. ثمة فرق نوعي في القيمة بين التسميتـيْن: «شاعر مترجم» و«مترجم». ذلك أن الشاعر، المدفوع نحو الترجمة بشرط الدخول في حوار مع شعراء أساتذة ومع أعمالهم في لغاتها، يختار النصوص التي يترجمها، ولا يجعل من الترجمة حرفة أو مهنة. من هنا يتخلى الشاعر عن واجب القيام بعمل الترجمة لكي يكرس، بدلاً من ذلك، نفسه وجهده للكتابة وما تفرضه من إلزام. الترجمة، في شرط كهذا، كتابة. إنها فعل سياسي خطير. فعل يؤدي، في الوقت ذاته، إلى مضاعفة حدّة مسؤولية الصلة مع الآخر من جهة، وتحرير لغة الأنا مما يمنع عنها، في النص وفي اللغة، كلّ خطر كما يتمثل في الحادثة، وفي المستحيل واللانهائي، من جهة ثانية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©