الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التواصل.. وسؤال التعدّديَّة

التواصل.. وسؤال التعدّديَّة
21 مارس 2017 22:35
يمثل التواصل، بكل مستنداته وآلياته، اكتشافًا تقنيًا وثقافيًا كبيرًا في القرن العشرين، و(قطبًا جاذبًا) لا يكف عن التجدد من خلال إظهار وتقديم مختلف أشكال حضور الإنسان، والمجتمع، وتعبيرات الثقافة. وبقدر ما يجسد هذا التواصل العلامات المتنوعة للسلطة في مفصلاتها السياسية والاقتصادية، فإنه مطالب في نفس الآن، بالتجدد الدائم بسبب التحديات التكنولوجية والسياسية والثقافية والبشرية التي تمس، في كثير من الأحيان، الأسس المكونة له. ولذلك فهو يتحرك داخل مناخات معقدة لأنه في جوهره متعدد الأبعاد. فقد يظهر أنه قادر على فعل كل شيء، وأحيانا بطرق مبالغ فيها، ولكنه يواجه في كل مرة تحديات متنوعة قد تعطله عن مواكبة المستجدات وإبراز ما يعتمل في المجتمع من أسئلة وقضايا. وأمام الرهانات المتنوعة التي يفرضها الإعلام والاتصال السمعي البصري، مثلا، على أصحاب القرار وعلى المتعهدين وحتى على الجمهور، لا مناص من استحضار بعض الأسئلة الكبرى التي صاغها “دومنيك فولتون” في كتابه (التفكير في التواصل): «ما هو الشرط الكفيل بإنقاذ البعد الرائع للتواصل، أحد أجمل الأبعاد التي أبدعها الإنسان الذي من خلاله يتشوَّف إلى الدخول في علاقة مع الآخر والتبادل معه، حين نعلم بأن كل شيء في التواصل ينحو، على العكس من ذلك، في اتجاه المصالح؟ كيف يمكن إنقاذ البعد الإنساني للتواصل في الوقت الذي يسيطر فيه البعد الأداتي؟ ما هي العلاقة الموجودة بين مثال التواصل الذي يتخطى العصور والحضارات لدرجة تحول معها التواصل إلى أحد الرموز الأكثر قوة للإنسانية، وللمصالح وللإيديولوجيات» (1). من البدهي القول إنه ليس هناك إعلام أو تواصل في ذاته، أو بثّ في ذاته، لأن العدة التواصلية، كيفما كانت طبيعتها وخصوصيتها التقنية والبشرية، مرتبطة بنموذج ثقافي ما. ليس بث رسالة ما فعل بث بسيط، بل يتعلق الأمر بإرادة إنتاج أثر أو خلق تفاعل معين، كما أنه يمكن أن يكثف روايات ثقافة وقضايا مجتمع. صعوبات التواصل إذا كان التواصل، أثبت، ويثبت يوميًا، صدقية فكرة (مارشال ماكلوهان) حول (القرية الكونية)، من الناحية التقنية، فإنه يظهر في نفس الآن، بل ويؤكد على أن هذه القرية غير قادرة على اكتساب بعدها الكوني على المستويات الثقافية والتاريخية في كل الحالات، إذ تُشخص وضعية بعض البلدان التباين الكبير ما بين الطابع العالمي للتقنيات، وقدرتها على استجلابها وعلى استعمالها النسبي، وما بين صعوبات التواصل الظاهرة للعيان مع جمهورها، وحتى على صعيد تموقعها الإعلامي الإقليمي والدولي. وهي مفارقة تزداد استفحالًا في خضم التنافس الكبير الذي تفرضه مواقع التواصل الاجتماعي. وسيكون من قبيل تحصيل الحاصل القول إن وسائط الاتصال، والتلفزيون بالخصوص، تمثل فضاءات تكثف داخلها الرهانات الهوياتية لمجتمع ما. ذلك أن العُدّة التواصلية وآلياتها تخلخل البنيات الذهنية والمرجعيات الثقافية والحساسيات الجمالية بشكل عميق. فالتلفزيون، مثلا، يسمح لذاته بكل شيء. يمكنه أن يُظهر، ويكشف. يُقرّب كما يمكنه أن يخفي، وأن يحجب بل ويشوش على التبادل. إنه آلة متعددة الأبعاد ووساطة تحوز أهمية (استراتيجية) في صياغة انتظارات، وأشكال العجز، والحرمان، وإرادة شعب أو جماعة معينة. يمثل التلفزيون مادة حية، تبتكر ذاتها يومياً. وبفضلها يتمكن المجتمع، بمختلف شرائحه وأنواع جمهوره، من الترفيه عن ذاته، ومن مواجهتها والتأمل فيها، ونقدها. إذا ما كان العرض السمعي البصري يتحرك داخل ثقافة تمتلك ما يلزم من الحرية وممارسة المحاسبة والنقد الذاتي. وتحوَّل التلفزيون إلى مُقوم من مقومات الجسم الاجتماعي والحياة الحميمية، بل وإلى أداة جمعية يمكنها خلق المتعة، أو الخوف أو رصد الواقع، أو استنفار المتخيل، أو الاشتغال على الهوية، أو تقديم مختلف تعبيرات التنوع الثقافي، ومكونات التعددية، كما يمكن أن يكون وسيلة لطمس التعددية أو تشويهها. لذلك نؤكد القول إنه لا وجود لتواصل سمعي بصري في ذاته أو تحركه نوايا ملائكية، بحكم أن مكونات هذا التواصل والسلطة المتحكمة فيه تستند بكيفية ما إلى نموذج ثقافي وإلى أجندة سياسية. ولهذا تشكل التعددية رهاناً حاسماً في المجتمع الديمقراطي أو في ذلك الذي يتطلع إلى استنبات قيمه. فالتعددية، في العمق، هي أساس النظام الديمقراطي. وتكشف أساليب وأنماط تدبيرها عن درجة الوعي الفكري، السياسي والمؤسسي الذي تحمِله النخب الثقافية والسياسية والإعلامية المسؤولة عن تسيير الشأن العام، أو التي تطمح في تحمل عبئ تسييره. إدارة خطاب التعددية لكن هل نملك ما يلزم من المسافة لفهم دلالات ما ينتج من خطابات حول التعددية، وغيرها، وما يترجم على الأرض من ممارسات، ورصد مؤشرات جديرة بمطابقة الشعارات والبشائر لمقتضيات إعادة بناء المجال السياسي على أسس من الفكر الديمقراطي العصري؟ أطرح هذا السؤال بهذه الصيغة الحاملة لبعض الشك لأن الخروج من التسلطية إلى الديمقراطية يستلزم الخروج من دائرة الدعاية ومن هيمنة الرواية الواحدة للأحداث، والمجتمع، والسياسة والثقافة إلى تبني المعالجة التعددية للأخبار والوقائع. ذلك أن الديمقراطية هي في جوهرها، أولا وقبل كل شيء، ترجمة لنمط من التفكير ومنظومة قيم، وأخلاقيات للمناقشة والمنافسة والتبادل. لذلك يدافع كثير من الناس، فلسفيًا وسياسياً، عن مبدأ التعددية بوصفه شرطًا مؤسّساً للديمقراطية. ولكن هل يكفي الدفاع عن هذا المبدأ في المطلق وبالخصوص في مجال الإعلام والتواصل؟ صحيح أن مسألة التعددية تمثل أحد أسس الحق في الإعلام، وبأنه بالإضافة إلى حمولتها المعيارية، تصاحب المسار التطوري لممارسة حرية الاتصال والتواصل، وبأنها تشكل معياراً حاسماً في قياس حرية الفكر. لكن كيف يمكن تحديد تيارات تمتلك ما يلزم من المسوغات لنعتها بأنها تمثل اختلافات؟ إلى أي حد يمكن الذهاب في الاعتراف بالاختلافات والقبول بتعددية من دون معالم وبدون حدود؟ أم أن الأمر يستلزم احترام درجة ما من التمثيلية؟ تكتسب هذه الأسئلة مشروعيتها حين نعلم بأن هناك مشاكل عديدة تواجه عملية التصريف المؤسسي والسياسي والإعلامي لمبدأ التعددية. ولا يكفي القول إزاء هذه الصعوبات بأن المهم هو مراعاة مبدأي الإنصاف أو المساواة. والإمكانيات المتجددة أو التي يتعين العمل على خلقها لبناء (ثقافة عمومية) تستند إلى قيم أو معايير لصياغة (مجال عمومي) قادر على إغناء وحماية هذه القيم من خلال المناقشة الجماعية، وأخذ الكلمة، ومواجهة الحجة بالحجة. بل إن الأمر يزداد تعقدا حين تواجه الممارسة التواصلية، ولاسيما السمعية البصرية، تحديًا آخر جديداً ومثيراً في نفس الآن، والمتمثل في الثورة الرقمية الكاسحة، بحكم أنها خلخلت، وما تزل تخلخل يوماً بعد يوم، مفهوم (المجال العمومي) بالمعنى الذي اعتاد الناس ربطه بالتعددية والديمقراطية. وهو ما يحير، الآن، رجال القانون والسياسة، إذ حتى وإن وفَّرنا الشروط القانونية، والمؤسسية، والسياسية والإعلامية لتدبير التعددية في المجال السمعي البصري، فإن متعهدي هذا المجال، وحتى مؤسسات الضبط تجد نفسها حائرة، بدرجات متفاوتة، في طرق التعامل مع هذا التحدي الجديد. صحيح أن جل وسائل الإعلام والاتصال السمعي البصري فتحت صفحات لها في المواقع الاجتماعية، بل وحصل في بعض الحالات نوع من التكامل بين المواد التي تبثها بعض هذه المواقع وبين برامج تلفزية والعكس كذلك. لكن مع ذلك حصل تحويل (جزئي) لطرق أخذ الكلمة والتعبير عن تيارات الفكر والرأي. دمقرطة التواصل والمؤكد أن إحدى القضايا المتجددة التي يطرحها تدبير التعددية في التواصل السمعي البصري على الديمقراطية يتمثل في التوسع التدريجي لمجالها، إذ إن مسار الديمقراطية يتطلب إدماج جماعات أو شرائح متنوعة في الحياة السياسية، بل وأحيانا مواطنين يستعملون وسائل جديدة للتعبير عن آرائهم ومطالبهم. ومن بينها الوسائل الرقمية الجديدة. وهذا ما يطرح على التواصل السياسي مهمة تجديد وسائل احتضان وتسيير تيارات الفكر والرأي. ذلك أن الإنترنت يتقدم باعتباره أداة لا محيد عنها في التواصل الحالي والمستقبلي، كما يحمل في ذاته بعداً شبه أسطوري، لحد الآن، يقترن بادعاءات عن (الديمقراطية الإلكترونية)، سيما حين ترتبط بالاختيارات الجديدة حول الديمقراطية بالمشاركة بوصفها بديلا للديمقراطية التمثيلية. وهي ممارسات بدأت تتوسع بشكل لافت، وتفتح المجال لعدد كبير من مستعملي هذه الأداة للتعبير عن آرائهم واختياراتهم. غير أن هذه الثورة تطرح سؤالا كبيراً على العقل التواصلي والسياسي. ذلك أنه إذا كانت الديمقراطية ترتكز على منظومة إعلامية تميزها، فإن نمط تداول وتبادل المعلومات مرتبطان بنمط اشتغال هذه المنظومة، علما بأن الديمقراطية تقوم، من بين ما تقوم به، بإنتاج ومعالجة المعلومات ونشرها بالطرق الأكثر قدرة على الوصول إلى أكبر عدد ممكن. ومن المؤكد أن الإنترنت، في سياق انتشاره وتوسّعه، وبسبب ما يمتلكه من إمكانات، يساعد لا محالة على توصيل المعلومة. وحتى وإن شكل مجالًا للحرية يتخطى الحدود والمعايير الكلاسيكية للضبط، فقد أثبت قدرة على التعبئة الجماعية وعلى إنتاج روابط اجتماعية جديدة. ومن المعلوم أن خبراء التواصل السياسي أدمجوا الإنترنت، منذ مدة ليست قصيرة، كأداة في تخطيط وتصور وتنفيذ استراتيجيات الفعل التواصلي والتنافس السياسي، خصوصاً وأن ما ينعت بـ (الديمقراطية الإلكترونية) باعتبارها تعيد النظر في الأساليب الكلاسيكية للتأثير أو تعززها لتسمح لشرائح واسعة من الناس، ومن بينهم الشباب، بالمشاركة في المناقشة وإبداء الرأي انطلاقاً من المستويات المحلية إلى القضايا الوطنية. بل ويذهب البعض إلى اعتبار أن أفضل وسيلة لتصحيح أو تعويض نقائص الديمقراطية تتمثل في توسيع مجال الديمقراطية من خلال (الديمقراطية بالمشاركة) التي أصبح للإنترنت فيها دور كبير. غير أن الحماس الزائد للإنترنت ودوره في تشجيع المشاركة لا يجب أن يخفي سؤال التمثيلية مهما كانت قوة هذه الأداة التواصلية وقدرتها على خلق (رأي عام) افتراضي، أو فاعل في المناقشة الديمقراطية. لأنه لا يمكن، بأي حال وفي الظروف الراهنة، تعويض الآليات التمثيلية أو ادعاء تقديم بدائل عنها، أو تغيير مرتكزات السلطة. يمكن أن تشكل مواقع التواصل الاجتماعي سلطة مضادة، أو فضاءات للجهر بالأفكار والمواقف ومن دون حدود، ولكن خارج التوهم بإنتاج مجال عمومي بديل يحل محل الإطار المؤسسي الديمقراطي التقليدي، المتعارف عليه. وسواء كانت الديمقراطية محلية، بالمشاركة أو إلكترونية، أو تم استعمال وسائل الاتصال الكلاسيكية أو الرقمية أو هما معاً، فإن أهم عامل في (الديمقراطية التواصلية) يتمثل في: الإعلام، والاستشارة، والمشاركة، والتعددية في إطار علاقات تتفاوت طبيعتها وقوتها حسب السياقات السياسية الخاصة، بين المواطنين وأصحاب القرار. من المؤكد أنه لا يمكن تصور ديمقراطية فعلية من دون مرجعية معيارية واضحة، وممارسة فعلية من طرف كل من يتحمل مسؤولية الإخبار، سيما في عالم تواصلي تهيمن عليه ما يسميه نعوم تشومسكي بـ (الدعاية المعممة). فمهمة الإخبار (مهمة خاصة)، وليست وظيفة تشبه الوظائف الأخرى، لأن من يقوم بها، كما هو الشأن بالنسبة للتعليم والطب، قد يصل به التعلق بها إلى مستوى الشغف، بمعنى أن حاملها لا يتوقع ربحاً أو ثروة سريعة. لكنه يعرف أنه بإنجازه لهذا الواجب، وبوعي وضمن شروط عامة ملائمة نسبيا، يساهم، بطريقته، في تعميق وتطوير الثقافة الديمقراطية. يتمثل درس التواصل والتعددية في السؤال والمساءلة ومواجهة الحجة بالحجة، كما يَفترض تصحيحات وإضافات ومراجعات، وتغيرات في أفق النظر وطرق العمل. فليست هناك حقيقة نهائية. لذلك فالتعددية والمناقشة العمومية ضروريَّتان لتفادي المواقف الحدّية، والمانويَّة بل والمتطرفة. بل إن التعددية ممارسة تتنافى مع التطرف بقدر ما تستبعده. الطريق الى الديمقراطية الخروج من التسلطية إلى الديمقراطية يستلزم الخروج من دائرة الدعاية ومن هيمنة الرواية الواحدة للأحداث، والمجتمع، والسياسة والثقافة إلى تبني المعالجة التعددية للأخبار والوقائع. ذلك أن الديمقراطية هي في جوهرها، أولا وقبل كل شيء، ترجمة لنمط من التفكير ومنظومة قيم، وأخلاقيات للمناقشة والمنافسة والتبادل. لذلك يدافع كثير من الناس، فلسفيًا وسياسياً، عن مبدأ التعددية بوصفه شرطاً مؤسّساً للديمقراطية. مهمة خاصة لا يمكن تصور ديمقراطية فعلية من دون مرجعية معيارية واضحة، وممارسة فعلية من طرف كل من يتحمل مسؤولية الإخبار، سيما في عالم تواصلي تهيمن عليه ما يسميه «نعوم تشومسكي» بـ «الدعاية المعممة». فمهمة الإخبار «مهمة خاصة»، وليست وظيفة تشبه الوظائف الأخرى، لأن من يقوم بها، كما هو الشأن بالنسبة للتعليم والطب، قد يصل به التعلق بها إلى مستوى الشغف، بمعنى أن حاملها لا يتوقع ربحا أو ثروة سريعة. لكنه يعرف أنه بإنجازه لهذا الواجب، وبوعي وضمن شروط عامة ملائمة نسبيا، يساهم، بطريقته، في تعميق وتطوير الثقافة الديمقراطية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©